«طائر العشا» لمحمد علوان.. التفكير في الواقع قصصيًّا

«طائر العشا» لمحمد علوان.. التفكير في الواقع قصصيًّا

تزامن ظهور القصة القصيرة العربية المعاصرة مع تجارب كان همها الأوحد تخليص هذا الجنس الكتابي من الأفكار الأيديولوجية، والحد من الالتزام الأحادي، وأيضًا خلق طرائق أدائية تعنى بالخيبة الفردية والجرح الجماعي العميق، وما تبعه لاحقًا من اشتغال على الرؤية الكتابية والوعي الجمالي والالتفات المعرفي. وقد ذهب بعض كتاب القصة القصيرة، في خضم هذا الامتداد الكتابي الثاني، إلى تطوير الأساليب والطرائق الفنية المختلفة.

ففي الوقت الذي اتسمت فيه نصوص الرواد بالواقعية التسجيلية، في بدايتها، رسمت تجارب أخرى سردية معاصرة لنفسها بعدًا آخر في مسارات الكتابة ذاتها، ومنحى جديدًا يروم الاشتغال على قصصية القصة بوعي جديد، وفكر قصصي متجدد. كما انحازت بعض الأعمال إلى الرؤية التأليفية الصرف، وفي المحصلة النهائية تراكمت نصوص على اختلافها ضمن مدونة قصصية عربية مهمة مكنتنا من وضع أصابع اليد على الخريطة القصصية للعالم العربي.

يأتي هذا التأطير فيما تنطوي عليه مجموعة القاص السعودي محمد علوان «طائر العشا» (دار سطور عربية للنشر والتوزيع – جدة) من كوات قرائية تضع القارئ أمام مداخل قصصية استنبتها القاص منذ مجموعته البكر «الخبز والصمت» 1977م، وتمتد بشكل مختلف ومتنوع في «الحكاية تبدأ هكذا» 1983م، و«دامسة» 1998م، ثم «هاتف» 2014م. والملحوظ أن القاص مُقِلّ، أو زاهد عن النشر، وكأنه يتأمل القصة القصيرة من خلال رؤية استقرائية، لا تتسرع في النشر، وإنما تتغيا البحث عن الْتفات جمالي يسوغ الرؤية التأليفية والكتابية لكل مجموعة على حدة.

تتكون مجموعة «طائر العشا» من سبع وعشرين قصة، توحدت على مستوى الأداء السردي، لكنها تباينت على مستوى الثيمات والأفكار، وكأن كل قصة تشيد عوالمها من استغراق معين في كنه حياة تمتص حاضرًا وجوديًّا بأسراره، وتعبر عن مشكلة وجودية يعيشها الإنسان، مشكلة القلق الكوني والألم المعولم، جراء عذابات وخيبات، وكل هذه الأشياء ترمز إلى الشعور بالخوف من الفقد الذي يقود إلى العدمية واختلال التوازن. هذا ما ارتضاه الكاتب مثل مشهد سردي مجزأ في قالب قصصي؛ ولذلك فإن مداخل المجموعة متعددة، يمكن التلميح إليها من خلال الأداء السردي، والهندسة المكانية، والنزوع الزمني، وأخيرًا دينامية الذاكرة والحلم. وهي نتوءات تنصهر في بوتقة الكتابة عن الحياة العادية، وفيها تكون الحواس مدعوة إلى التخلي عن ذاكرتها اليومية، بغية ترسيخ رؤية تأليفية ترى في الكتابة إعادة صياغة الواقع وذلك بالتمييز بين التأليف وخارجيته، وهو ما يسمح بالاقتراب من الهوية التي تبنيها الكتابة لممارستها. هوية تقوم على استرجاع منفصل ومتصل بالذات الكاتبة، على نحو ما تبرزه إعادة النظر بما هي التقاطات فارقة.

نحو تمثل العجيب والغريب

إن الأداء السردي الذي ارتضاه الكاتب محمد علوان لمجموعته هو السير بدفة الحكي القصصي نحو تمثل العجيب والغريب من أعماق عالم الحياة العادية، والتفاعل مع هذا المعطى الخارجي على نحو إيحائي وتخييلي بامتياز. فالقاص لا يرى في الواقع سوى مادة سردية، لكنه يُدبر مفاصلها وأجزاءها وفق هندسة جديدة، ومن ثم يضفي على القصة بعدًا واقعيًّا مموهًا أحيانًا. يقول السارد في أول نص من المجموعة «خبز الغرقى»: «امرأة تلاحق العمر، لا هو ينتظر، ولا هي تتوقف، لم تثمر أطفالًا كالأخريات، أنهكها هذا السباق بلا جدوى، أسمتها أمها التي أنجبتها (زينب) كانت تغدق الماء على جسدها كل صبح ومساء علها تثمر أطفالًا، كان نهر (دجلة) في ذهنها يسبغ عليها فكرة نبوءة حدثتها بها أمها قبل موتها: أن (عرافة) أنبأتها أن الأطفال سيهبطون من غيمة مارقة لا يعلم سرها إلا الله وهذا النهر».

فهذا المقطع يصبو إلى أن يكون كتابة معادلة للحقيقة، تتجاوز حرارة الارتقاء اللغوي بمكون الإنصات إلى وضعيات حياتية أقرب إلى العجيب، فتغدو الفكرة القصصية منصهرة داخل كيمياء شديدة التوتر بين السرد؛ من خلال الحديث عن شخصية زينب وأزمة الإنجاب، وبين طبيعة الأداء والبناء المعماري للمكان المستدعى؛ (نهر دجلة) وحمولته الطقسية والحضارية، وأيضًا بالتشديد على الزمن القصصي اللحظي في سياق استذكاري؛ عندما قال السارد: «كان هذا النهر هو الذي سينقذنا من هذا (المحل) تخلط الماء بقليل من ماء (دجلة) لكن لا فائدة».

الكتابة القصصية بهذه الرؤية، هي عمل غيور ينطلق من الإحساس والوصف الدقيق إلى جرأة قلب المعطيات، وكأن الحياة تنكفئ على نفسها، فقد اتخذ القاص من الحياة الخاصة لشخصية زينب التي «كانت تشعر بهاجس سماوي يدفعها للنهر وأقراص الخبز تملأ سلة كبيرة مضفورة من نخيل البصرة رافعة رأسها إلى السماء مطوحة بأقراص الخبز إلى بطن النهر أشبه بطقس مقلوب، أو تعويذة عمياء لبقاء الآخرين». وأيضًا من عائلتها، ومن طبيعة الطقوس الإقليمية مثالًا وشاهدًا تاريخيًّا ووجوديًّا. وبين حيزي السرد والكتابة يتحدث السارد، ويسجل بمشهدية واقعية مقرونة بالتواردات اللاواعية التي تتحكم في انفعال السرد والطقس الإنساني العجيب.

لم يختر محمد علوان، في مجموعته «طائر العشا»، الابتعاد من الواقع العام؛ لأنه كان بصدد الاستجابة إلى قصصية القصة الرامية، بكل أشكال تحققها، إلى تمديد الوعي القصصي، وتحقيق التوازن الصعب بين الكتابة وسندها الواقعي غير المألوف أحيانًا. فكان يحاول، في كل قصة من المجموعة، ترجمة الحياة بطريقة لا يَمَلّها القارئ، ويدوّن ما يرى بشكل مختلف، كما ألمحنا إلى هذا سالفًا. للتدليل نسوق هذا المقطع من قصة «طائر العشا»، «دنوا على العشاء، فيما هم منغمسون في تناول الطعام، وإذا بمخلوق صغير يشبه الفأر يحوم فوقهم ويزرع الهلع في قلوب الأمهات والأطفال، والضجيج يتعالى وفوضى عارمة تربك المكان، ما عدا (بنت علي) وأخيها وابتسامة تلوح على شفتيهما ودعاء بالرحمة يمنح المكان طقسًا أسطوريًّا، وتعلق طائر العشا مقلوبًا وسط السقف ممسكًا بأخشاب السقف، وصاحت (بنت علي) بإحدى بناتها أحضري بقية الحناء و(المكحلة) و(المرود)، وطلبت من أخيها الإمساك بطائر العشا، أمسك به وقامت (بنت علي) بوضعه بين كفي (أبو سعيد) وقامت بوضع الحناء في مخالبه، وكحلت عينيه وهي تبتسم ابتسامة عريضة ودافئة وهي تردد: هذا ضيفنا الذي كنا ننتظره […] هذه روح صاحب البيت
وقمنا بكرامتها».

عتبات إيحائية يوحدها نسيج سردي

ينحو هذا المقطع إلى التعامل مع فضاء القرية برؤية خاصة، فالمتحقق رؤية مكانية مندهشة من رد فعل رؤيا (الجدة)، وهي بمنزلة عتبات إيحائية يوحدها نسيج سردي يستند إلى مجاورة العناصر المكانية والجغرافية والبشرية والزمنية المشتركة التي تتحرك فيها أحداث قصة «طائر العشا». وكذا البنيات النصية الصغرى لتشكل نصًّا أكبر هو نص (الضيف الذي تنتظره الجدة)، وهو ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذا الحدث هو بمنزلة الحاضنة الجنينية الأصلية التي وجهت الحكي واستدعت طائر الخفاش أو الوطواط، وهنا تنفتح كوة جديدة عن كنه اختيار الكاتب طائر الخفاش، وهو كائن لا يظهر إلا ليلًا، ومع العلم أن اقتران الكتاب بالطيور أصبح أيقونة كنائية، تقتضي التعليل أيضًا، وهل يلتقي خفاش محمد علوان بزنبرك هاروكي موراكامي، أو حتى بطائر الحوم لحليم بركات، وغراب إدغار آلان بو، وطائر الرخ لبورخيس؟ فقد تُدُووِلَتْ عناوين كتابات كثيرة تستدعي الطائر أو الطيور؛ طائر الليل البذيء لخوسيه دونوسو، وطيور العنبر لإبراهيم عبدالمجيد، والطائر الأزرق النادر ليوسف فاضل. إن استدعاء الخفاش لم يغفل اشتمال المجموعة على الزمن الليلي، بوصفه مهيمنًا، وهو أيضًا يختلقه الكاتب فيما يشيد تحليقًا نازلًا لاستدعاء طقس حياتي مشوب بالروح الشعبية التي تنطلي على أسرة معينة لا تزال تتجرع ألم الفقد.

محمد علوان

يُسهم السرد، في هذه القصة، من خلال عملية التحبيك (أو بناء الحبكة) في صياغة الهوية السردية المميزة بوصفها ذاتًا مفارقة لذوات أخرى، مكانية أو بشرية، ومن الضروري الانتباه إلى الجوهر الكلي للنظرية السردية كما طرحها بول ريكور عند دراسة الهوية السردية التي يعتمد فيها على ثلاثة أقانيم أساسية، هي بمنزلة ثلاثة إسنادات للوصول إلى تحديد الهوية السردية، وهي الوجود، والزمان، والسرد. وهو ما يدفعنا إلى إضاءة جزئيات من الجوانب الأساسية من نظرية ريكور السردية هذه. وما نود أن نلفت النظر إليه من خلال هذا الإنصات للخصوصية التي أصبحت القصة القصيرة العربية المعاصرة تكتسبها بصفة عامة، ومجموعة «طائر العشا» على وجه التخصيص، هو تحول السرد إلى نموذج تفسيري دال على الحياة العادية.

وبقدر ما يتعلق الأمر بنص الكاتب محمد علوان، يمكن القول: إنه ينتمي إلى آلية صياغة النص السردي والتخييلي وليس إلى آلية تشكل النص التاريخي حول القرية السعودية، على الرغم من وقوفه أمام وقائع تاريخية وزمنية محددة، وهو انزياح مهم على المستوى البنيوي، فالقصة حتى إن ابتدأت بحدث واقعي، مؤشرة عليه بتحديد مكاني، لكنها تفترق عن الواقع وتغادره وتقدم نفسها تخييلًا صرفًا، بفعل آليات تشكل الخطاب الداخلي وتبلور المبنى الحكائي المستند إلى فضاء البادية، وذلك على نحو فارق لأن القصة المعاصرة «تركز على الاستثنائي بدلًا من العادي» (تشارلز ماي).

تقدم مجموعة «طائر العشا» نماذج بشرية ووضعيات حياتية معاصرة لا تمجد الإنسان في خطئه ولا في صوابه، وإنما تمجد الوعي الوجودي للإنسان المعاصر، وهو يرتقي في الحياة بالمشاعر التي فرضتها عليه الأقدار والمتغيرات الحضارية، وبأحلامه التي كانت سببًا في خيباته المتوالية. يقول السارد في قصة «بيت موضي»: «في ظهيرة ما، كنت منغمسًا في صلاتي وإذا بهاتف منزلها الثابت يرنّ مرتينِ، كدت أقطع صلاتي، إلا أن الهاتف عاد إلى صمته الأزليّ. بعد أن سلمت، فرت من عيني الدموع، تعوذت بالله من الشيطان، خرجت من هناك، قفلت باب الذكريات خلفي، وفي الطريق إلى منزلي استعدت رنين الهاتف. من يمكن أن يتصل على هاتف قديم، ومعظم صديقاتها قدمن لواجب العزاء؟ قلت بيني وبين نفسي وبشكل جنوني؛ هل هي من حاولت الاتصال بي؟ فجأة ارتطمت بسيارتي يمامة ضلت طريقها وأخرجتني من التفكير في الأمر. دخلت منزلي وأغلقت باب التوجس. حين شاهدت وجه زوجتي باسمًا، دخلت منطقتي الآمنة، وأعدت ترتيب داخلي من جديد».

سبر أغوار الكتابة

طبيعة الأحداث، في قصة «بيت موضي» متسارعة، وفي الآن ذاته تعمق وتسبر أغوار الكتابة عن لحظات (لحظة اجتياز الشارع/ لحظة تذكر الصديقة والحبيبة/ لحظة الصلاة/ لحظة الحادثة/ لحظة دخول المنزل)، وقائع ولقطات قصصية خاطفة قد تكون غير محتملة الوقوع؛ لأنها لا تصطف داخل سياق الانتظام الموجه للسرد، بل تصوب اهتمامًا إلى تصوير جوانب غريبة عن الفرد المعاصر، أو باختيار أفراد غير مألوفين؛ لأنهم يثيرون البعد الحلمي في المجموعة، بوصفه مجالًا يتيح الفرصة والمساحة كي يعيد النظر في السرد والبنية الحكائية. فبكلمات قليلة جدًّا تتواشج الأحلام بالتوترات، وهذه الثنائية الكبيرة منفتحة ببعدها القلق، على دينامية تحرك إشكالية اللغة والفكر. وكل تلك التفسيرات هي خلاصة فهم الكاتب للفاعلية الإبداعية للجنس القصصي، وتعالقه باللحظات التي انتقاها بعناية.

«طائر العشا» إذًا،مجموعة قصصية، تقدم حيوات ومشاهد من جغرافية معينة، فليست الشخصيات والأحداث والوضعيات الحياتية مرتبطة برؤية الكاتب فحسب، وإنما تقترن ببيان إمكان تعرف المتلقي إلى واقع مختلف، ولكن برؤية شبه استقرائية. ولأن القصة المعاصرة تتعامل مع شظية من الحياة (جورج لوكاتش) تعاملًا يسبر واقعًا محددًا ومتعددًا بتجاربه وإخفاقاته وأحلامه وهواجسه، فإنها هي من صميم ما استنبته الكاتب في نصوصه وشيَّدَه عبر التواصل المتحقق بين ذاتين هما: المؤلف الحاضر بنصه وتجربته في معنى القصة القصيرة، والشاهد الوجودي المتمثل في الحياة العادية. ولم يكن متن المجموعة خارجًا عن هذا السياق، سواء على مستوى الأداء السردي أو الأسلوب القصصي، وإنما كان أشد الارتباط بالحياة التي يخبرها الكاتب محمد علوان وحده.