قصيدة إيوان كسرى

قصيدة إيوان كسرى

اتفق النقاد جميعًا على أن سينية البحتري من أروع ما قيل في الشعر العربي القديم. يقول محقق الديوان في الحاشية، ج2، ص1152: «قال يصف إيوان كسرى بالمدائن، ويتعزّى به». والمفترض-والحال هذه- أن تكون القصيدة وصفًا كلية، أي: أن تكون القصيدة موضوعية، لا ذاتية، بيد أن ما نجده هو حديث عن الذات، أي: أن القصيدة تندرج في الشعر الغنائي الذي تتحكّم فيه «الأنا». وليكن ذلك، فالأساس هو أن يتفاعل الشعر مع موضوعه بحيث يتحولان إلى كلٍّ واحد. وعلى العموم، تبدأ القصيدة بإعلان:

صُنتُ نفسي عمّا يُدَنِّس نفسي

وتَرَفَّـعـتُ عن جَدا كلِّ جِبس

فهو يعلن ما يُفترَض أنه الصدمة النفسية التي طرأت عليه، وهو ما يَكشفه قوله:

واشترائي العراقَ خُطَّةَ غَبـنٍ بعد بـيعي الشآم بـيعة وَكس

إنه أصبح غير مرغوب فيه في العراق؛ لأنه:

ولقد رابني نُـبُـوُّ ابن عمّي

بعد لينٍ من جانبـيه وأُنـس

جاء البحتري ليمدح، فلَقِي النُّكران والجفاء. وهنا ما كان عليه إلا أن يغادر.

حضَرت رَحلِيَ الهمومُ فوجَّهـ

ـت إلى أبيضِ المدائن عَنسي

لقد رحل كي يُسقط ما في نفسه على ذلك القصر:

أتَسَلّى عن الحُـظوظ وآسى

لِـمَحَـلٍّ من آلِ ساسان دَرْس

أَذكَرَتـنيهمُ الخُطوب التوالي

ولقد تُذكِر الخطوبُ وتـُنسي

و«الخطوب»: المصائب والابتلاءات، وعثرات الحظوظ، إنها تاريخ يحمله في ذاكرته عن ماضٍ عايشه بالعراق، ولا سيما نكبات الخلفاء، وعلى وجه الخصوص المتوكل. والملحوظ أن الأبيات التي يُفترض أنها تصدمنا أيضًا -نحن المتلقين- بالفاجعة أن تفيض بالألم والحزن الشديدين، فهو القائل:

وتماسكت حين زعزعني الدهــ

ــر التماسًا لتَعسي ونَكسي

غير أن الأبيات سردية، ليس فيها ذلك الإحساس الأليم بالانهيار النفسي، حتى إن ما يبديه من تماسك يحوِّله إلى فخر. ويبدو أن اختياره وزن الخفيف أسهم إسهامًا كبيرًا في الحَدّ من اندفاعه وتفريغ شحناته العاطفية، أي: أن العقل هنا يسيِّر هذه الأبيات، وليست العاطفة المفترضة فيها، وهذا واضح من مطلع القصيدة الذي أثَّر فينا جَرْسيًّا، ولكنا لا نشاركه انفعالًا: «صُنتُ نفسي…»، وليس هنا انبهار، وليس هنا صرخات وتوجعات، بل برزت الحكمة والتهدئة. لقد كان المفترض أن يعبِّر البحتري عن فاجعته، عن صدمته -أيًّا كانت الفاجعة والصدمة- بغير هذا الأسلوب المتعقّل جدًّا؛ فالمقدمة منبتَّة الاتصال بالرحلة، وكأنها أُلصِقت بها فيما بعد، فهي غير ذات صلة بالموضوع، أو بقول آخر لا تحمل الهموم التي دفعته إلى الرحلة: «حضرت رحليَ الهموم…».

وعلى كل حال، فهذه البداية هي مقدمة طللية بأسلوب آخر، وهنا يقف الشاعر على «الطلل»
(القصر)، فيقول:

وهُـمُ خافـضون في ظلّ عالٍ

مُشرِف يَحسِر العيون ويُخسي

مُعلَقٌ بابُه على جبـل القَبــ

ــق إلى دارتَي خِلاطَ ومُكس

وبعده:

نَقَل الدهرُ عهدَهنَّ عن الـ

جِــــدَّة حتى رجعن أَنضاءَ لُبس

فكأن الجِرمازَ من عَـدَم الأُنـ

ـــس وإخلاله بَـنِـيَّةَ رَمس

أي: أن المكان خالٍ مقفر. ثم يقول:

لو تَراه علِمت أن الليالــي

جَعَـلت فيه مآتمًا بعد عُـرس

وهو يُنبيك عن عجائب قـوم

لا يُـشاب البـيانُ فـيهم بلُبس

خارطة لبلاد فارس

وينقل البحتري في هذه الأبيات خارطةً لبلاد فارس وما يكتنفها من شواهق الجبال حتى بحر قزوين وجبال القوقاز حيث يمتدّ السُّور الحاجز، ويَحكي ما أصاب أهله، ويصف القصر وصفًا خارجيًّا دون محاولة التوافق معه، فيأتي التصوير كله منقطعًا، منفصلًا، مجزوءًا عما قاله: حضرت رحليَ الهموم…/ أتَسَلّى عن الحُـظوظ وآسى… وهو ما لا يشي بـأدنى درجة الأسى، وقد بلغت ذروتها في هذا الانتقال إلى مكان التعزّي عن الفقد الأول. ثم يدخل البحتري القصر، فينقل من صوره صورة معركة بين كسرى، أنو شروان، والروم، التي وقعت سنة (450م):

وإذا ما رأيت صورة أنطــــا

كيّـة ارتعت بين روم وفرس

والمنايا مواثـلٌ وأنو شـــر

وانَ يُزي الصُّفوف تحت الدِّرَفس

في اخضرار من اللباس على أصــ

ــفرَ يختال في صَبيغة وَرس

وعِراكُ الرجال بين يديــــه

في خُفوتٍ منهمُ وإغماض جَرس

من مُشيحٍ يَهــوي بعامل رُمح

ومُليحٍ من السِّنان بـتُـــرس

تَصِف العين أنهم جِـــدُّ أحيا

ءٍ لهم بـــينهم إشارة خُرس

يَغتــــلي فيهم ارتيابيَ حتى

تَـتَـقــرّاهم يــدايَ بلَمس

وهذه الصور هي الصور التي رَفعت من مستوى القصيدة، وحققت لها الشهرة الواسعة؛ لأنها أشاعت في جوّ المعركة الحياة والحركة. واللافت أن صورة المعركة صورة فرِحة وبهجة بيوم عزّ وانتصار عظيم. ثم يأتي قوله عن القصر «الجرماز»:

فكأن الجِرمازَ من عَـدَم الأُنـ

ـــس وإخلاله بَـنِـيَّةَ رَمس

لو تَراه عـلِمت أن الليالــي

جَعَـلت فيه مآتمًا بعـد عُـرس

فهل حقيقة ما قاله هيثم قاسم جديتاوي، البناء الدرامي في القصيدة العباسية، إربد: مؤسسة حمادة، ط1، 2011م، وقد أثبت، ص179، وانظر، ص184: «أن وضعًا نفسيًّا أليمًا خطيرًا ألَمَّ بالشاعر دعاه إلى إنشاء قصيدته هذه»، عن لوحة الإيوان هذه: «أن البحتري تمكن من خلالها من نقل عدوى الدهشة والانبهار اللذين عاشهما إلى متلقيه حتى شاركوه في مشاعره…»؟

وتزداد الهُوّة بين مقاطع القصيدة حين نجده ينتقل فجأة إلى وصف الخمرة والساقي والمغنّي، فيقول:

قد سقاني ولم يُصَرِّد أبو الغو

ث على العسكرين شَربة خَـلس

من مُدام تَـــظنّها هي نجم

ضَـوَّأَ الليل أو مُجاجة شـمس

وتراها إذا أَجَدَّت سُـــرورًا

وارتياحًا لـــلشارب المُتَحَسّي

أُفرِغت في الزُّجاج من كل قلب

فهي محـــبوبة إلى كلّ نفس

وتَوَهَّمتُ أن كسرى أبرويـ

ــز مُعـاطِيَّ والبَلَهبَـذَ أُنسي

حُلُمٌ مُطبِقٌ على الشكّ عــيني

أم أمانٍ غَيَّرْن ظني وحَــدسي

فلقد انتقل البحتري من جوٍّ، يُفترَض أنه جوّ مأسويّ، يجمع فيه بينه وبين القصر إلى الحديث عن الخمرة التي شغلته، وسيطرت على عقله، وكرّس الحديث فيها عن ذاته، مستعينًا بما عرفه عن كسرى أبرويز وساقيه، البلهبذ، وليس بما راه من مناظر لهوٍ وأنس، بل أحدث انقطاعًا بين الصورة الكلية للإيوان بانتقاله إلى هذا الجو بما يحمله من تأثير نفسي عكسي حتى إن هذا الموقف الذي وصفه بـ «حُلُمٌ مُطبِقٌ» لم يُنَمِّ الصورة، فلم تتطور الصورة، بل جاءت في غير سياقها. ومرة أخى، وهي مسألة عجيبة حقًّا أن نرى في هذا الذكر للخمرة، حسب رؤية جديتاوي، ص193: «لم يملك البحتري إلا أن يتناول الخمرة من كفّ ولده… للتخلص مما اعتمل في نفسه…»! أليس هذا نشازًا ونبوًّا عن السياق؟ ألم تكن الخمرة وسيلة أخرى لاستجلاب الاستغراق والتأمل؟ وهذا ما لم يحدث، وإنما هو إقحام- أو افتعال، أو حتى عمليًّا شرب الخمر- لم يُحسن البحتري توظيفه. فهل استدعاءالخمرة هنا هو كما رأى جديتاوي، ص194 «البحتري يشربها حزنًا وألمًا على قلوب أبناء أمته المحزونة من الأوضاع التي صاروا إليها…»؟

ولم يلبث البحتري أن ابتعد من القصر، فراح يحكي عنه بما عكس شعوره هو، فقال:

وكأن الإيوان من عَجَب الصَّنعــ

ـعة جَوفٌ في جَنب أَرعَنَ جَلس

يَتَظَنّى من الكآبة إذ يبــــ

ـدو لعيني مُصَـــبِّحٌ أو مُمَسّي

وهو نفسه ذكر هذا المعنى قبلًا حين قال:

«فكأن الجِرمازَ من عَـدَم الأُنس…». وهو يقول هنا:

مُشمَخِـرٌّ تَـعلو له مُشرِفاتٌ

رُفِعت في رؤوس رَضوى وقُدس

لابساتٌ من البياض فـما تُبـ

ــصِر منها إلا غلائلَ بُــرس

والمعروف أن الإيوان في منبسط من أرض المدائن، وليس في قِمم الجبال بحيث يناطح السحاب؛ وذلك حسبما تقول الصور: «رُفِعت في رؤوس رَضوى وقُدس». ولا يُقَدِّم البحتري استشفافًا للصور، وإنما حَدسًا بما كان يبتدئ بقوله:

فكأني أرى الـمراتب والقــو

م إذا ما بلغـتُ آخـرحِـسّي

وليت حِسّه جاء فيضًا حتى آخر أنفاسه!! وتختتم قصيدة (الخالدة) بما لا علاقة له بالذات، أو بالوصف، وإنما بذكرى عصية. إذن، اجتمع لهذه القصيدة أمران ثبَّتاها في الأذهان: أولهمـا: حِسّ الفجيعة والمأساة. وثانيهما: جَرْس السين، في قافيتها، إضافة إلى نقل مشاهد تلك المعركة، بيد أن فيها قوله: «…دارتَي خِلاطَ ومُكس»، وفي جبال القوقاز لا توجد دارات، حيث «أخلاط»: قصبة أرمينيا الوسطى، و«مكس»: ناحية بأرمينيا، وإنما طبيعة غنّاء. ثم لِم التعريض بالعرب في قوله:

حِلَلٌ لم تكن كأطلال سُعــدى

في قِـــفار البَسابس مُلس

ومَساعٍ لولا المُحاباة مــني

لم تُطغها مسعاة عَنس وعَبس؟

أوليس هذا خروجًا، وعدمَ تركيز؟ إذن، هناك فجوات في القصيدة، أدّت إلى تكثير الأبيات، مع عدم الربط بينها؛ إذ تبدو مفككة الأجزاء، لا جامع لها إلا جَرس القافية، وفيها تغليب للقافية على فكرة القصيدة باستدعاء مفردات مثل: «عنس وعبس»، «أطلال…ملس»! وليس للمقارنة هنا مجال، على النقيض مما يذهب إليه جديتاوي، ص186.

لغة الكلام

إن أهم خاصية من خصائص شعر البحتري هو اقترابه من لغة الكلام، مع الاحتفاظ بسمت القصيدة، على العكس من أبي العتاهية مثلًا، أي: أنه استطاع تحويل النثر إلى شعر حتى في صورة المعركة تلك، فلو قرأنا هذه القصيدة التي هي: «من أروع ما في الشعر العربي»، دون وزن وقافية، لاستحالت نثرًا. ومن العجب أن البحتري في هذه القصيدة لم يتوحَّد بالتصوير، أو الحكاية فيها، بل كان يقف بعيدًا منها: «يتعزّى»، كما قيل في مقدمة القصيدة، أو كما ذكر: «أتسلّى»، وكان كما يقول: «وتماسكت»، إنه لم يهتزّ من أعماقه لهذا المشهد المثير، وكانتأداة التشبيه”كأن”تفصل بين الإحساس المنفعل بالمشهد والمشهد نفسه، حتى ختم القصيدة بذلك الحديث الفاتر عن «أرياظ» في غزو اليمن. وسواء ذهب من ذهب إلى أن التعريض بالعرب من طريقة شعراء الشعوبية، محمد أبو الأنوار، الشعر العباسي (القاهرة: مط التقدم، 1983م) ص428. أو حسبما ذهب إليه جديتاوي، ص201: «أن الزمن…هو الذي أحال ديار سعدى أطلالًا، كما أحال حضارة الفرس أطلالًا بأيدي أصحاب أطلال سعدى- بعد أن وحّدهم الإسلام وقوّى شوكتهم… وهو دون سواه من سيُعمل في خلافة المسلمين وحضارتهم سطوته- بأيدي الأتراك…». وهذا استنتاج بعيد، فليس في القصيدة استشعار بالمستقبل، وإنما إحساس آنيّ بالزمن. وهي فكرة أبو الأنوار قبله، ص ص429-430. وكل هذا ينفي مقولة عبدالفتاح نافع، الشعر العباسي قضايا وظواهر (عمّان: دار جرير، ط1، 2008م) ص156: «استطاع عن طريق الخيال أن يخرج عن نطاق الحس، وأن يتجاوز سطح المرئيات ون يخلق قصيدة متخيلة تتصل جميع عناصرها معاً وتلتحم بنفسية المبدع وتقدم الذات والموضوع في آن واحد”.ن يخلق قصيدة متخيلة تتصل جميع عناصرها معاً وتلتحم بنفسية المبدع وتقدم الذات والموضوع في واحد… فجاءت قصيدته حلما”.

وأن يخلق قصيدة متخيلة تتصل جميع عناصرها معًا وتلتحم بنفسية المبدع وتقدم الذات والموضوع في آن واحد… فجاءت قصيدته حلمًا». أو كما قال، ص165: «ويعيش الشاعر قمة التأمل والاستغراق لحظة سكر حقيقي». ولو صحّ شيء من هذا، لصحّ على أبيات البحتري في الربيع، فما نحسبه وصفًا خالصًا للربيع هو تشبيه لممدوحه، الهيثم بن عثمان الغنوي، ج4، ص ص2090-2091، حتى يقول في نهايتها:

ورَقّ نسيم الريح حتى حسِـبـتُه

يجيء بأنفاس الأحبّة نُـعَّـما

فما يَحبِس الرّاحَ التي أنتَ خِلتَها

وما يمنع الأوتار أن تـترنّما

وله وصف لا يقِلّ مشابهة لهذا، لولا أن الوزن والقافية لم تتسعا له، فتشهره، ج4، ص ص2176-2177؛ وانظر، ص ص2416-2420. ولعلنا نختتم هذه الأوصاف المتشابهة بوصف البحتري، ج4، ص200، قصر المتوكل، المعروف بـ«الصَّبِيح»، وقصرًا آخر بإزائه يقال له «المَليح»، فنتبيّن شدة تشابه الطريقة بينهما، من حيث كون وصف البحتري وصفًا خارجيًّا، لا تفاعل فيه، ولا توحّد معه، وهما عاملان أساسيّان لنقل الوصف من حالة الحضور والمشاهدة إلى حالة الاندماج والدهشة والذهول. أي، كما يقول أبو الأنوار، ص381، عن بعض وصفه: «وقوفه عند المشاهد الحسية والأبعاد الشكلية». أو حسب عبارات محمد مهدي البصير، في الأدب العباسي (بغداد: مط السعدي، 1955م) ص245: «البحتري يصف الأشياء والحوادث… بمنتهى الأمانة والمهارة فلا يزيد فيها ولا ينقص منها، وإنما يرسمها لنا في ألواح الشعر كما هي».