تاريخ الذل ومستقبل كرامة الإنسان

تاريخ الذل ومستقبل كرامة الإنسان

الذل هو أكثر من شعور فردي وذاتي. إنه أداة للسلطة السياسية التي تستخدمه بقصدية. في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي استخدمت المحاكمات الصورية السوفييتية كل الوسائل لإهانة أي شخص عدَّه ستالين خصمًا محتملًا. نسخت الاشتراكية القومية هذه الممارسة كلما قدمت «أعداء الشعب» للمحاكمة. في شوارع فيينا في 1938م أجبر المسؤولون اليهودَ على الركوع على الرصيف وإزالة الشعارات المعادية للنازية وسط سخرية الرجال والنساء والأطفال من غير اليهود. خلال الثورة الثقافية في الصين، بذل النشطاء الشباب قصارى جهدهم لإذلال كبار الموظفين بلا هوادة، وهي ممارسة شائعة حتى يومنا هذا لم تُوَبَّخ أو تُصَحَّح رسميًّا.

اعترضت الديمقراطيات الليبرالية، ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، على هذه الممارسات. نحب أن نعتقد أننا استأصلنا إلى حد بعيد مثل هذه الممارسات من مجتمعاتنا. بالمقارنة مع الأنظمة الشمولية في القرن العشرين قد يبدو هذا الاعتقاد مُبررًا. مع ذلك، ما زلنا بعيدين كل البعد من كوننا «مجتمعات لائقة» لا يهين أعضاؤها ومؤسساتها الناس، على حد تعبير الفيلسوف أفيشاي مارغاليت، بل يحترمون كرامتهم. على الرغم من أن بناء الطريق إلى اللياقة بدأ منذ نحو عام 1800م فإنه كان ولا يزال مرصوفًا بالعقبات والاستثناءات.

بدأت المعارضة الجماعية لسياسات الإذلال في أوربا منذ أوائل القرن التاسع عشر، حيث عارض أفراد الطبقة الدنيا بشكل متزايد المعاملة غير المحترمة. استخدم الخدم والعمال المهرة وعمال المصانع على حد سواء لغة الشرف ومفاهيم القيمة الذاتية الشخصية والاجتماعية التي كانت تحتكرها في السابق طبقة النبلاء والطبقة المتوسطة العليا للمطالبة بعدم تعرضهم للإهانات اللفظية والجسدية من جانب أصحاب العمل والمشرفين.

تمكَّن هذا التغيير الاجتماعي ودُعم عبر نوع جديد من الشرف الذي أعقب اختراع المواطنين (بدلًا من الرعايا) في مجتمعات التحول إلى الديمقراطية. كما كان يُنظر إلى المواطنين الذين يحملون حقوقًا وواجبات سياسية على أنهم يتمتعون بالشرف المدني. تقليديًّا، كان الشرف الاجتماعي مُقسمًا إلى طبقات وفقًا للمكانة والطبقة، لكن الشرف المدني يخص الآن كل مواطن، وهذا ساعد على رفع تقديرهم لذاتهم ووعيهم بأنفسهم. ومن ثم فإن الإذلال وغير ذلك من ضروب التظاهر بالدونية المزعومة للآخرين، لم يعد وسيلة مشروعة لممارسة السلطة على مواطنيها.

تاريخيًّا لم يكن بالإمكان الشعور بالإذلال -والاعتراض عليه- إلا مع دخول فكرة المواطنة المتساوية والكرامة الإنسانية في الخطاب والممارسة السياسيين. طالما أن المجتمع كان يؤيد فكرة أن بعض الأفراد متفوقون بشكل أساسي على الآخرين، فقد واجه الناس صعوبة في الشعور بالإهانة. ربما شعروا بأنهم عوملوا بطريقة غير عادلة وتمردوا. لكنهم لم يكونوا ليتصوروا أن هذه المعاملة مهينة في حد ذاتها. لا يمكن تجربة الإذلال إلا عندما يعدّ الضحايا أنفسهم على قدم المساواة مع الجاني، ليس من حيث القوة الفعلية، ولكن من حيث الحقوق والكرامة. يُفسر هذا تصاعد دعاوى التشهير في أوربا خلال القرن التاسع عشر: لقد عكست الإحساس الديمقراطي بالشرف في المجتمعات التي منحت حقوقًا متساوية ومأسستها بعد الثورة الفرنسية (حتى في البلدان التي لم تشهد ثورة).

يعمل تطور النظام القانوني في الدول الغربية كمعيار لهذه التطورات وكمشارك نشط فيها. منذ العصور الوسطى إلى أوائل القرن التاسع عشر، استُخدم العار العلني على نطاق واسع كعقوبة تكميلية للرجال والنساء المحكوم عيهم بسبب أفعال غير قانونية. أجبر المسؤولون المحليون المجرمين المُدانين على الوقوف والتعرض للتشهير (في إطار يقيد رؤوسهم وأذرعهم)، وضربهم في الأماكن العامة، ووسمهم «كيهم» في الحالات الخطيرة. عقوبات كهذه كانت تهدف إلى ترسيخ العار، ومن الناحية المثالية، إثارة مشاعر الندم لدى الجاني. لقد اتبعوا منطق الردع بقدر منطق الاستحسان العام. من خلال جعل الجمهور متواطئًا في العقوبة، ومن خلال عدم القيام بشيء لمنع الأشخاص من إهانة الجاني أو رميه بأشياء مثيرة للاشمئزاز على سبيل المثال، سعت السلطات إلى تأكيد وإعادة تأكيد النظام الأخلاقي الذي انتهكه الشخص المُعاقب.

لم يُنظر إلى التشهير، في هذه الحقبة الحديثة المبكرة، على أنه معادل للمفهوم المعاصر للإذلال، على النحو المنصوص عليه في الحقبة اللاحقة من التحرر وإرساء الديمقراطية والتحرير. في حين أن الإذلال سيُنتقد بسبب إنكار كرامة الناس الأصلية، كان يُنظر إلى التشهير بوصفه أداة شرعية لفرض القواعد الاجتماعية والمعايير الأخلاقية، خاصة في أيدي السلطات القانونية. كان العار موجهًا إلى المعتدين على أمل تشجيعهم على الامتناع عن ارتكاب المزيد من الأخطاء وبالتالي تمكينهم من الاندماج الاجتماعي مجددًا.

تحول دلالي حاسم

ومع ذلك، بدءًا من نحو عام 1800م حدث تحول دلالي وسياسي حاسم في أوربا. تعرضت عقوبات العار المطبقة علنًا لانتقادات متزايدة من رجال القانون وغيرهم من المفكرين. من بين الحجج العديدة ضد مثل هذه العقوبات برزت الكرامة الإنسانية بوصفها الأكثر مبدئية من الناحيتين الفلسفية والسياسية. كما أثبتت أنها الأكثر فاعلية حيث أقنعت أخيرًا العديد من الحكومات الأوربية بإلغاء التشهير والجلد العلني والوسم في ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر. أصبحت هذه الممارسات الآن «مُذلة»؛ لأنها تنتهك الحقوق المدنية الأساسية للشرف والكرامة.

لكن حقيقة أن المحاكم تخلّت عن التشهير العلني لا تعني اختفاء هذه الممارسات تمامًا. كانت طقوس التشهير جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الشعبية في جميع انحاء أوربا الحديثة المبكرة. الرجال والنساء الذين تصرفوا بطريقة أو أخرى ضد القواعد غير المكتوبة للمجتمع المحلي تعرضوا في كثير من الأحيان لأشكال جماعية من الإنذار. في إنجلترا أُجبرت النساء اللواتي أسأن معاملة أزواجهن على الذهاب فيما يُسمى  skimmington حيث يجلسن (بصحبة أزواجهن أحيانًا) على حمار بشكل عكسي ويُطاف بهن في الجوار بينما كان الجيران وسكان القرية الآخرون يسخرون منهن. غالبًا ما أُجبر أولئك الذين لم يكن سلوكهم السياسي أو الجنسي أو الاجتماعي متزامنًا مع الأعراف الشعبية على المشاركة في charivaris (نوع من موكب صوري) مصحوبًا «أي الموكب» بقرع الأواني والمقالي وأشكال أخرى من «الموسيقا الخشنة» التي يصدرها المتفرجون.

ظلت ظاهرة تشهير الأنداد بالأنداد عنصرًا أساسيًّا في العصر الحديث، على الرغم من أن السلطات حاولت قمع الممارسات التي تهدد احتكارها للاستخدام المشروع للقوة الفعلية. في عشرينيات القرن التاسع عشر في مدينة بريستول الإنجليزية ربط بناة السفن «مفسدي الإضراب» (الأشخاص الذين استمروا في العمل في تحدٍّ لإضراب العمال) بسارية، وجرّوهم حول المدينة. في العشرينيات من القرن الماضي، أقام عمال المناجم الألمان أوتاد تشهير لعرض أسماء مفسدي الإضراب.

في أعقاب الحرب العالمية الثانية استهدف الغوغاء المحليون النساء بطريقة معينة. بعد الحرب أهان الغوغاء إهانة علنية لعشرات الآلاف من النساء اللواتي كن قد أقمن علاقات حب مع الجنود الألمان في أثناء الاحتلال: حلقوا شعرهن وطافوا بهن في الشوارع بينما كان المتفرجون يهللون ويصفقون بأيديهم. في أواخر سبعينيات القرن الماضي استخدم العمال الإيطاليون الموسيقا الخشنة ومواكب التشهير لإذلال رؤسائهم ومشرفيهم بسبب سوء الإدارة. حتى في عام 1971م في أثناء اضطرابات إيرلندا الشمالية تعرضت النسوة الكاثوليكيات اللاتي واعدن جنودًا بريطانيين لخطر التقييد بمصابيح الشارع وقص شعرهن وتشويههن وتمييزهن بالريش. في زمن السلم أيضًا ظلت طقوس التشهير شائعة خلال القرن الماضي حتى هذا القرن. على الرغم من أن الأنظمة القانونية الأوربية امتنعت منذ مدة طويلة عن فرض عقوبات العار فإن المؤسسات التي تسيطر عليها الدولة، مثل المدارس والمستشفيات والشرطة والجيش، استمرت في استخدام مثل هذه الإستراتيجيات بشكل علني ومتعمد من أجل تحقيق الامتثال وتثبيط المواقف المختلة ظاهريًّا.

منذ الستينيات، ساعدت الاتجاهات التحررية في المجتمعات الغربية على إبراز مثل هذه الإستراتيجيات والضغط على المؤسسات لإلغائها. لكن الأمر استغرق من البرلمان البريطاني حتى عام 1986م لإقرار قانون يُحظر العقاب البدني في المدارس الحكومية، فيما يُسمى «المدارس العامة» في المملكة المتحدة التي تُدار بشكل مستقل، فقد سُمِحَ بذلك حتى عقد من الزمان. حتى يومنا هذا يتعرض الجنود لممارسات قاسية من التحقير الشخصي من جانب رؤسائهم وأمام رفاقهم. الانضباط العسكري والروح الجماعية يمنعان الضحايا من تقديم شكوى وتأكيد حقهم الإنساني في الكرامة، عادةً، لا يُعرف سوى عدد قليل من الحالات علنًا وتثير الغضب والسخط.

حتى لو كان من الممكن على المدى الطويل إجبار المؤسسات الرسمية على احترام كرامة أعضائها، فمن المؤسف أن إحدى سمات الحياة العامة في العقود الأخير كان أن يتمتع الأفراد والجماعات بحرية أكبر في التصرف «بشكل غير لائق» وإلحاق الأذى ببعضهم الآخر. غالبًا ما يستخدم الناس هذه الحرية للإذلال «الأفقي». إذلال كهذا لم يعد في كثير من الأحيان التشهير بشخص ما لحثه على سلوك مقبول اجتماعيًّا. يتعلق الأمر بإهانة الآخرين لما هم عليه؛ لكونهم أذكياء جدًّا أو أغبياء جدًّا، يتمتعون بالبدانة أو الهزال، لكونهم بِيضًا جدًّا أو سودًا جدًّا، أنثويين جدًّا أو ذكوريين جدًّا. كانت الخلفيات الدينية والعرقية وكذلك الميول الجنسية أهدافًا شائعة للإذلال.

المشاركة بنشاط في لعبة الإذلال

في السنوات الأخيرة، وسّعت وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير فرص وآثار هذا النوع من الإذلال. لا يضع الإنترنت أي قيود على مدى انتشار الفيديو أو الصورة أو النص المهين. كما أنها تدعو المزيد والمزيد من الناس للمشاركة بنشاط في لعبة الإذلال وبذلك تكسب «المتابعين». الأفراد الذين يجدون أنفسهم على قوائم العار هذه يستطيعون بالكاد حماية أنفسهم. ومع ذلك، كانت المجموعات المستضعفة تقاوم بشكل جماعي. أدانت النسويات، منذ الستينيات، وسائل الإعلام الجنسية التي اختزلت النساء إلى مجرد دُمى جنسية، وانتقدن بشدة التمييز في كل مكان بوصفه انتهاكًا لحقوق الإنسان وكرامته. يواصل المناهضون للعنصرية خوض معركة شاقة ضد التحيز والاستياء والكراهية التي تتردد بين جماهير وميادين عدة. كقاعدة عامة يجد المهاجرون واللاجئون أن من الصعوبة بمكان رفع صوت جماعي ضد حوادث الامتهان اليومية. يعتمدون على مساعدة ودعم نشطاء حقوق الإنسان الذين يتدخلون لتذكير المواطنين بواجباتهم ومسؤولياتهم الأساسية، وقبل كل شيء، واجب احترام كرامة الإنسان.

نحو عام 1800م كانت هذه المجموعة من النشطاء صغيرة، ولكن صاخبة. في 2020م هي أكبر بكثير وأكثر بلاغة. تعمل في جميع أنحاء العالم وهي مدعومة بالمعايير الدستورية بدلًا من النداءات الأخلاقية وحدها. في الوقت نفسه، لم يَختفِ الامتهان كممارسة اجتماعية يمارسها أولئك الذين يسعون لتوكيد وتقوية سلطتهم على الآخرين. لا تزال جذابة للغاية للأطفال والمراهقين والبالغين الذين يشعرون بالقوة من خلال دفع الآخرين إلى الحضيض. من خلال إشراك جمهور عريض، تساعد وسائل التواصل الاجتماعي الجناة الذين يسعون إلى إذلال الآخرين. في الواقع يعتمدون تمامًا على هذا الجمهور «للإعجاب» بسلوكهم والموافقة عليه. على غرار التشهير، يحتاج الإذلال إلى المتفرجين لتحقيق غرضه. إضافة إلى تدمير شعور الضحية بنفسه، فإن الإذلال يتعلق بتعريضها «أي الضحية» أو إخضاعها لعالم اجتماعي ينظر إلى المعتدي ويهتف له.

لتضييق الخناق على أولئك الذين يسعون إلى إذلال الآخرين يستلزم حرمانهم من جمهور متواطئ. من الضروري تثقيف وحَفْز المواطنين من جميع الأعمار على رفض الموافقة على أعمال الإذلال المتعمد والاعتراض عليها إن أمكن. ازدادت الحساسية تجاه الإذلال بشكل واضح خلال العقود الماضية، وذلك بفضل الالتزام المتزايد بحقوق الإنسان وكرامته. لكن «المجتمعات اللائقة» لا تزال تعمل على قدم وساق، ويمكن تفكيكها بسهولة إن لم يتم دعمها.