«ما بعد العلمانية» وعودة التدين في الغرب
في الآونة الأخيرة كثر الحديث والجدل عن العلمانية على الساحة العربية، واختلفت وتناقضت المواقف منها، وفي سياق ذلك يُذكَر في أحيان عدة مصطلح «ما بعد العلمانية»، وبعضهم يطرحه بمعنى «نهاية أو انتهاء العلمانية». وهذه المقالة تحاول أن توضح بشكل معرفي محض، ومن دون الانخراط في الجدل السياسي القائم حول العلمانية بين أنصارها وخصومها، ماذا تعني «ما بعد العلمانية»؟ والموضوع عربيًّا ليس مطروقًا بعد بشكل مفصل بما يكفي، رغم تكرر التطرق إليه في الحديث.
نشأة وانتشار مصطلح «ما بعد العلمانية»: يقول الباحث الروسي المختص ديميتري أوزلانير: إنه من الصعب تحديد متى استُخدِم مصطلح «ما بعد العلمانية» لأول مرة، وإنه يمكن القول فقط: إنه بدأ في الظهور في الأعمال البحثية المكرسة لنقد النظرية والتطبيق الحديثين للعلمانية في تسعينيات القرن العشرين، ويضيف بخصوص النمو السريع للاهتمام بالموضوع، أنه في عام 2004م كان محرك بحث غوغل على الإنترنت يعطي بضعة آلاف فقط من الروابط لكلمة «Post-Secular» (ما بعد علماني)، أما في عام 2012م، فقد بلغ ذلك نحو 70 مليونًا.
يرجع الفضل في نشر هذا الموضوع على نطاق واسع إلى الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس، الذي ركز الضوء على العلاقة المتوترة بين الدين والمجتمع العلماني المعاصر التي فجرت في رأيه أحداث 11 سبتمبر المأساوية.
ضرورة المصطلح
قُرِنَت النظرية العلمانية بين التحديث والعلمنة لمدة طويلة من الزمن، وسادت على مدى قرون فيها فكرة أن التطورات العلمية والاجتماعية والصناعية ستؤدي شيئًا فشيئًا إلى تراجع دور الدين وانسحابه المتتابع من الساحة الاجتماعية، وتحوله في نهاية المطاف إلى شأن شخصي محض غير مؤثر في الساحة الجمعية، وهذا ما بدا أن التغيرات الكبيرة التي حدثت في المجتمعات الغربية تؤيده وتؤكده، فقد تغيرت ليس فقط النظم السياسية والقوانين وأساليب وكميات ونوعيات الإنتاج، بل حدث أيضًا تغيير كبير في الثقافة والتقاليد والأخلاق والسلوك والعلاقات الاجتماعية وسواها، وشهدت المجتمعات أنماطًا مختلفة من التنوع والتعدد الثقافيين، وأصبح الدينُ الذي كان في القرون الوسطى سمة ثقافية شاملة لكل جوانب الحياة ومتغلغلة فيها جميعًا، أَحَدَ الخيارات العديدة المتنوعة، وعُدَّ غالبًا من إرث القرون الوسطى الماضي إلى الزوال.
لكن العقود الأخيرة بين أواخر القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، ذهبت عكس الاتجاه تمامًا، وعاد الدين حتى في الغرب الحديث إلى الازدهار والنمو، ولم يعد ينحصر فقط في النطاق الشخصي، وصار يلعب دورًا متناميًا ومؤثرًا في المستوى الجمعي، وفي هذا الشأن يقول عالم الاجتماع الأميركي بيتر بيرغر: «أعتقد أن ما كتبته أنا ومعظم علماء الاجتماع الدينيين الآخرين في الستينيات حول العلمنة كان خطأ. لقد انطلقنا من الاقتناع بأن العلمنة والحداثة تسيران جنبًا إلى جنب. كلما زاد التحديث، زادت العلمنة. لم تكن هذه نظرية مجنونة، حيث كانت هناك حقائق تدعمها. لكن في الأساس، أعتقد أنه كان خطأ. معظم العالم اليوم ليس علمانيًّا. إنه متدين جدا».
إشكالية المصطلح
ليس هناك إجماع بين المفكرين والمختصين على مفهوم محدد لـ«ما بعد العلمانية» وماذا تعني بالضبط، ولكن في الوقت نفسه هناك اتفاق على أن المصطلح مرتبط واقعيًّا بعودة الدين إلى النمو والفاعلية في المجتمعات الغربية.. المعتبرة علمانية.
لكن ماذا تعني عودة الدين هذه إلى النشاط والتأثير؟ يرى بعضٌ أن عودة الدين هذه هي إضعاف للعلمانية وتراجع عن عمليات العلمنة ومفاعيلها، وكأن العالم الذي أصبح «علمانيًّا في العصر الحديث» بعد أن كان «دينيًّا» في القرون الوسطى، يعود ليصبح «دينيًّا» من جديد، وبهذا المفهوم تتطابق «ما بعد العلمانية» مع مفهوم «نزع العلمانية» أو إلغاء العلمانية الذي وضعه بيرغر.
لكن مفكرين آخرين لا يرون أن ما بعد العلمانية هي نزع أو إلغاء للعلمانية، ففي رأي كازانوفا: «أن نصبح ما بعد علمانيين لا يعني بتاتًا أن نصبح بالضبط دينيين من جديد، بل يعني إعادة النظر في التناقض المرحلي المبسّط بين الديني والعلماني كتناقض بين ما قبل العقلاني والعقلاني». كما يرى عالم الاجتماع الإيطالي ماسيمو روساتي أن المنظورات الدينية والعلمانية تتساوى على أرض الواقع في المجتمع ما بعد العلماني، ويصبح لكليهما أهمية متساوية من الناحية النظرية، وأنه على المجتمعات الحديثة التي عَدَّتْ نفسها علمانيةً تمامًا حتى وقت قريب تغيير أنظمة قِيَمِها وفقًا لذلك؛ لتتوافق على نحو صحيح مع هذا التعايش. وفي مقابل كل ما تقدم يرى آخرون أن مصطلح «ما بعد علماني» متناقض بشدة بحيث لا يكون له فائدة تُذكَر، فيما يرى سواهم أن مرونته هي واحدة من نقاط قوته.
ما المفاعيل الممكنة لعودة الدين في المجتمعات الحديثة؟ إن عودة الدين للانتشار على المستوى الجماهيري في مجتمعات تحكمها أنظمة ديمقراطية، تطرح سؤالًا جديًّا عن إمكانية أن يتنقل هذا التأثير إلى المستوى الرسمي عبر بوابة الديمقراطية نفسها، وعما إذا كان مبدأ الفصل بين الدولة والدين نفسه قائما أم إنه سيخضع بدوره للتغيير، وفي هذا الشأن يقول طلال أسد: إنه «إذا أصبح الدين جزءًا لا يتجزأ من السياسة الحديثة، فهذا يعني أنه لم يعد بإمكانه عدم الاكتراث بالمناقشات حول أي اقتصاد يجب أن يكون هناك، وما المشروعات البحثية التي يجب أن تحصل على التمويل، وما الأهداف الإستراتيجية لنظام التعليم الحكومي. يؤدي اقتحام الدين الشرعي لهذه المناقشات إلى ظهور «الهجائن» الحديثة: لم يعد مبدأ التمايز البنيوي، الذي يُوضَعُ بموجبه الدينُ والاقتصادُ والتعليمُ والعلمُ في مساحات اجتماعية مستقلة؛ صالحًا».
مخاوف تثيرها عودة الدين إلى الجماهيرية
إن النظر إلى العلمانية والدين كقطبين متضادين في حالة استقطاب وانفصال وصراع، ترتبط بلا شك بفهم ما بعد العلمانية كـ«إلغاء للعلمانية» أو «ضد للعلمانية»، وعودة الدين إلى الجماهيرية في رأي أصحاب هذه النظرة من العلمانيين تعني تراجعًا مماثلًا في جماهيرية العلمانية، وهذا يولد لديهم تخوفًا من أن هذا يمكن أن يؤدي إلى نشأة «قرون وسطى جديدة»، وعودة ما كان يرتبط بها من تعصب ورفض للاختلاف وإقصاء للعقل وللعلم، ويهدد بذلك كل الإنجازات التي تحققت خلال المرحلة العلمانية، وهذا التخوف يعززه تنامي الأصوليات والحركات المتطرفة الدينية في الغرب المعاصر.
هذا الموقف لا يشارك فيه آخرون لا ينظرون إلى العلاقة بين الدين كعلاقة إلغاء متبادل، ويرفضون فكرة أن عودة الدين إلى الجماهيرية تعني إلغاء العلمانية والردة إلى القرون الوسطى، وبدلًا من ذلك يتحدثون عن «ما بعد العلمانية» كواقع اجتماعي جديد، تنشأ فيه حال من الهجونة بين العلماني والديني، ويحظى كل منهما بالدرجة نفسها من الاعتراف، وعن هذا يقول الفيلسوف واللاهوتي الأميركي جون كابوتو: «أنا أصر على أن أسلوب التفكير «ما بعد العلماني» يجب أن يظهر كنوع من تكرار التنوير، كاستمرار للتنوير- بوسائل أخرى، مثل التنوير الجديد، الذي يكون مستنيرًا بالنسبة لمحدودية القديم. يجب فهم «ما بعد» في «ما بعد العلمانية» ليس بمعنى «انتهت اللعبة»، ولكن بمعنى «بعد اجتياز» الحداثة…».
ما العلاقة بين العلمانية وما بعد العلمانية؟
كما سلف الذكر هناك آراء مختلفة حول هذه المسألة، ويزيد من حجم الاختلاف فيها وجود اختلاف ليس حول مفهوم ما بعد العلمانية، بل على مفهوم العلمانية نفسها؛ إذ يرى فلاسفة وعلماء مثل كارل ماركس وسيغموند فرويد وماكس ڤيبر وإميل دوركهايم أن تحديث المجتمع سيشمل تراجع مستويات التدين، ويعرف ڤيبر العلمانية بأنها «إزلة السحر» عن العالم…، وهذا ما لا يوافق عليه الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور الذي يلتقي عددًا من المفكرين في عَدِّ العلمانية ليست مجرد غياب للدين، وأنها مسألة فكرية سياسية يجب أن تفهم كبناء تاريخي، وبذلك لا يرى تايلور العلمانية والدين توجهات متنافسة، بل أنواعًا مختلفة من الخبرة الحية التي تتعلق بشكل وثيق بفهم الحياة بطريقة أو بأخرى، أما عالم الاجتماع والمؤرخ الفرنسي جان بوبيرو فيرى أنه بدلًا من الحديث عن «علمانية واحدة» يجب الحديث عن «علمانيات عديدة مختلفة» تتناسب كل منها مع اختلاف الظروف والعوامل الاجتماعية في مجتمعها، وبذلك لا يستثني حتى إمكانية قيام «علمانية إسلامية»، كما أنه يرى أن العلمانية في جوهرها هي مجرد حياد للسلطة السياسية، ومن مستلزمات هذا الحياد ألا تمنع التعبيرات الثقافية والدينية من التمظهر في الحياة العامة، أما عبدالوهاب المسيري فيرى أن العلمنة تحمل معنيين: العلمنة الجزئية وتعني فصل الدين عن الدولة، والعلمنة الشاملة وتعني الفصل بين الدين والقيم الأخلاقية والإنسانية.
وبالطبع، عندما تختلف المواقف حول مفهوم العلمانية، فهي تنتج اختلافًا مماثلًا في فهم ما بعد العلمانية والعلاقة بينها وبين العلمانية، لكن على الرغم من عدم وجود إجماع في المواقف، فالموقف الأكثر شيوعًا يقوم على النظر إلى ما بعد العلمانية ليس كَرِدَّةٍ وتراجعٍ عن العلمانية، بل كتجاوز للعلمانية انطلاقًا من العلمانية نفسها إلى حالة جديدة تنتهي فيها العلاقة التضادية بين العلمانية والدين، وينشأ تركيب اجتماعي ما بعد علماني جديد أكثر توازنًا وتوافقًا. وفي رأي أوزلانير الوضع ما بعد العلماني الجديد ينشأ على الأساس الذي وُضِعَ في سياق عمليات العلمنة التي استمرت لقرون، وكان من نتائجها، تطوير المعرفة العلمية العلمانية، وتشكيل المؤسسات السياسية العلمانية، والقانون العلماني، وما إلى ذلك، ومن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تجاهل كل هذا.
ما سبب عودة الدين إلى الجماهيرية؟
يذهب عدد من الطروحات إلى أن هذا مرتبط بالمأزق الذي يقود التحديثُ العلمانيُّ المجتمعَ إليه، ويرتبط بدوره بخيبة الأمل في إمكانيات العلم ووجهات النظر العلمانية الرئيسة في الإجابة عن الأسئلة الأخلاقية العملية الرئيسة التي تهمّ الإنسان، كما يقول أوزلانير؛ ويرى كازانوڤا أن الأديان قادرة على القيام بدور إيجابي، على وجه الخصوص، لتصحيح بعض التجاوزات الخطيرة للحداثة؛ وهي في رأي هابرماس يمكن أن تساعد على تصحيح «الحداثة المنحرفة».
خلاصة
بناءً على ما تقدم، يمكن القول: إن «ما بعد العلمانية» أصبح أمرًا واقعًا في الغرب المعاصر ولا يمكن تجاهله، وهو مرتبط بشكل جوهري ببقاء الدين وتجدد نموه وعودته إلى لعب دور مؤثر في الفضاء العام رغم كل عمليات التحديث الجارية، وهو ما يتنافى مع أطروحة الربط بين العلمنة والتحديث، وهذا ينتج مواقف مختلفة في فهم العلاقة القائمة حاليًّا بين العلمانية والدين في المجتمعات الحديثة وفي تصور مساراتها المستقبلية، وفي أكثر المواقف موضوعية لا يُنظَرُ إلى ما يجري وكأنه عملية تذبذب أو تقافز بين قطبي الدين والعلمانية المتناقضين، بل كمرحلة متسلسلة في سياق عملية التغير التاريخي الشاملة التي تتطور عبرها المجتمعات من عصر إلى عصر، وبكلمات أوزلانير: «بدلًا من المحاولات المضللة للتفكير من منظور نوع من الانقسام الثنائي العالمي إلى «ديني- علماني»، يقترح النموذج ما بعد العلماني فهم الانتقال من العصور الوسطى الدينية إلى العصر الحديث العلماني، وأخيرًا، إلى ما بعد العلمانية الحالية كتغيير متسلسل للأنظمة المعرفية المختلفة مع ما يخصها من «القواعد اللغوية للمفاهيم» وما يتعلق بها من «أشكال الحياة» المختلفة. هذه الأنظمة المعرفية، بالطبع، مترابطة داخليًّا، لكن هذا لا يلغي الفجوة النوعية التي تحدث في الانتقال من واحدة إلى أخرى».