«طير الليل» لعمارة لخوص.. حفر في الذاكرة
«طير الليل» (منشورات المتوسط – منشورات حبر) لعمارة لخوص هي إعلان عودته إلى الكتابة باللغة العربية بعد سنوات من الإقامة في إيطاليا والتعاطي مع لغتها وثقافتها، وهي روايته الأولى عن الذاكرة الوطنية التي جاءت في لحظة فارقة من تاريخ الجزائر المستقلة التي شهدت انطلاق الحراك الشعبي السلمي المطالب بالتغيير.
وحول السلمية ونبذ العنف تمحورت رؤية الرواية وطرحها الفلسفي منذ العتبات عبر نص حنة آرندت الذي اختاره عمارة لخوص لتصدير روايته: «إن صلة مشكلة البداية بظاهرة الثورة هي صلة واضحة، وكون مثل هذه البداية لا بد أن تكون متصلة اتصالًا وثيقًا بالعنف، إنما هو أمر تتكفل به البدايات الأسطورية لتاريخنا» (الرواية ص9). تحكي الرواية مسار أربع شخصيات اجتمعوا خريف 1958م إبان ثورة التحرير، ثم تفرقوا لتتفرق مصايرهم وتتقاطع وتتعالق مع مصير الوطن بذاكرته وتاريخه وحاضره.
فنيًّا اختار عمارة لخوص «رواية الجريمة» التي تنبني حبكتها حول حل لغز الجريمة التي راح ضحيتها ميلود صبري المدعو «طير الليل» ليلة ذكرى الاستقلال سنة 2018م، رمزية حادثة «الاغتيال» لم ترتبط بتاريخها فقط بل أيضًا بالمقتول وهو مجاهد معروف، له وزنه التاريخي وتأثيره في دواليب السياسة والاقتصاد، وعلى مدار الرواية تتسلسل الأحداث وتنتقل بين الماضي والحاضر من دون أن تفقد وضوحها أو تشويقها لتفكك لغز الجريمة على مستويين؛ المستوى الفردي الذي ينشغل بحل لغز اغتيال ميلود صبري واشتباه كونها عملية إرهابية، والمستوى الوطني حيث يناقش الكاتب برزانة وتركيز بليغ وفنية عالية جريمةَ اغتيال حلم وطن ووأْد مشروع بنائه من خلال فك خيوط الخيانة التي حدثت بين رفاق السلاح في أثناء الثورة وبعدها.
تصوير بانورامي للأمكنة
وقد استطاع أن ينسج بلغة بسيطة وسلسة -لا تفقد متعتها وجماليتها بذات القدر الذي تحفظ فيه قوة حبكة الرواية ورؤيتها- حكاية متوازنة في تنقلها عبر زمنين مختلفين، وفي تأثيثها بذاكرة طوبونيمية ثرية تعيد رسم خريطة مدينة وهران مسرح وقوع الأحداث. الروائي استطاع أيضًا مقاربة قضايا آنية مؤثرة في تاريخ الجزائر الحديثة والمعاصرة، ومناقشتها من دون أن يُفقد حكايته انسيابيتها ومتعتها الفنية الخالصة. كما استعمل الروائي تقنيات سينمائية تركز على مشهدية الحدث وتقوم على مونتاج فنيّ عالٍ يتجاوز الكرونولوجيا الزمنية، إضافة إلى التصوير البانورامي للأمكنة ورسم بورتريهات لشخصياته الروائية التي بدت حية ونامية ومنفعلة ومتفاعلة مع الأحداث، اكتملت صورتها على مدار الرواية ولم تقدم في شكل جامد رغم استعمال الراوي العالم.
احترافية الروائي عمارة لخوص تظهر بشدة في جملة من النقاط التي تعكس نضج تجربته الروائية، وتنوع روافده الثقافية والفكرية حتى اللغوية، فليس خفيًّا تأثره بالسينما الإيطالية والأدب الإيطالي والكوميديا الساخرة التي تظهر في مقاطع عدة لتؤدي رسالة قوية بليغة، وليس ذلك غريبًا عنه وهو الذي عاش في إيطاليا منذ سنة 1995م ووقع اسمه في المشهد الأدبي الإيطالي بفوزه بجائزة فلايانو الأدبية الدولية سنة 2006م عن رائعته «كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك»، التي حُوّلت إلى السينما والمسرح في إيطاليا وفي بلدان أوربية أخرى.
عمارة لخوص الروائي لم يتخلَّ عن أدواته الأنثروبولوجية، وهو الحائز على درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة روما سنة 2012م، حيث اشتغل على واقع المهاجرين العرب والمسلمين في روما، وهو ما جعله متخصصًا في شؤون الهجرة، وتظهر في رواية «طير الليل» مقاربته المرتبطة بالبحث الميداني والتاريخي تحضيرًا لمشروع نصه الروائي؛ إذ انتقل للعيش في مدينة وهران مسرح روايته، ليعايش الأمكنة والأحياء التي تدور فيها الأحداث، ويباشر بحثًا عميقًا في تاريخ المدينة وذاكرتها ليتمكن من توطين شخصياته وإقناع القارئ بواقعيتها، ولعل هذا دأب الروائي الذي انتقل بين مدن عدة في إيطاليا ليكتب نصوصه المختلفة.
الرواية البوليسية المتسلسلة
وظفت الرواية شخصية المحقق كريم سلطاني التي تجتمع عندها خيوط السرد، والتي ستكون شخصية متسلسلة تقوم في كل مرة بحل لغز جريمة ما، كما صرح الروائي الذي شارف على إنهاء نصه الجديد –بعد طير الليل- حول جريمة قتل زميل كريم سلطاني. عمارة لخوص يعمل على مشروع روائي متميز وجديد في مساره وفي مسار الرواية العربية، وهو الروايات البوليسية المتسلسلة التي تقوم على شخصية المحقق الرئيسة وتتنوع حكاياتها. وقد نجح في نصه الأول الذي يحمل المتلقي بكثير من التشويق والحبكة ليبلغه نهاية الرواية من دون أن ينتابه الضجر أو الملل، أو تهرب منه خيوط فك لغز الجريمة التي استطاع الروائي حياكتها ببراعة كبيرة تعكس حجم الجهد والتركيز الذي اشتغل به.
عمارة لخوص الروائي الجزائري المولد والنشأة، الإيطالي الجنسية والكتابة، والعالمي الفكر والمشارب الثقافية، ولد سنة 1970م في حسين داي في الجزائر العاصمة، كتب أول عمل روائي له عام 1993م بعنوان «البق والقرصان»، حمله معه إلى إيطاليا مخطوطًا؛ إذ لم يستطع نشره في الجزائر، ونشر عام 2003م في طبعة مزدوجة بنسختين عربية وإيطالية من توقيع المترجم الإيطالي فرانشيسكو ليجو. نجاح العمل حمل الروائي ليعيد تجربة نشر نصه باللغة الإيطالية فأعاد كتابة روايته الثانية «كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك» بنفسه باللغة الإيطالية في عمل استثنائي جزائريًّا وعربيًّا، وقد حقق نجاحًا باهرًا جعله يحتل مكانة مرموقة في المشهد الأدبي الإيطالي.
ومن ثم تكرس اسم عمارة لخوص بصفته كاتبًا إيطاليًّا عربيًّا يبدع باللغتين معًا. الروائي يحمل مشروعات عدة أبرزها الكتابة بلغة ثالثة هي اللغة الإنجليزية، حيث استقر به المقام في نيويورك منذ عام 2014م، ويعمل على التوطين لمشروع كتابته بالإنجليزية، وكعادة الأنثروبولوجيين فإن نزوله إلى الميدان هو جزء من عمله الإبداعي الذي يمهد به لتحقيق مشروعه، الذي لن يكتمل قبل أن يكتب يومًا باللغة الأمازيغية كما صرح في حوارات عدة، لغته الأم التي ظلت تحديًا آخر وضعه نصب عينيه، وراهن عليه لتحقيق تعدد لغوي وتنوع ثقافي متجانس.