بواسطة محمد سليم شوشة - كاتب مصري | مارس 1, 2022 | كتب
تشتغل رواية «ربيع الغابة»، للروائي جمال مطر، الصادرة عن دار العين بالقاهرة 2021م، على أسئلة قديمة لكنها متجددة. نعني هنا أسئلة السلطة وصراعاتها وتبدلاتها، أو جدليات التنازع عليها ومحركات الحوم في فضاءاتها، ولكن المهم جماليًّا أن هذا الاشتغال وتلك المقاربة السردية لخطاب هذه الرواية على هذه الأسئلة يأتي في إطار من التجدد الجمالي والتشويق ويحقق عددًا من النواتج الأدبية المهمة التي تضعنا في المقام الأول أمام تجربة سردية لا تتخلى عن إستراتيجيتها الأدبية والتشكيل الجمالي، مهما كانت على قدر من المباشرة إزاء أسئلة السياسة والسلطة. وهذه السرديات الكبرى التي يمكن أن يقال: إن سرد ما بعد الحداثة بدأ في التخفف منها.
جمال مطر
في تجربة خطاب هذه الرواية وسردها قيمة جمالية مهمة نتجت عن ترميز أسئلة السلطة والسياسة في إطار عالم الحيوان بأطرافه ورموزه وعناصره، وهذه القيمة هي تخفيف وطأة أسئلة السياسة على المتلقي وتجاوز رتابة تكرارها، وتجاوز الواقع بحدوده البشرية المملة، فمن هذا التشابك والارتباط بين ما هو إنساني وحيواني تتحقق المغايرة وكسر الرتابة؛ ذلك لأن الرواية بالأساس في جوهرها إنما تعمل في المساحة المشتركة بين ما هو إنساني بطابعه الفكري وداخل عملية الترميز.
ذلك لأن حال الصراع على السلطة بين هذه الحيوانات وجدليات هذا الصراع من الاجتماعات والمؤامرات والمحاكمات والعقاب، كلها تتصل بما هو إنساني أو بالأحرى توصل عالم الرواية بما في ذهن المتلقي من رموز تنتمي لعالمه. وعلى مستوى آخر فإنها تبقى على طبيعتها الحيوانية وجوهرها في عالم الغابة بما فيها من الانفصال عن الواقع الإنساني، وهكذا فإن خطاب الرواية يعمل بشكل طبيعي وبسيرورة سردية تُراوِح بين هذين العالمين بما فيهما من اتصال وانفصال.
في الحديث عن هذه الحيوانات يحضر الشق الحيواني متمثلًا في الوصف المادي؛ الهيئة والحركة والبيئة والطبيعة، فيعجز الفأر مثلًا عن صعود صخرة الحكم إلا بالاعتماد على ظهر الحية، ولا يرى فيه القط إلا غريمه التقليدي الذي يرغب في قضم أرجله والتلذذ بها، ولا يرى فيه كثير من الحيوانات إلا غباء المنظر ونتانة الرائحة، ولا يمكن له الاختباء إلا في جذع شجرة أو حفرة صغيرة، فكلها علامات تنتمي بشكل طبيعي إلى عالم الغابة وقوانينها. ولكن هذا العالم تدخل عليه أنساق جديدة ومغايرة تشكل منه وجودًا جديدًا وعالمًا مختلفًا يتطابق رمزيًّا مع عالم البشر، وهذه الأنساق تتصل بما هو إنساني من أسئلة العقل والحيلة والرغبة في السلطة والصراع عليها، والرغبة في المساواة، وتتصل كذلك بحالات من الرومانسية والنقص والبحث عن الذات والرغبة في التحقق والاكتمال وتتصل بمشاعر الكره والرغبة في الانتقام أحيانًا.
عالم مشحون بالقلق
ومن القيم الجمالية المهمة في خطاب هذه الرواية ما تحفل به من التحولات والحركة والصراع الصاخب والمستمر، فهي تقارب عالمًا مشحونًا بالقلق والنزاع والصراع وكثير من القيم النفسية والمعنوية، مثل مشاعر الكراهية أو الرفض أو النزاع المؤسس على النوع أو الاختلاف؛ صراع القط والفأر أو الحلم والحكمة والعقل من جانب ضد الخيانة والخسة والغدر؛ صراع المنطق والعقلانية والإصرار على المبدأ ضد العبث والأنانية والانتهازية وغياب المبادئ، فنكون في النهاية أمام عالم حافل بالمشاعر والتحولات والحالات النفسية المتقاطعة والمتصارعة.
في عالم على قدر كبير من الصخب الدرامي والفواعل أو الذوات المتنازعة، في حين يكون هناك قدر من التعاون أو المساندة والتحالفات بما يشبه تمامًا ما يكون في عالم البشر وخططهم، وهي كلها علامات تجعل المتلقي لخطاب هذه الرواية مستشعرًا بانتمائها إلى عالمه وأن فيها شيئًا منه، وهو ما يجعله يتفاعل مع رموزها، ويتفاعل مع صراعها ويشعر أحيانًا أنه جزء من عالمها أو يرى نفسه بين أطرافها.
على أن القيمة الجمالية الأكثر أهمية هو ما فيها من التوتر والقلق والصراع أو التنازع المتجدد، فتصبح على قدر كبير من التشويق ويبدو أفق التوقع فيها مكسورًا أو مطمورًا أو غير مكشوف في أفق القراءة أو المتابعة. وتصبح الرواية حافلة بالتحولات المصيرية وأحيانًا الغرابة والعبثية بأن يكون الفأر هو ملك الغابة لمدة عبر إجراءات وأحداث ثم يتمادى ويتهور ويصبح رهين السجن وتكون هناك ثورة تحرره فيعود إلى الحكم وهكذا في تحولات قطبية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وفي تقلبات جديرة بالمتابعة والانتظار.
من أسئلة السلطة إلى طبيعة الوجود
ومن جماليات الرواية كذلك ما فيها من توظيف ثري للمحركات النفسية والعقد، واشتغال على عقدة كل نوع من هذه الحيوانات التي تتحول إلى عناصر فاعلة ذات بنية نفسية عميقة، وتبدو مدفوعة بسبب هذه العقد باتجاه مصايرها. وهكذا يكون هناك دمج واستثمار لما هو حقيقي من الصفات لما هو خيالي أو توظيف للسمات الحقيقية المكونة لهذه الحيوانات في إطار بنية الفانتازيا والغرابة. ويتضح هذا بشكل أكبر مع شخصية الفأر وتوظيف قصة الحب لديه لنرى كيف أن إخفاقه يصبح أحد محركاته الأعمق، وليس ذلك وحسب، إنما يُوَظَّف الحب ويُستغَلّ دراميًّا بأن يتسبب هذا الفشل في ارتكاب خطيئة أو جريمة مع الفأرة وفقًا لقوانين هذا العالم الحيواني الجديدة التي يفرضها الخطاب أو ينشئها.
وتُستغَلّ وضعية الحب أو التكوين الرومانسي وتطلع الفأر إلى النجاح والتحقق فيه ليكون محورًا دراميًّا أو ذا توظيف سردي خاص، يحرك الأحداث أو يصبح ثغرة للخديعة أو حتى للتشويق كما نرى في آخر الرواية بعد أن يصبح الفأر ملكًا بالانتخاب وتطلبه حبيبته فيلبي، ويكون الحب مجالًا لغياب الرؤية العقلية الهادئة أو المتأنية. وكلها أمور تجعل نسيج السرد متماسكًا ويجعل العنصر الواحد أو السمة والمحرك أو الثيمة الواحدة لها توظيفات عدة أو استثمار واسع ومتكرر، فيكون المتلقي أمام نموذج متكامل وأقرب إلى العالم الحقيقي.
إذن، تطرح الرواية عالمًا صاخبًا وحافلًا بالصراع والحركة والتوتر والشد والجذب بين أطراف عدة. نعم هما فريقان، لكن يبدو أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد؛ ذلك لأن كل فريق منهما يبدو هو بذاته متنوعًا وعلى قدر من الثراء، وأحيانًا التداخل، ففي جانب نجد الأسد والنمر والحصان والجمل والفيل وبعض هذه الحيوانات القوية والصريحة والواضحة أو ذات المبادئ في جانب، في حين يكون الفأر والفهد والثعالب والخرتيت وفصيلته والحية والغراب في جانب آخر. تمثل الطيور نموذجًا للإعلام، فالحمامة هي النموذج المهني الثابت على المبدأ في حين يبدو الغراب في الموقف المقابل أو الضد منها، فهو يقوم بالتجسس والتدخلات الخادعة أحيانًا، وهكذا فإننا لسنا أمام حالة من الصراع المسطح، بل أمام تنويعات عدة وتكوينات معقدة ومركبة، وكلها في حال صخب، حتى في فريق الفأر نلمس بوادر خلاف داخلي أو أشكال من الغدر.
ذلك لأنهم أبناء اجتماع قائم على الضرورة والاحتيال وليس المبدأ. ولعل في هذا المقطع ما يكشف عن قدر عمق فكرة الرواية ما تقارب من حالة تتجاوز أسئلة السلطة والصراع السياسي إلى حالة أبعد من الخلاف الوجودي والطبيعة الكونية القائمة على الاكتمال أو النقص النفسي، وأن الأكثر اكتمالًا هو الأقرب للحلم والأفضل أخلاقًا.
بواسطة محمد سليم شوشة - كاتب مصري | نوفمبر 1, 2021 | كتب
رواية «صوت الطبول من بعيد» للروائي العراقي فلاح رحيم (دار الرافدين بالعراق) واحدة من الروايات العربية الثرية والمختلفة، وفي تقديرنا أن خطابها قد أنجز عددًا من المنجزات الجمالية والدلالية المهمة التي تجعلها ذات خصوصية كبيرة وأهمية وجديرة بالقراءة والبحث، وقادرة على أن تحقق قدرًا كبيرًا من المتعة للمتلقي.
في مستوى الشكل وشعرية السرد يمكن أن نقول: إنها تتأسس على محور ثابت هو مفارقة الحرب والحب أو العشق والحرب، بما يجعل هذه الثنائية نسقًا بنائيًّا شفيفًا تتجسد فيه هوية السرد وتنتج منه أبرز مقولات الخطاب، الحب في هذه الرواية ليس مجرد العلاقة بالمرأة أو قصة الحب المعتادة، بل يخرج عنها إلى أطر عامة ودلالة مطلقة، فيصبح هو الحياة نفسها بشكلها الطبيعي، الحياة بقوتها وجمالها وإمكانية عيشها في سلام ونماء وتطور.
فلاح رحيم
قصة حب سليم وبيانكا تتجاوز علاقة اثنين متحابين أو عاشقين، لتصبح دالة على كل ما هو ممكن من أوجه الحياة الجميلة واحتمالاتها، كل ما هو ممكن من اللذة الضائعة أو المفقودة، سواء ما يرتبط باللذة الحسية أو السفر والتعلم والفن والموسيقا والعمل والإبداع، وغيرها. وهكذا فإن قصة الحب وفق هذا التشكيل والتكوين الخاص تمثل القطب الثاني في ثنائية الموت والحياة، أو ثنائية الحرب والحياة، الحرب هي الأخرى وفق هذا التكوين لقصة الحب ووفق طرح الرواية، ليست مجرد حال النزاع بين دولتين، بل هي كل تعطيل وتهديد وكل أشكال الظلم الذي يجد الجميع أنفسهم متورطين فيه من دون أن يستطيعوا تحديد لحظة الخروج أو التحكم فيها.
وإضافة إلى هذه الدلالة الكلية وإكمال ثنائية الحرب والحب أو الموت والحياة، فإن قصة حب سليم وبيانكا لها نواتج جمالية أخرى؛ إذ تسهم في إنماء التوتر والقلق الدرامي في الرواية؛ لأن فكرة الخطر النابعة من تواصل سليم مع بيانكا المرأة البولندية الجميلة وهو الجندي العراقي وقت الحرب تجعل الاحتمالات كافة قائمة، وتجعل المتلقي أمام حالة من التوقع الدائم لسقوط البطل أو انكشافهما وتعرضهما للخطر، فيمضي المتلقي في متابعة الأحداث وهو في حال من التوتر ومتفاعلًا مع مشاعر الخوف والمغامرة، في توازٍ مع مشاعر هذين البطلين أو النموذجين الإنسانيين الراغبين في الحياة أو بالأحرى الراغبين في معاندة الحرب وأنظمة الحكم. وهي حال إنسانية مشوِّقة وتمثل محور شعرية الرواية؛ لأنها حال استثنائية وطبيعية في الوقت نفسه، استثنائية بخروجها عن قوانين الواقع الراهن وتسيير الحرب لأمور الناس والتحكم فيهم بشكل كامل.
ففي الوقت الذي يكون الجميع فيه منساقين من دون رغبة أو قوة لقوانين الحرب وفوضاها الشاملة، فإن الإنسان يجد نفسه مدفوعًا إلى التمرد عليها، ويتجه بقوة إلى الحياة راغبًا في عيشها كما يشتهي. وهذه الحال من المعاندة هي بذاتها تحمل قيمًا جمالية وتجعل المتلقي منحازًا لأطراف الحكاية ويتماهى معهما ويتوحد بهما شعوريًّا.
جماليات مهمة
في الرواية جماليات ومنجزات عديدة مهمة، منها ما يختص بتفاصيل الحرب وطرائفها وأثرها النفسي في الجنود والضباط الذين يعيشونها، حيث صورت الرواية حياة جبهة القتال بما يمور في نفوس البشر ويتخلق من التوتر والقلق والخوف وغياب الإيمان بالفكرة والتوزع الإنساني بين الانصياع والتمرد، بين رغبة الحياة والخوف من الموت وكذلك الخوف من العار واتهامات الخسة أو الجبن.
تشكل الرواية في نماذجها وأنماطها الإنسانية أبعادًا عدة منها النفسي ومنها المعرفي، بأن تكشف عن تفاوتهم المعرفي والأيديولوجي أو اختلاف التعليم والثقافة والرؤية، وعلى الرغم من ذلك تبقى السمات الإنسانية غالبة. وتشكل الرواية ما يمكن تسميته بسلوك الحرب، ليبدو الإنسان في إطار هذه البنية السردية أقرب إلى فأر التجارب الذي تنتج منه أفعال جديدة وطريفة هي مصدر المتعة أو الدهشة في الرواية، والأهم أن سلوكيات الحرب هذه من التوتر والخوف والشعور بالكراهية والحدة مع الآخر حتى رفيق السلاح والجبهة، تأخذ وضع المفارقة الجديدة مع ما يُنشَر في الإعلام من الصحف والإذاعات، لتكون هناك مفارقات كثيرة بخلاف المفارقة الإطارية الشاملة المتمثلة في ثنائية الحب والحرب أو قوة الحياة والموت، فإذا كانت هناك مفارقة مركزية فإن هناك مفارقات أخرى فرعية صغيرة كثيرة تتناثر في فضاء الخطاب السردي لتثريه.
ومن هذه المفارقات ما يتجسد في المكان كذلك، حيث نجد أن هناك ثنائية مقابلة هي الجبهة وأرض السلام والحب، متجسدة في بيت العائلة والبار وبيت العاشقة بيانكا، فالمكان يأخذ أوضاعًا تتناسب مع هذه القيم والمعاني التي صبغته، فنجد أن النمطين من المكان يبدوان كما لو كانا في حال من الصراع والافتراق، وكل منهما يجذب الإنسان إليه عبر قوة غامضة أو سحرية. أرض الحرب وجبهة القتال تجذب الرجال بطابعها العبثي وغموضها وطاقة الشر الكامنة في عقول البشر وغرائبيتهم. وأرض السلام تجذبهم مرة أخرى عبر العشق وصوت النساء ومتعهن، وعبر ما في الحياة كافة من متعة الطعام والنظافة والسهر والحكايات. في أرض الحب والسلام تصبح الحياة صاخبة بالفرح والسلام والأمل والرغبة في العيش والعمل ومشكلات الحياة الصغيرة، أما في الحرب فيهيمن الجمود والخوف، ولا يبقى من الحياة بداخل البشر إلا ما يخبئون في أنفسهم من انتظار وآمال دفينة.
نماذج إنسانية نابضة
المهم كذلك أن بنية الرواية لم تكن مباشرة في كشفها وإنتاجها لهذه الثنائيات، بل إنها عملت على تجسيدها في تفاصيل، وتمثيلها في أحداث ومشاهد، وطرحتها عبر نماذج إنسانية نابضة بالحيوية والحركة، ولهذا نجد أن الرواية ذات طابع مشهدي سينمائي، وتنظيمها الزمني فيه هذه النقلات السينمائية والطابع الحركي، بمعنى أن وراء هذه البنية كثيرًا من الدلالات الكامنة التي سيعمل عقل المتلقي على استنتاجها ولن تكون جاهزة دائمًا، صحيح أن من بين التقنيات السردية تقنية التعليق وهي أقرب لأن تكون وقفات تأملية حافلة بالشعرية والأسى، أو مشحونة بمشاعر الحسرة على ضياع الإنسان ومعاناته. ولكن هذه المساحات من التأمل ليست كثيرة أو مهيمنة بشكل كامل؛ لأنها كانت كفيلة لو زادت لتحول العمل إلى ثرثرة ونزعة خطابية مباشرة وتهدم درامية الرواية، لكن يبدو أن المؤلف كان على وعي بهذا فجعل هذه المساحات من التعليق محسوبة ومحدودة بما يجعلها مساحة للتنويع والراحة من الحركة المتلاحقة وغالبًا ما تأتي في نهاية كل فصل، وتصنع تفاوتًا في الإيقاع السردي بدلًا من أن يمضي على وتيرة واحدة.
في الرواية كذلك جانب مهم يخص توظيف الخطابات الأخرى، مثل الأغنية والموسيقا بما لها من أصداء وتوظيفات تجعلنا أمام حياة نابضة وحيوية وتصبح الأغنية كاشفة عن مشاعر الشخصية أو أفكارها؛ ذلك لأن كثيرًا منها يأتي متوافقًا في معناه مع بنية المشهد السردي أو سياقه وهو ما يمثل شكلًا من الحوار بين الخطابات الأخرى وانصهارها في الخطاب الروائي، ويجعل السرد شبيهًا بالحياة في تشكلها وتنوع روافدها، ونجد فيها تصويرًا للأطعمة والملابس وإيقاع الحياة من الراحة والتعب والعمل والتخفي والتحايل على الصعاب وتنوع بين الفكاهة والهزل والجد. وكذلك فيها تعدد في أشكال السرد وأنماط الراوي، بين الراوي العليم والمدونات التي يهمن عليها الراوي المتكلم/ وكذلك المراسلات التي يكون فيها شكل خطابي مختلف.
بواسطة محمد سليم شوشة - كاتب مصري | مايو 1, 2021 | كتب
في رواية «سبيل الغارق» للروائية المصرية ريم بسيوني (دار نهضة مصر) نجد عددًا بارزًا من القيم الجمالية والدلالية التي تؤكد قدر خصوصيتها وتميزها الأدبي، وأنها صوت روائي استثنائي؛ لأنها تمزج معارف وبحوثًا ومعلومات في عالم روائي يتسم بالحيوية والتشويق وحافل بالجماليات كافة، التي تجعل سردها راسخًا في ذهن المتلقي إلى أمد طويل. فهي تنشئ حكاية تتسم بالكثافة والثقل والحضور الطاغي، وتصنع نماذج إنسانية تتسم بالخصوصية، وذات قسمات وملامح تجعل من شخصياتها بشرًا حقيقيين، يعايشهم المتلقي وينفعل بهم إلى أقصى درجات الانفعال.
الحكاية الأساسية التي يقوم عليها عالم «سبيل الغارق»، تحدث قبيل الغزو الإنجليزي لمصر، وتمتد إلى ما بعد ذلك بقليل. هي حكاية يمكن تصنيفها حكاية عشق أو حب استثنائي كما يمكن وصفها حكاية بحث عن الطريق، حكاية صوفية أو غنوصية أو عرفانية، حكاية بحث الإنسان عن ذاته سواء كان رجلًا أو امرأة، حكاية أول فتاة مصرية تذهب إلى المدرسة وأرادت أن تكون قدوة للمصريات كافة عبر العصور، للخروج من التيه إلى النور والتحقق والاكتمال الإنساني، ولكنها دائمًا رحلة ليست بالسهلة.
لقد صنع الخطاب الروائي في «سبيل الغارق» صورًا متوازية أو أشبه بالمرايا المتقابلة، التي تمتد ما فيها من الصور إلى ما لا نهاية، فيبدو الماضي مرآة للحاضر والعكس، ويرى المعاصر نفسه في حكاية الآخرين. وهنا يأتي المكون الثابت أو الممتد أو العنصر المتكرر الذي يصنع شعرية الحكايات وشعرية العوالم، التي يقوم خطاب «سبيل الغارق» على مقاربتها أو قصها أو تحويلها إلى خطاب سردي يتسم بالتشويق الكبير، ويجعل تجاور هذه الحكايات مانحًا للأطر والمنافذ التأويلية المساعدة، فضلًا عما يكون في التجاور من الجماليات.
نغمة صوتية متكررة
إن صف هذه الحكايات المتقاطعة والمتداخلة والمتصادية مثل نغمة صوتية متكررة بعضها إلى جوار بعض وفق كيفية سردية خاصة، هو السر الجمالي الأهم لخطاب هذه الرواية، وهو مفتاح تكوينها والممثل لخصوصية الذهنية الروائية الفاعلة، في تكوين روايات ريم بسيوني عامة. ما أقصد إليه يرتبط باقتناص النغمات المتكررة والقصص المتشابهة عبر حيلة موجودة في الفلسفة ومعروفة، وهي الحلول أو تناسخ الأرواح، فيبدو النموذج الإنساني قديمًا وراسخًا ومتجذرًا في التاريخ، وليس مجرد نبت سطحي، أو مرتبط بالحاضر فقط.
إن الحكاية التاريخية الأسطورية عن الشاطر حسن والأميرة وحبهما وزواجها ثم افتراقها والغرق، هي المؤطر الصوفي والشعري للحكاية الراهنة، والفاتح لنوافذ الحاضر على الماضي، والصانع لهذه المرايا الخاصة التي تخلق الغرائبية والتشويق في الخطاب الروائي. كانت رسائل التاجر الإيطالي من تجار البندقية هي الوسيط بين حكايتي الحب القديمة والجديدة، حكاية الشاطر حسن والأمير، وحكاية حسن الخادم وجليلة ابنة أحمد بك ثابت التاجر الثري من أعيان القاهرة وقت الغزو الإنجليزي لمصر.
ريم بسيوني
بالضبط كما كانت هذه الرسائل معادلًا موازيًا للرسائل التي ساعدت جليلة في توصيلها إلى جيش عرابي وقت الحرب، وهكذا يصبح حسن وجليلة محور هذا العالم الغرائبي، ونقطة المركزية التي تتجمع فيها بؤر الضوء، واكتمال الأسرار كما يكون اكتمال العشق لديهما، وهكذا تبدو المرحلة التي اختارها الخطاب لتكون مركز عالمه هي الأكثر تشويقًا وجمالًا، وهي بؤرة ارتباط الماضي بالحاضر والتقائهما، بالضبط كما هي بؤرة اجتماع نوعين من المعرفة يبدوان مختلفين لكنهما في الأساس في غاية التكامل ويصلان إلى درجة المطابقة أو التوافق؛ ذلك لأن معرفة جليلة معرفة مدارس أي معرفة دنيوية علمانية، في حين أن معرفة حسن الخادم الأُمِّي أقرب لأن تكون رامزة للمعرفة الدينية التي يجتمع فيها الإسلامي والمسيحي.
والحقيقة، هنا يتجسد لدى الكاتبة وعي فلسفي استثنائي بتاريخ نظرية المعرفة، أو سؤال المعرفة في العالم، أو في الفلسفة بامتداها التاريخ، حيث هناك روافد مشتركة غنوصية أو روحية راسخة وقديمة بين الإسلام والمسيحية، ربما كان للصوفية الإسلامية تحديدًا دور كبير في كشف ارتباطهما في مراحل تاريخية كثيرة من التاريخ الإسلامي. وهكذا فإن الخطاب الروائي لريم بسيوني في هذا العمل وراءه كل هذا الكم من الإحاطة والاطلاع.
أكثر من مجرد حكاية
وبهذا فإن هذه الرواية تذهب بعيدًا في نواتجها الجميلة أكثر من مجرد حدود الحكاية الظاهر، وتحلق في آفاق تأويلية وتلامح رسائل دلالية مهمة وذات طابع إنساني. وهكذا يمكن أن نقول: إن ثمة طبقات عديدة من الحكايات في هذه الرواية الثرية، حكاية الصراع الأزلي بين الخير والشر، حكاية المكايد في مقابل البراءة والنقاء والرغبة في الإصلاح، حكاية الشعب المصري المسالم ضد الإنجليز، حكاية دولة المماليك ضد القراصنة البرتغاليين، وقبل كل هذا هي حكاية البحث عن العشق والطريق إلى النجاة، وأن يعيش الإنسان رحلته بمتعة وفي رضا؛ لأن حياته مهما كان فيها فهي فانية بانتصاراتها وهزائمها، فلا النصر مكتوب أو مقدر، ولا الهزيمة أبدية، كما يذكر خطاب الرواية نصًّا.
وهذه الرواية الفذة تتماوج وتتحرك بندوليًّا بخفة وعزف بين رصد الظاهري والنفسي، بين الداخلي والخارجي، بين الغنوصي والمادي، بين المعرفة الروحية التي تقذف في القلب، وبين المعرفة المادية التي تأتي من الكتب وبأسباب واضحة أو معلومة. تتماوج بين السعادة والفرح، وتستمد جماليات كثيرة وعظيمة وقدرة كبيرة على التشويق من تبدل المصاير فيها، ومن تحولاتها بين السعادة والفرح، والخيبة والأمل، والنجاح والفشل، والاطمئنان والقلق، والحب والكراهية، وعديد القيم والمعاني التي تجسدها مشاهدها بنعومة شديدة واكتمال سردي وتخييل ناصع، وفيها كثير مما يمكن بحثه وتأويله.