«إمْنُشْرة» أو أسطرة المطر!!
في المجمل العام تخضع الممارسات الشعبية والعادات والطقوس والأساطير والتقاليد لدراسات معمّقة، وأبحاث ذات فرادة، ودلالة عرقية معرفية واجتماعية ودينية وثقافية وفق مشمولات التاريخ البشريّ، لها ميادينها ومنهجياتها وطرائقها واشتغالاتها ودروبها. ولذلك تأتي الأنثروبولوجيا بما تتضمنه من علاقات وموارد وتفصيلات كأحد العلوم، بل أساسها في دراسة الإنسان على مستوى السلوك البشري ووظيفته الاجتماعية ووفق تقسيماتها المتعددة، وبخاصة في علم الإثنوغرافيا الذي يُعنى مباشرةً بدراسة الحالة الوصفية للطريقة والممارسة والأسلوبية لحياة الشعوب وسلوكياتها، وما يتعلق تحديدًا بالشعوب البدائية الملتصقة بالطبيعة وبالأرض بوصفها الروح والوجود والتربة التي تنتمي إليها، والأنثروبولوجيا وما يحيط بها من دراسة وتحليل عميق للظواهر الثقافية ومضامينها الاجتماعية السائدة لدى معظم شعوب الأرض.
ومن ذلكم ما قد يتصل مباشرة ويتماسّ مع طبيعة وطقوس وأعراق سكان جنوب الجزيرة العربية، التي لا شك أنها تتمتع وتفاخر بإرثٍ حضاريّ وثقافيّ، ومخزونٍ له امتداد قيَمي واجتماعي موغل في كهوف الأرض وتجاويفها، وأطياف السماء المدهشة البديعة. إضافةً لفضيلة هذا الإنسان الجنوبي الممتدة ونقائه وفق مصفوفة الزمن والتأريخ، وما أفرزته الظروف الحياتية ونمط المعيشة والسياقات والتداعيات الحضارية، لنمط ونوعية التفكير التي قادتها الحاجة في البحث عن هذه الظواهر الطبيعية، والتأثر بها كأحد الشعائر الاستسقائية العروبية الأصل والمنشأ..!
لن أدّعي هنا الدراسة المنهجية لهذه الظاهرة على الرغم من أهميتها، ولكنّني أحاول أن أرصد شيئًا مما سمعناه من أفواه الأولين، وأرجو ألا تكون إدانةً بشعةً وتشنيعًا وشتمًا في حقِّ هذه الممارسة الشعبية القديمة ذات البعد الميثولوجي، إضافةً إلى أننا مدينون لهذه العادة الحقوقية في إعادة اكتشافها وتقديمها بما يحقق لها صيرورتها واستيعابها على مستوى الأنثروبولوجيا، وفق معطياتها المتعددة بعيدًا من قضية التعايش والجدل والممارسة.
عُرف العرب بعادات وطقوس تتعلق بالابتهالات والتضرع والتقرب إلى الله في لحظات الوجع والجدب والجفاف، وهو ما ينبئ بخطر قادم يهدد المحاصيل الزراعية ويحيلها ربّما إلى الفناء والعدم والاضمحلال نتيجة نقص كميات المياه الضرورية؛ إذ كان الحزن والبؤس والضيقة هي سيدة الموقف. واستقرار الحياة وديمومتها لا تكون إلا بإخصاب هذه الأرض كحالةٍ رمزيةٍ عميقةٍ، واقترانٍ وشيجٍ تتكاملُ فيه عناصر عدة لنزول المطر وجريان الأودية والسيول؛ إذ من دونها تكون الحياة شظفًا وضمورًا ومجاعةً لا غير.
الاستمطار كحاجة ونسق مجتمعي
من هنا كانت الحاجة الماسّة للاستمطار والاستسقاء الفطريّ وإحداث بعض الطقوس الموغلة في أديم الأرض، وفي أنساق المجتمعات الزراعية الرعوية على وجه الخصوص من خلال بعض الممارسات والاحتفالات المرتبطة والتوجه لبعض الممارسين القادرين، كما كان يراه أهل المكان، وفكّ شيفرة بعض الأنواء الكونية وعلاقتها بالحالة الطقسية وما يرافقها من علامات تتعلق بالموقف، ولذلك كان المشهد يسير وفق نصٍّ يقال ولا يكتب، يردّدُ ويحفظ، حواراته ذات ثيمة تُقَوّي الخشوع والتبتل والطاعة.
وأهميته تكمن في محاولة إخضاع بعض قوانين الطبيعة لممارسات حسية ملموسة باللجوء إلى الله تعالى والخضوع والتبرك من أجل نزول المطر، وفق معتقدات تتسم بالفطرة والتلقائية في التعاطي مع الأشياء، واستكناه التفاصيل ومقاربتها.
ولذلك فالأمر هنا لا يرتبط بميكانيزم الاحتفال والفرح والرغبة، رغم الأهمية طبعًا، وإنما يكون للحاجة المعتمدة على الطقس التعبدي، واقترانه وفق ثنائية (التضرع والرجاء) حتى إنهم في بعض الأحيان كانوا ينطلقون من المسجد، وبخاصة بعد صلاة الجمعة، وهو المكان الذي يجتمع فيه القوم؛ للتشاور والمداولة فيما حصل لهم ولأرضهم وأغنامهم، والحاجة الماسّة للماء وبشكل كبير.
وهذه تتجه نتيجة لقرار شعبي فطري متعارف عليه، وقانون حياتي باعث على الحاجة للماء ولا غير، ومعظم حالات الاستمطار والاستسقاء التي يطلقون عليها: إِمْنُشْرَة أو التنشير وفق اللهجات المحلية، تسير وفق نشاط إنسانيّ قديمٍ جدًّا مرتبط بالبشر، ويقوم عليه شخص يدعى بـ«المِنْشر» وهو الشخص الذي ارتبط ذهنيًّا في الذاكرة الشعبوية والمُتخيَّل الشعبيّ، بأنه يمتلك قدرات معينة تأتي وفق توجيه الطلب إلى الله؛ من أجل الاستسقاء وإنزال المطر وفق الظرفية الزمانية والمكانية. وهو ذاته لديه دُرْبة وتمرّس في التعامل مع الحالة والموقف، وتوجيه البوصلة في اتجاه مفصليّ متعلقٍ بالميثولوجيا، وبالطبيعة والميتافيزيقيا، والتصاق ذلكم بالصورة الذهنية، وتشكيل الوعي الجمعي تجاهه وكيف كانت تتم خلال فصلي الصيف والخريف، وهما الفصلان اللذان يعدان مناسبين لهذا الطقس الاجتماعي؛ لأنهما بحساب الفلك والزراعة فصلا الحصاد وإنتاج الثمار.
ولذلك تعد هذه الممارسات من أقدم التعالقات الطقوسية على امتداد هذا الجنوب المُتخَم والعريق والضارب هناك في عمق الحكايات والأساطير والطقوس، وهي تهدف إلى استمطار المطر والحياة، ومغادرة وإخضاع فعل الخصب والنماء للممكن، وإحالة ذلكم لنداءات الاستغاثة بالله تعالى وفق معادلات وممارسات طقسية دراميّة متصلة بحالة الاستسقاء.
وكيف كانت تجري هذه الأحداث برعاية إمْنَشِّر وطبوغرافيا الأمكنة؛ إذ يمكن أن تنجح هذه الحالة في مكان دون آخر، وهذه قد تكون مفارقة ومأزقًا قد تقع في غير مكان، لها شخوصها وتداعياتها المغايرة والمعبرة.
الفرجة الدرامية في ميثولوجيا المطر
والصورة هنا في مشهديتها وفرجتها في ذات اللحظة ملحمية، وعلاقاتها المتمثلة والملتصقة أحيانًا بالتطواف على الأرض الزراعية التي تحتاج للماء، وكيف تُقَنْطَر هذه الحكاية وفق معادلات عناصرها، هي التقاط بعض الأحجار الصغيرة وجمعها في سلة معينة، وبشروط ومميزات محددة بحيث تكون تلكم الحجارة من أخاديد ونتاج الأرض، وتربط بعد ذلك بعقدة محددة يكسوها أحيانًا قماش أبيض ناصع له رمزيته الخالصة المعتمدة على الطهارة والنقاء، إضافةً لقراءة وكتابة بعض ما يتيسر من آيات القرآن الكريم.
يرافق هذا المشهد ترديد كثير من الآيات والأحاديث التي تتوافق وطبيعة هذا الطقس، وما يلزم في الخضوع والطلب للخالق سبحانه وتعالى، ثم وضعها في أماكن متعددة في ذات المكان الذي يراد له حضور وهطول الحَيَا، يضاف إليها رش شيء من الماء في أماكن مختلفة. ويفضل نثر هذه المياه من أماكن عالية في استدعاء ربما يحيل المشهد والحالة، إلى قصدية الموقف وشكلية انهمار ونزول الماء من الأعالي، مرددين بذلك بعض أهازيج الحياة والخضوع وزملة الرجاء والاستجداء للرب بنزول المطر «ألا يا ربي…ألا يا ربي».
مشهد طقوسي عجيب
وهنا نستدعي، وفق ما ينقله لنا الشفاهيون، قيام بعض المنشّرين بالطواف بأحد أبنائه على تلكم المدرجات الزراعية في مشهد طقوسي درامي عجيب، يعتمد الفعل المسرحي التلقائي أساسًا في دخول هذه العوالم، وهما كاشفا الرأس شامخا القامة، مقبلان على ما عند ربهم، يتقاسمان دور البطولة في هذا الطقس المتجلي المطري ذي النزعة النفعية الوقتية المنتظرة!
وكانت تتم هذه الفرجة وفق عدد معلوم من المرات في الموقع المراد نزول الغيث فيه؛ إذ تمتد هذه المسافة إلى ما يزيد على المئة متر، ولربّما يحضر كذلك من «يخوّل»، وهو الشخص الذي يشير للمطر ويوجه البوصلة في اتجاهه، وفق مواصفات واشتراطات تتطلب قدرات فائقة لذات الشخص، مشحونة بالعديد من التوجهات والانفعالات والعواطف.
بيد أنَّ الإحالة هنا للمخوّل عاطفية حسيّة لها ارتباطها الوشيج بالإخصاب وحراثة الأرض، وإنتاجها ودلالاتها وما يقتضيه الموقف الذي يمهد صوتًا وصورة لاستقبال الحالة المطرية التي يسبقها تراكم السحب السوداء، أو كما يمكن تسميتها بسحابة وفيرة من الله، حاملة ببشرى الخير والخصوبة -المطر- وقد غطّت السماوات، يصاحبها البرق والرعد اللذان ربما استمرا أيامًا، وطمرت العديد من الآبار.
والشواهد عدة على ذات الأمر والتزام ذلكم كلّه بالميثولوجيا، وما يرافق الحالة من أَسْطَرة الموقف ومحاكاة الطبيعة، ورقصات المطر الرشيقة والتراحيب المتوالية بهذا الضيف العظيم والكبير، وأهازيج الفرح المبهجة، ومنها ما يقال أحيانًا «المطر جانا… رشّ معزانا»، التي لا تضاهيها أي لحظة فرح وبهجة وسعادة أخرى، في إشارة إلى بخور الأرض السرمدي المتصاعد والأزلي.