العلاقة بين السياسة والأخلاق حركة الإخوان نموذجًا

العلاقة بين السياسة والأخلاق

حركة الإخوان نموذجًا

من الموضوعات التي شغلت الفكر في جميع العصور دراسة العلاقة بين السياسة والأخلاق، وقد طور الفكر الغربي تلك العلاقة بشكل عام من خلال تبني فكرة ميكافيلي في كتابه الأمير القائلة إن «الغاية تبرر الوسيلة». وعلى الرغم من محاولة سياسيين في الغرب، بعد تطور الديمقراطية، أن يربطوا ربطًا إيجابيًّا بين العاملين: (السياسة) و (الأخلاق)، فلم يكن النجاح حليفهم وإن أظهرت بعض سلوكياتهم غير ذلك، ففي النهاية تتغلب المصالح (التي لا تعبأ كثيرًا بالأخلاق) على القيم الأخلاقية العليا، فتاريخ السياسة هو الكذب الصريح أو الخفي، إلى درجة أُلفت كتب في هذا المقام حول (كذب القادة)(١)، إلا أن للأخلاق مفهومًا أوسع من مجرد الكذب. الصدق أحد قيم الفضيلة أما الأخلاق فهي تشمل الصدق والأمانة واحترام الإنسان وحقوقه. والخروج عن الأخلاق له تاريخ طويل يمكن الاستدلال بأحداثه التي تقودنا في مجملها إلى تلك النتيجة وهي التعارض، وليس التوافق، بين منظومة الأخلاق وبين العمل السياسي.

من جهة أخرى حاولت الفلسفة السياسية الإسلامية بشكل عام أن تعكس ما ذهب اليه ميكافيلي بقولها «إن الوسيلة جزأ من الغاية»، فإن كانت الغاية نبيلة فإن الوسيلة للوصول إليها يجب أن تكون نبيلة أيضًا، إلا أن تلك المقولة لم تصمد كثيرًا في الممارسة وفي كل الأوقات، فسرعان ما تغلبت (الطبيعة البشرية) لتفرض فكرة جواز تحقيق الغاية، وهي في الغالب مثالية وخيرة، باستخدام وسائل ليست خيرة في حالة الضرورة، وهذا ما نجده في معظم تاريخنا المكتوب. والفارق أن بعض القوى السياسية والجماعات المنظمة تدعي الخير والعدل والفضيلة والمشاركة والبناء وتنظم وتحشد محازبيها خلف تلك المقولات، لكنها في الغالب تتصرف خلاف ذلك تمامًا في سياستها الداخلية مع أعضائها والمنضوين تحت لوائها أو مع الآخرين المختلفين أو المخالفين.

ويبقى سؤال: لماذا اختيار «حركة الإخوان المسلمين» لدراستها في هذا المقال من منظور (السياسة وعلاقتها بالأخلاق)؟ والجواب يكمن في أن أكبر مشروعين مطروحين علينا اليوم في منطقتنا ويدعيان أنهما عابران للمواطنة، هما المشروع السياسي السني (الإخوان)، والمشروع السياسي الشيعي (ولاية الفقيه)، وكلاهما يتجاوزان الوطن بالادعاء أن لديهما حلولًا سياسية عابرة وناجعة لما يريانه من علل في مجتمعاتنا. والإشكال أن (الإسلام السياسي) يقوم على مقولات دينية ثابتة ومعروفة القيم وبخاصة الأخلاق الحميدة، ولأن ممارستها السياسية تقليدية وخارجة عن العصر، فإن التناقض يبدو جليًّا ومناقضًا تمامًا لما يدعون إليه.

هنا تكمن المعضلة التي تواجه هذه التنظيمات، وإن كانت دراسة المشروع السياسي المذهبي الشيعي (ولاية الفقيه) خارجة عن مجال هذه الورقة. وعلى الرغم من أن حركة الإخوان المسلمين، ممنوعة في بعض البلدان العربية وشبه مسموح لها في بلدان أخرى إلا أن تنظيماتها فاعلة وتأخذ أشكالًا من (التحورات) تلائم بها نفسها مع المتغيرات حولها؛ فهي تختفي لكنها لا تغيب وتبقى مؤثرة في المشهد السياسي العربي والمشرقي، وربما ذلك ناتج من سببين: الأول أنها تتكئ على مقولات إسلامية مُستلة من سياقاتها وتفسرها حسب أهوائها وتبلغها للناس وتطوعها على أنها (الدين كله)، والناس بطبعهم مسلمون تقاة ويميل بعضهم إلى ذلك التيار من التفسير، والسبب الآخر هو غياب المشروع المضاد من أجل بناء الدولة الوطنية العادلة والتي تحتاج إلى جهد عقلي وفلسفي وتنظيري لم يبذل بكثافة حتى الآن، إلا أن الملحوظ، حسب ما انتهى إليه حكم هذه المجموعة في (الإسلام السياسي)، أنها غير قادرة على تقديم مشروع متماسك وحديث لانتشال الوطن- الذي حكمته أو مازالت تحكمه- من وهاد التخلف. مثالنا ما حدث في السودان أمام نظر العالم أجمع، وما حدث في مصر (مع أن التجربة أقصر) وما يحدث اليوم في تونس، وفي بلدان عربية وغير عربية تشارك تلك المجموعات بقسط وافر أو قليل في تسيير الأوضاع العامة فيها.

وبسبب النشأة والتنظيم والفكر، الذي يتبنى الطرق الفاشية أو الماسونية في تجنيد الأتباع واحتكار الرأي(٢) فهو تنظيم (حديدي)؛ ليس فيه فسحة لرأي آخر غير ما تراه (الجماعة)، والعدد الصغير في القمة التنظيمية، أما النابهون وأصحاب الرأي، وإن بقي بعضهم ردحًا من الزمن في التنظيم، فسرعان ما يختلفون معه مع قادتهم ويخرجون من التنظيم، لكنه خروج صعب؛ فقد تتساهل الجماعة مع المخالفين من خارجها لكنها تذيق من يخرج منها العذاب معنويًّا وفي بعض الأوقات ماديًّا، وربما يكون القول الشائع صحيحًا إن «عدد الإخوان خارج التنظيم أكثر مما بداخله»! من هنا فإن دراسة علاقة تنظيم الإخوان المسلمين بالأخلاق (السياسية)(٣) وليست الشخصية، هي عملية فكرية مستحقة.

السودان التجربة المرة(٤)

لدينا في المسار السوداني من الشهادات والوثائق ما يمكن الركون إليها واستخلاص النتائج لفهم أوضح للعلاقة بين الأخلاق بشكلها العام وممارستها على الأرض بشكل خاص، فالحركة الإخوانية (الإنقاذ) حكمت السودان لأكثر من ثلاثة عقود(٥)، وفي تاريخها شواهد عديدة على هذا التعارض، منها ما بثته محطة تليفزيون العربية(٦) من الأرشيف السري للجماعة تحت عنوان «الأسرار الكبرى». يتحدث هذا الفِلم الوثائقي عن مدة حكم الإخوان في السودان تحت قيادة حركة النهضة وزعيمها عمر البشير، وفي الجزء الخامس من الفِلم الوثائقي تتحدث المجموعة القيادية عن الفساد، وكيفية محاربته ومصادر تمويل الحركة، فقال البشير: «أنا ضد فكرة الاستثمار لأن بعض الإخوان لا يفرقون (إن أعطيناهم المسؤولية) بين مال المؤسسة وبين جيبهم الشخصي»!

هذا قول صادم لمن يعتقد أن (الإخوان) هم خارج المنظومة البشرية، ويمكن الثقة بما يقولونه أو يفعلونه في السياسة بسبب شكلهم الخارجي أو ما يظهرونه للناس من أقوال مستندة على التراث، أو انتمائهم للحركة. ولم يسقط حكم الحركة في السودان إلا بسبب الفشل الذريع في القدرة على تقديم حكم وإدارة حديثتين، لأن السلطة المطلقة هي مفسدة مطلقة، والخلل في تدهور الحال في السودان هو خطيئة إدارة للموارد المتاحة، لأنهم أرادوا أن يديروا المجتمع بالأيديولوجيا بدلًا من شروط إدارة الدولة الحديثة!

هذه هي مأساة السودان وأي حكم ديني. ومن قبيل الطرفة ما يُردد كثيرًا، أن في السودان خمسين مليون بقرة (ثالث دولة في امتلاك البقر) ومع ذلك فهناك شح في منتجات الألبان! مقارنة ببلد مثل هولندا التي تمتلك خمسة ملايين بقرة، ومع ذلك تصدر مشتقات الحليب. تلك مقارنة مفجعة؛ فالسودان بلد غني بالموارد إلى درجة أن بعض الدراسات الاقتصادية ترى أنه لو قرر السودان أن يزرع البرسيم فقط، في الأراضي المنتجة له، لأصبح دخله يساوي على الأقل الدخل النفطي لمجموع دول الخليج!

بلاد تتوافر لها أرض خصبة شاسعة، ومياه وفيرة (في حين أن العالم يشتكي من شح المياه)(٧)، مع 130 مليون رأس من الأغنام (سابع دولة في العالم في الثروة الحيوانية) وثروة سمكية وفيرة في السواحل، وتحتوي أرض السودان فوق ذلك على أكبر احتياطي من النحاس في العالم. لكن في عهد حكم الإخوان استُبدلت بالإدارة الواقعية والعلمية عدد من الشعارات المستندة على الأوهام، ولم تكتف في نشاطها بالبقاء في الحدود السودانية، بل تهيأ لها في مدة أن تتصدر الإسلام الحركي الدولي، فغاب الوعي وانقسم السودان ودخل في حروب أهلية. لقد كانت المنطلقات خاطئة، وفي سبيل البقاء في الحكم بررت كل الشرور (تبريرًا شرعيًّا كما ادعوا) وعلى رأس تلك التبريرات الكذب المنظم والدائم على المجتمع السوداني.

التجربة المصرية: الدين والسياسة

تنظيم الإخوان في التجربة المصرية هو التنظيم الأطول عمرًا والأكثر شمولًا، وهو من صدَّر تقريبًا الفكرة إلى المنطقة العربية والعالم الاسلامي(٨) وتاريخهم الطويل في الظهور والاختفاء والتعثر والاستقامة ترك لنا كمًّا من الكتابات من داخل صفوفهم أو من الخارجين عنهم أو من مناوئيهم، ولاختبار تعاملهم بالسياسة، صدقًا وكذبًا، يتوجب علينا أن ننظر إلى السرد الذي خرج من صفوفهم وهو كثير.

في كتابه «سر المعبد»(٩) يقول ثروت الخرباوي إنه في عام 1992م نظم معرض الكتاب في القاهرة ندوة بين مرشد الإخوان- وقت ذاك السيد مأمون الهضيبي- والدكتور فرج فودة، وكان الموضوع هو «الدولة الدينية والدولة المدنية»، وفي المحاضرة تحدث الهضيبي فقال: «نحن كنا نتعبد إلى الله بأعمال النظام الخاص قبل الثورة»، ومعروف أن «النظام الخاص» كان الذراع الإرهابي للإخوان في مصر، والمسؤول عن قتل بعض الشخصيات السياسية، وتفجير الشقق والمنازل.

بعدها كتب الخرباوي مقالات ينتقد مقولة المرشد، ونشر مقالًا بهذا المعني في مجلة «صوت الأمة»، إلا أن الهضيبي رد مكذبًا الكاتب بأنه لم يقل ذلك. وقد نشرت المحاضرة هيئة الكتاب بعد ذلك وليس فيها هذا النص. أسقط في يد الخرباوي كما قال: هل وصل الإخوان إلى التأثير فيما تنشره أو لا تنشره الهيئة؟ وبعد جهد يصفه الكاتب توصل إلى شريط للمحاضرة كاملة، غير مجتزأة، فذهب به إلى الجريدة، التي نشرت بأنها قد حصلت على النص، وهو بين يديها وأن الكاتب لم يكذب كما يدعي المرشد! وقد اختار الكاتب تلك القصة للتدليل على أن الكذب طريق للعمل السياسي الإخواني، أما المؤامرات والخيانات فيما بين (الإخوة) فهي كثيرة ويسردها كثيرون.

الرسالة الأعمق هي أن خلط الدين بالسياسة عملية خطيرة جدًّا، وقد عانت منها مجتمعات كثيرة ودفعت أثمانًا باهظة من الدم إلى استنفاد الخيرات الوطنية إلى احتلال واستبعاد الشعوب الأخرى، وهي في يومنا وفي كل التجارب التي مررنا بها معطلة للتنمية. الإخوان بشر يخطئون ويصيبون في أفعالهم الدنيوية مثل ملايين البشر الآخرين، والسياسة متغير مرن وتخضع للمناورات والدسائس، وربطها بفضائل الأديان خطيئة أخلاقية وإنسانية تضر بالدين والأخلاق والسياسة معًا.


هوامش:

(١) أصدرت سلسلة عالم المعرفة الكويتية كتابًا بعنوان “لماذا يكذب القادة؟” مترجم، تأليف جون مور سنيمر (عدد ديسمبر 2016م).

(٢) يطلب من العضو الجديد أن يقسم على (السمع الطاعة في المنشط والمكره للمرشد العام للجماعة) ويكون القسم على المصحف في حجرة مظلمة ومعصوب العينين (بالضبط كما يفعل الماسوني الجديد).

(٣) يتمتع بعضهم كأفراد بسيرة شخصية وعلاقات إنسانية طيبة، ولكن كمثل بقية البشر لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.

(٤) التجربة السودانية تشابه إلى حد كبير التجربة الإيرانية مع مدخلات مختلفة، ولكن بالمسار والممارسات نفسها وربما المآلات نفسها.

(٥) 1998 – 2020

(٦) وهو عبارة عن مقاطع طويلة مصورة للاجتماعات السرية للحركة وهي في الحكم وتركت الأشرطة بعد سقوط النظام وتعبر عن نفسها بأكثر ما يكون من الوضوخ وتعرض أزمتها السياسية والفكرية.

(٧) انظر مقالًا للكاتب نشر في الشرق الأوسط بتاريخ 5 يناير 2019م.

(٨) من المفيد الاطلاع على تأثير الإخوان في نشأة التيار الديني السياسي في إيران وفي أفغانستان.

(٩) ثروت الخرباوي، سر المعبد: الأسرار الخفية لجماعة الإخوان المسلمين، نهضة مصر 2021م، الطبعة الثانية، وهو أحد كتب الخرباوي التي نشرت حول تجربته في التنظيم.

علم الاجتماع العربي والواقع

علم الاجتماع العربي والواقع

بشكل عام لم يسهم علماء الاجتماع العرب في سبر غور مجتمعاتهم، ربما الطريق طويل للوصول إلى ما يمكن تسميته «علم اجتماع عربي»؛ لدينا بعض الاجتهادات المعاصرة المتفرقة من أساتذة نشطوا في التفكير والكتابة (خارج الصندوق) إن صح التعبير، إلا أنهم بشكل عام لم يتركوا مدارس خلفهم تكمل ما بدؤوه من أعمال أو نظريات وازنة يمكن تعميمها ولو لمدة معينة من الزمن. لدينا على سبيل المثال لا الحصر أعمال المرحوم الدكتور سيد عويس، الذي بحث في موضوعات مهمة في قاع المجتمع المصري، ففي كتابه «هتاف الصامتين: ظاهرة إرسال الرسائل إلى الإمام الشافعي»، فتح جديد غير مسبوق، وهي دراسة مبتدعة لعدد من الرسائل التي يتركها أو يرسلها المواطنون المصريون في ضريح الإمام الشافعي في القاهرة، ولدينا في العراق علي الوردي في عدد من الكتب؛ أهمها «شخصية الفرد العراقي» و«دراسة في طبيعة المجتمع العراقي»، ولدينا في المغرب المهدي المنجرة في كتابيه «الحرب الحضارية الأولى»، و«قيمة القيم»، وعبدالكبير الخطيبي في عدد من الكتب؛ منها «النقد المزدوج»، و«الاسم العربي الجريح»، وفي الشأن النسوي طبعًا لدينا نوال السعداوي من مصر في أعمالها العديدة عن النسوية العربية؛ أشهرها «الوجه العاري للمرأة العربية»، وعدد آخر من الكتب، وكذلك فاطمة مرنيسي في المغرب في كتبها مثل: «ما وراء الحجاب»، و«الحريم السياسي».

في الحقيقة هناك عدد من المشتغلين بالشأن الاجتماعي العرب قد حاولوا الكتابة في شؤون وشجون المجتمع العربي، إلا أن عددًا منهم لم يتركوا كما قلت وراءهم مدرسة تكمل ما بدؤوه أو حتى الاجتهاد في الموضوع أو تنظيرًا عامًّا يمكن استخدامه لفهم المجتمع أو المجتمعات العربية، والأسباب كثيرة؛ منها عدم الاهتمام بالعلم الاجتماعي على مستوى المجتمع والدولة وفي المؤسسات التعليمية، لقد كان العلماء حتى وقت متأخر يقسمون (العلم) إلى قسمين، العلم الصلب، أي العلوم البحتة والتطبيقية، والعلم اللين أو المرن، وهو مجمل العلوم الاجتماعية، حتى مؤخرًا عندما انقلب المفهوم رأسًا على عقب، فأصبحت العلوم المرنة هي العلوم البحتة والتطبيقية؛ لأنه يمكن التحكم فيها في بيئة محصورة (كالمختبرات والمعامل)، وأصبح العلم الصلب هو العلوم الاجتماعية، لأهميتها وشيوع مراوحتها الواسعة، وتعدد مُدخَلاتها، واختلاف ظروف المجتمعات، وتغيرها المستمر.

وتتمحور الأسباب في تأخر العلوم الاجتماعية العربية وعلى الأخص علم الاجتماع في:

أولًا- منهج التعليم في الدراسات الاجتماعية، ربما في معظم مؤسساتنا التعليمية، إن لم يكن فيها كلها، فإن علم الاجتماع لم يحظَ باهتمام كبير، ودُرس نقلًا عما وصلت إليه العلوم الاجتماعية وعلم الاجتماع في مجتمعات أخرى، فقد درسنا تطور علم الاجتماع ومدارسه الغربية، الذي كان قد نشأ في بداية القرن التاسع عشر في المدرسة الفرنسية الاجتماعية أو الألمانية وكأنه (الدين الجديد)، ثم انتشر في الدول الغربية، ولم يتعلم طلابنا حتى الفرق بين أسباب ظهور علم الاجتماع الغربي واختلاف تفسيره، الذي كانت ظروفه هي الانتقال من المجتمع الزراعي إلى الصناعي، وبروز ما يعرف بالمجتمع البرجوازي، وتقسيم العمل في المصانع الجديدة، وتوسع سكنى المدن وهجرة الناس من الريف، هنا ظهرت نظريات خاصة بتلك المجتمعات، نقلها بعضنا على أنها (معطى نهائي) قابل للتطبيق على أي مجتمع آخر! وفي وقت ثانٍ ذهب بعض الدارسين العرب، بعد أن اكتشف الباحثون الغربيون ما تركه عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته من تنظير، ذهب بعض المشتغلين بدراسة المجتمع العربي بتطبيق مقولات ابن خلدون على المجتمع العربي المعاصر، وكان ذلك خطأ منهجيًّا ما زال بعضنا يسير فيه دون علم؛ لأن ما ينطبق في الفروق بين مجتمع وآخر من حيث المعطيات والمدخلات، ينطبق أيضًا على الفروق في الزمن، فزماننا بالقطع ليس زمان ابن خلدون، فلم تعد الغلبة في الدولة للعصبية القبلية، أو تغلب أهل الوبر على أهل المدر، كما وصف ابن خلدون؛ لأنه ببساطة اختفت عصبيات وظهرت أخرى جديدة لم تكن معروفة في زمن ابن خلدون، كمثل عصبية المؤسسات الحديثة مثل الجيش والقوات المسلحة أو الأحزاب المنظمة، أو المؤسسات الاقتصادية الكبرى ومصالحها. إذًا أحد أكثر العناصر خللًا في دراسات المجتمع العربي اليوم اعتماده على تلك المناهج الغربية المختلفة ظروف نشأتها وتطورها أو العودة غير الواعية إلى التاريخ القديم وقد تغير الزمن.

ثانيًا- القدرة على النظر من خارج المجتمع. نجد أن أحد معوقات دراسة المجتمع العربي غياب ما يمكن أن يسمى (الحرية الأكاديمية)، أي القدرة على تناول الظواهر الاجتماعية من خارجها، والحرية هنا ليست فقط القادمة من الدولة ولكن أيضًا من المجتمع، فكثير من الدارسين الذين اقتربوا من لمس القضايا الاجتماعية في مجتمعاتنا العربية واجهوا عنتًا (اجتماعيًّا) ضخمًا، فالمجتمع والتقاليد تعوق التفكير الحر؛ لأنها تلامس كما يرى بعضٌ ثوابتَه، آخر هؤلاء ما اتخذ من مواقف من الكاتبتين نوال السعداوي وفاطمة مرنيسي، فقط لأنهما لامستا ما يفترض أنه مُحرَّم الاقتراب منه في المجتمع، بل إن بعض الباحثين العرب في علم الاجتماع فضلوا أن يكتبوا بلغات أخرى غير العربية بعيدًا من المضايقات الاجتماعية في مجتمعاتهم، وقدمت لنا دراساتهم من خلال الترجمة وربما حتى غير الدقيقة.

حتى اليوم فإن سقف التسامح مع الكتابات الاجتماعية، وبخاصة الناقدة، كما يتوجب علم الاجتماع، قليلة، والكثير من الإبداع في هذا المجال تم في زمن (السقف العالي نسبيًّا للحريات)، الذي تمتعت به بعض المجتمعات العربية لمدة محدودة فيما بين الحربين العالميتين، بل حتى في ذلك الوقت كانت هناك ضغوط كما حدث لكتاب طه حسين في دراسته الشعر الجاهلي، الذي شكل أزمة لأنه يعيد التفكير في التاريخ العربي، أو بعد ذلك لنجيب محفوظ في رواية «أولاد حارتنا» التي مُنعت طبعتها لمدة.

ويستطيع الباحث أن يتقصى الكثير من سبل التضييق (المجتمعي) وليس (الرسمي) فقط على هامش وقدرة الباحثين على الإبداع والتفكير خارج الصندوق في الشأن الاجتماعي، فما زالت هناك (مُحرَّمات) في مجتمعاتنا العربية لا تقبل المس بها بشكل بحثي وعلمي، كمثل تشريح دور القبلية أو التراتبية الاجتماعية أو نوع الأعمال التي كان تقوم بها شرائح من المجتمع. من هنا نجد الفقر النسبي في كتابة المذكرات الشخصية، وذكر الحوادث المهمة في المجتمع (منعًا للإحراج)، أو (تقليب المواجع)! ولقد عرف منذ مدة طويلة أن بعضَ مَنْ يكتب حول المجتمعات المحافظة العربية أطروحات للدكتوراه أو الماجستير في الجامعات الغربية يطلب عدم نشرها على العامة والاحتفاظ بها لمدة، وقد يعود بعضهم إلى فكرة النشر، ولكن بعد سنوات ومع تحرير ثقيل في المحتوى.

ثالثًا- الدراسات الاجتماعية كلية المنهج

طبيعة الدراسة الاجتماعية أنها كلية وليست جزئية المنهج، فالأنظمة المجتمعية تساندية يؤثر بعضها في بعض، كتأثير النظام التعليمي أو الديني أو القضائي أو الاقتصادي أو السياسي في مجمل نشاط المجتمع؛ لذلك فإن دارس الاجتماع يتوجب أن يكون ملمًّا بالتاريخ والاقتصاد والقانون والسياسة وغيرها من العلوم الاجتماعية، دون ذلك يمكن أن يشوب نظرته وتحليله عوار ما سببه نقص المعلومات أو محدوديتها، كما يتوجب أن يكون ذا ذهنية منفتحة على الجديد والمختلف، وفي فضائنا العربي مثل أولئك الأشخاص جد محدودين بسبب طبيعة أنظمة التعليم ومحدودية التفكير الخلاق.

رابعًا- النظريات الاجتماعية

على الرغم من أن النظرية الاجتماعية في صلب دراسة طلاب علم الاجتماع، فإنها تنحصر في مدرستين كبيرتين؛ الأولى المدرسة الصراعية (صراع الطبقات) وتفرعاتها التي نشأت إبّان الصراع الطبقي في وسط القرن التاسع عشر في أوربا، وقد تطورت اليوم مع تطور تلك المجتمعات. والمدرسة الثانية هي الوظيفية التي نشأت في الولايات المتحدة، وكان غرضها الرئيس تبرير النظام الرأسمالي، ثم تفرعت إلى عدد من الاجتهادات، وعندما نظر علماء الاجتماع الغربيون إلى مجتمعات العالم الثالث استنبطوا ما عُرف بالنظرية الثقافية أو المدرسة الأنثروبولوجية، وهي نظرية في الأساس بررت تمدد الاستعمار الغربي في بلاد العالم الثالث ذات الموارد التي تحتاجها المجتمعات الغربية، ثم تطورت تلك المدرسة مع الزمن. تلك النظريات لم تبقَ على ما كانت عليه عند النشأة الأولى، فطبيعة التطور في المجتمعات فرضت المراجعة والتنقيح وإعادة النظر والتطوير، وقد ساهم علماء الاجتماع الغربيون في ذلك، إلا أن الدرس الأهم أنه لا يمكن تفسير تطور المجتمعات على قاعدة نظرية واحدة.

الخلاصة

يفتقد علم الاجتماع العربي إلى نظرية ولو نسبية لتفسير تطور هذه المجتمعات وتوقع مسيرتها المستقبلية، وكثير من الأدوات المنهجية المستخدمة اليوم في علم الاجتماع العربي مستعار من تجارب أخرى، وليس في ذلك عيب، ولكن تحتاج تلك الأدوات إلى تطوير ومواءمة من أجل الوصول إلى شبه نظرية تُفسّر وتتوقع صيرورة المجتمع (المجتمعات) العربية في المستقبل، بدايةً من المفاهيم وضرورة ضبطها، وانتهاءً بتفسير تاريخ تطور المجتمعات، وبخاصة أن المجتمع العربي اليوم في حالة انتقال، وأكاد أقول (سيولة اجتماعية)، يتخللها التشكيك في الثوابت القديمة من دون ابتكار أخرى جديدة، مثل: (الدولة المدنية) أو (المجتمع المدني) أو (عقد اجتماعي للحكم)، ونحن اليوم أكثر حاجة لمساهمة ابتكارية لعلماء الاجتماع العرب.

فطبيعة المعرفة البشرية أنه عندما تتغير الأعراف والقيم والعادات، وهي نسبية، تتغير معها البنى الاجتماعية والأنساق، ويحلّ تدريجيًّا القانون محلّ العرف، والمؤسسة بدلًا من الفردية، طبعًا هذا التغير تدريجي، ولكنه تراكمي يتغير في البداية من حيث الكم، ثم تأتي مرحلة فاصلة للتغير من حيث الكيف. وليس هناك نظرية أحادية تستطيع أن تفسر التنوع في المجتمع. يحتاج المشتغل بعلم الاجتماع إلى أن يعترف مقدمًا أن تضافر النظريات يمكن أن يقدم لنا تفسيرًا معقولًا للتغير الاجتماعي المشهود، حتى هذا التفسير نسبي الزمن، كما شاهدنا في مجتمعات أخرى، حيث تطورت النظريات وبعضها اندثر بسبب اضمحلال الأسباب التي قامت عليها؛ لهذا نحتاج إلى تكامل في أدوات البحث لنصل إلى الحقيقة الاجتماعية النسبية. أصبحت اليوم الحاجةُ إلى معرفة علمية للمجتمع العربي، أكثر ما يكون من العلمية، حاجةً مُلحةً، وقد قيل قديمًا: إن أفضل المعرفة هي معرفة النفس.

«جودة الحياة» ومنهجية التعامل مع الأفكار والتصورات

«جودة الحياة» ومنهجية التعامل مع الأفكار والتصورات

مفهوم جودة الحياة هو مفهوم حديث نسبيًّا في أدبيات التنمية الشاملة، وهو يُلخص بمؤشرات محددة يقاس بها مستوى «رفاه» مجموع الشعب، وعادة ما تستخدم مؤشرات مثل سنوات العيش (متوسط حياة الأفراد في المجتمع)، عدد وفيات الأطفال، نسبة التشغيل للسكان في سن العمل، ومستوى التعليم وجودته، وتوافر المنازل الصحية للأسر، وتوافر المياه والكهرباء وجودة الطرق، بل حتى جودة الهواء، عدا أنواع التغذية المتوافرة للناس، بجانب الأمن العام، وحقوق الأفراد والجماعات الخاصة والعامة. وهذه مؤشرات استرشادية تأخذ بها الجهات المخططة في الدولة، لتدل على كفاءة السياسات العامة المتبعة ورضا المجموع الاجتماعي على النظام القائم. في السنوات الأخيرة أضيف إلى تلك المؤشرات وجود نظام قضائي كفء ومستقلّ، والقدرة على قضاء إجازة سنوية مريحة للأسرة، وتوافر مناطق الترفيه المختلفة للناس، بل حتى حصولهم على الخدمات التقنية الحديثة مثل عدد مالكي الأجهزة الاتصالية (التليفونات النقالة وأجهزة الكمبيوتر) وتوافر شامل وواسع للإنترنت بترقيته الحديثة.

المؤشر الأكثر تداولًا عالميًّا هو الإنجاز في مجال التنمية البشرية، وهي سوية التعليم والتدريب المتوافرة في المجتمع، وتصنف فيها برامج التنمية في الأمم المتحدة شرائح الإنجازات في هذا المجال على ثلاثة مستويات: عالية، ومتوسطة، ومتدنية. في خمس السنوات الماضية كان مؤشر الإنجاز في التنمية البشرية، حسب تلك التقارير الدولية للدول الخليجية الست في المستوى العالي.

إذا أرادنا أن نقيس كل تلك المؤشرات في بلدان الخليج، فإننا بسهولة نصل إلى نتيجة مفادها أن المواطن الخليجي على نحو عام في الدول الست (السعودية والكويت والإمارات والبحرين وقطر وعُمَان) يتمتع بكثير من تلك الخدمات. فعلى سبيل المثال هناك نحو ثمانين جامعة وكلية في مجموع تلك الدول تقدم التعليم العالي في مختلف التخصصات، منها جامعات حكومية وأخرى أهلية، عدا انتشار التعليم ما قبل الجامعي في كل مدن وقرى ومناطق هذه الدول، بجانب العدد الكبير من الطلاب والطالبات من المواطنين في جامعات العالم شرقه وغربه. ويقدر العدد الإجمالي للطلاب قبل الجامعيين في دول مجلس التعاون بنحو عشرة ملايين طالب وطالبة، منهم سبعة ملايين وربع في السعودية، التي هي السادسة في العالم من ناحية الإنفاق على التعليم بعد دول كبيرة ومتقدمة عالميًّا. وهناك عشرات الآلاف من الطلاب الجامعيين في دول الغرب والشرق من أبناء دول مجلس التعاون في مختلف التخصصات، يرفدون كل عام المجتمع بتنوع تخصصاتهم وخدماتهم.

ثورة في التقدم

في القطاع الصحي الذي يشهد تقريبًا «ثورة» في التقدم من ناحية الكم والكيف، وهو دليل على الطلب المتنامي (لتحسين جودة الحياة) في المنطقة، فقد أدت الاستثمارات الكبرى في قطاع الرعاية الصحية بدول مجلس التعاون الخليجي (القطاع الحكومة والأهلي) على مدى العقود القليلة الماضية إلى تحسن كبير في البنية التحتية للقطاع الصحي، ونتائج العناية الصحية بالمنطقة يدل عليها قدوم مواطنين من دول أخرى للاستشفاء؛ إذ تركز النظم الصحية التي أقامتها دول مجلس التعاون الخليجي على الوفاء بالمطالب الأساسية في الرعاية. أما النجاح في القطاع الصحي فهو مشاهد أمامنا يوميًّا في التعامل مع وباء كورنا-19 (في عام 2020م) من ناحية الاحتياطات التي اتخذت للوقاية من الجائحة حفاظًا على صحة المواطنين والمقيمين، ومن ناحية نسبة الشفاء من المرض وأيضًا شراء وتوزيع اللقاحات في المدة الأخيرة، وقد كانت هذه الدول من أوائل من استورد اللقاحات ونظم توزيعها بطرائق لفتت نظر الجميع.

في خطط التنمية المعتمدة من دول الخليج، وتمتد لبضع عقود، كان للاستعانة بالتقنيات الذكية مكان مميز، من المشروعات الكبرى إلى الصغرى التي أنشئت. وهذه التقنيات سوف تساعد على توفير الطاقة، وتوفير الوقت والمرونة في الأعمال، وتسهيل التجارة، كما ستزيد المشاركة المجتمعية. ففي استخدام الطاقة البديلة التي أخذت تتسع في دول مجلس التعاون، وبعضها أصبح رائدًا في هذا المجال، وتعد مكانًا يحتذى عالميًّا. كما أن استخدام التقنية في التعليم فرضتها جائحة كوفيد-19 فمكنت مؤسسات التعليم من القيام بواجباتها بشكل ناجح نسبيًّا. أصبح مؤشر التقنية من أهم مؤشرات جودة الحياة في المجتمع؛ لأن المعلومة قوة، والتواصل بين أفراد المجتمع، من خلال هذه الشبكة، يسهل الاتصال الإنساني والتجاري والتعليمي ونقل المعلومات الصحية والأخبار العامة والتثقيف العام.

تشير أدبيات البنك الدولي إلى أن متوسط دخل الفرد والأسرة ونسبة الإنفاق الاستهلاكي مقياسان ملائمان لمعرفة جودة الحياة في المجتمع. تقدم لنا الأرقام المتوافرة أن متوسط دخل الفرد في كل من (الإمارات 3235 دولارًا شهريًّا)، و(قطر 2959 دولارًا شهريًّا)، و(الكويت 1906 دولارات شهريًّا)، و(البحرين 1784 دولارًا شهريًّا)، و(السعودية 1725 دولارًا شهريًّا)، و(سلطنة عُمان 1689 دولارًا شهريًّا). وبشكل عام فإن هذه الأرقام يتوجب النظر إليها من زاويتين؛ الأولى حجم السكان، فلا يمكن مقارنة السعودية من ناحية السكان بحجم قطر أو البحرين أو حتى الكويت، والزاوية الثانية الدخل من النفط والغاز. إلا أن المؤشر يقدم لنا مادة أولية لمعرفة الإنفاق الاستهلاكي للأسرة الخليجية، وهي مقارنة بمثيلاتها في دول أخرى تعد من أعلى متوسطي الدخل. للمقارنة، فإن دول مثل نيوزلندا وإسبانيا واليونان والبرتغال هي أقل في متوسط دخل الفرد من بعض الدول الخليجية المذكورة. ولأن دول الخليج تتبع سياسة الاقتصاد المفتوح، فإن السوق الخليجي يستقطب منتجات العالم من كل ركن، ولذلك فإن الاستهلاك للأسرة (والفرد الخليجي) هو من أعلى نسب الاستهلاك في العالم.

منهجية التعامل مع الأفكار

عامل المعرفة أصبح واحدًا من أهم المؤشرات لجودة الحياة في أي مجتمع، ويعرف هذا العامل بمنهجية التعامل مع الأفكار والتصورات. وقد أصبحت تلك المنهجية في السنوات الأخيرة من الأهمية بمكان، للحفاظ على سوية عالية في نوعية الحياة التي يحياها الفرد. والمنهجية تعني القدرة على فرز الخبيث (الخاطئ) من المعلومات المتدفقة للإنسان عن الصحيح والعقلاني. فقد يكون المجتمع ذا دخل مرتفع، وتتوافر لديه مؤشرات كثيرة ممن ذكرت سابقًا، ولكن «هضم» المعلومات لدى قطاع واسع أو متوسط منه يكون «عسيرًا»، أي أن ذلك المجتمع يؤمن بالخرافة وتصديق ما يقال له في وسائل التواصل الاجتماعي من دون التفكير في صحتها أو حتى صدقيتها واتساقها مع العقل.

المنهج المعرفي أو نقص المنهج المعرفي هو «كعب أخيل» في المجتمعات المتقدمة والنامية على السواء، فقد يعجب المرء إن عرف أن هناك 16 مليون أميركي يعتقدون أن الشوكولا بالحليب تأتي من البقرات السمراء فقط!)، وأن رئيس إحدى الجمهوريات يقول لشعبه: إن اللقاح القادم من البيض هو خدعة، وهو يشير إلى لقاح كوفيد-19 ويبرر ذلك، من خلال تساؤله: لماذا لم يوجد لقاح لمرض الإيدز أو غيره من الأمراض؟! وعلى جميع المستويات فإن نقص المنهجية في المعرفة يسبب تدهورًا في نوعية الحياة في المجتمع، وزيادة الوعي بأهميتها ترفع من قدرة المجتمع على العيش في مستوى متقدم من الرفاه. فالجماعات التي تعي أهمية الوقاية من الأمراض وتنشئ أبناءها على احترام العلم، تستطيع أن توفر في ميزانية الصحة في المجتمع بشكل إيجابي، ولقد خاضت مجتمعات الخليج مؤخرًا اختبار منهجية المعرفة مع الإقبال أو التمنع عن أخذ اللقاح لكوفيد-19، فقد انتشر بين جماعات منها مقولات وتصريحات، حتى من أهل مهنة الطب، بأن تلك اللقاحات خطرة على الإنسان. وتردد كثير من الناس في أخذ اللقاح، على الرغم من جهود الدولة وصور المسؤولين الكبار وهم يأخذون اللقاح، إلا أن الخوف والتردد مستمر.

على الرغم من الجهود التي تبذل في دول مجلس التعاون لترقية جودة الحياة بمؤشراتها المختلفة والنجاحات التي تحققت حتى الآن، وهي ليست بسيطة أو سهلة، فإن معركة التوعية تحتاج إلى جهد من خلال التعليم والإعلام والأسرة والمجتمع كله؛ لتجنيب هذه المجتمعات الوقوع في إخفاقات مؤشرات جودة الحياة، وخصوصًا في مجال فهم وتفسير الظواهر الاجتماعية والاستجابة إليها، في عالم مفتوح وغير محدد لتدفق المعلومات صحيحها وما يدس فيها من أجندات!

العلم والزمن.. اتساق أم تعارض؟

العلم والزمن.. اتساق أم تعارض؟

كان السؤال الأكثر رواجًا في الأشهر الأخيرة من عام 2020م ومطلع عام 2021م في وسائل الإعلام، وفي المنتديات، وبين الأشخاص هو الآتي: كيف يمكن أن نثق بلقاح ضد كوفيد 19 هذا الوباء الذي اجتاح العالم وعطّل الاقتصاد وتصاعدت فيه الوفيات، وقد جهز كثير من هذا اللقاح في غضون أشهر منذ اكتشاف الوباء؟ في الوقت الذي تأخذ فيه اللقاحات سنوات طوالًا حتى تثبت فاعليتها؟

لكثيرين كان هذا السؤال ملحًّا ونابعًا من خوف وقلق على فاعلية اللقاح والخشية من سرعة تصنيعه وتطعيم الجمهور به، زاد من ذلك القلق هجمة من الأخبار المضادة من بعض من يدعي التخصص ومن غيرهم، بأن هذا اللقاح أو بعضه، على الأقل، سوف يغير تركيبة الجسم البشري، بل ذهب بعضهم إلى عمق نظرية المؤامرة المحاطة بالشك، بالقول: إن اللقاح صنع من أجل التخلص من طائفة من البشر، في حالنا هم (العرب المسلمون)، وعلى الرغم من ظهور عدد من المختصين العرب والأجانب لنفي تلك الآراء، وأنها لا تعدو أن تكون أخبارًا كاذبةً، إلا أن الشك استمر ليس لدى العامة، لكن حتى لدى بعض المتعلمين.

الإجابة الصحيحة عن ذلك السؤال المركزي لم يتطرق إليها كثيرون ممن نشروا رأيهم أو تحدثوا في هذا الملف الحرج، وهي كيف يمكن تفسير (الزمن القصير) الذي أخذه تصنيع اللقاح حتى يوزع للناس! نظرية المؤامرة في الشأن الإنساني العام ليست قاصرة على ثقافة بعينها، فهي تظهر في ثقافات مختلفة وفي مجتمعات متقدمة ونامية وتحت النامية، مجتمعات فيها تقدم علمي وأخرى ينقصها ذلك، مجتمعات بدائية وأخرى درجت في التقدم، إنه شعور إنساني يخضع لمعادلة «كلما اتسعت المعرفة ضاقت الخرافة» و«كلما ضاقت المعرفة اتسعت الخرافة»، يجاريها عدم ثقة في السلطات العامة ويغذيها بعض السياسيين المستفيدين منها وتنشر في أجواء الجهل.

التقدم العلمي الهائل

سبب السرعة في الحصول على لقاح ضد الوباء المدمر هو سبب عقلاني وبسيط، وفي الأساس، بجوار عوامل أخرى، يرجع إلى تقدم العلم الهائل في عصرنا، وطبعًا العوامل المساعدة التي دفعت بالتسريع هي تعطل الاقتصاد العالمي، والخوف الاجتماعي والعزلة، وأيضًا ضخ مبالغ خرافية من المال من أجل التسريع في البحث العلمي عن لقاح وتكثيف الجهود العلمية من خلال مؤسسات وعقول وازنة، ولكن الأساس هو سرعة التقدم العلمي؛ لذلك وجدنا أن اللقاحات تقريبًا ظهرت في وقت متقارب لا يزيد على عام!

التقدم العلمي هو تدريجي ولعلنا نذكر هنا المقولة المشهورة المنسوبة للعالِم إسحاق نيوتن، التي يقول فيها: «إذا كانت رؤيتي أبعد من الآخرين، فذلك لأني أقف على أكتاف عدد كبير من العمالقة»، والنص يشرح نفسه. ففي تاريخ العلم الحديث لا يأتي أي شيء من فراغ، بل هناك جهود تبذل وتراكم في كتاب المعرفة الإنسانية، ومن ثم تنضج تلك المعرفة عندما تصل إلى نقطة هي التحول من الكمي إلى كيفي. فالتقنية التي استخدمت في اللقاحات إما هي قديمة (كلاسيكية) كما يقال استخدمت في لقاحات سابقة أخرى مثل اللقاح الصيني أو الروسي، أو هي تقنية جربت لمعالجة أمراض أخرى أو كانت مصممة لعلاج أمراض أخرى كمرض السرطان.

هذا لا يعني أن تقدم العلم سهل وميسور، لو قرأنا تاريخ أحد العلوم الحديثة التي أثر اكتشافها في العالم ولا يزال وهي المُعرَّفة بـ«انشطار الذرة» وهي عملية «انقسام نواة ذرة ثقيلة إلى قسمين أو أكثر، وبهذا يتحول عنصر معين إلى عنصر آخر، وينتج من عملية الانشطار طاقة» التي هي اليوم تستخدم في الطب وإنتاج الكهرباء والعلاج وغير ذلك من عشرات الاستخدامات، لَعَرَفْنا أن ألبرت آينشتاين المعروف أنه مكتشف «الانشطار الذري» كانت قد سبقته محاولات من عدد من العلماء، ومن ثم وصل إلى نتيجة سبقته تجارب علماء آخرون مهّدوا الأرضية، هو بنى عليها، ولو قيل لطالب في امتحان الثانوية عام 1920م مثلًا: هل تنشطر الذرة؟ وقال: نعم في إجابته لسقط في الامتحان! لم تقف أبحاث الذرة هناك في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي كما اكتشفها آينشتاين، بل زاد عليها وطوَّرها عدد من العلماء من بعده، وهناك هامش من التطوير لا شك قادم في هذا الملف الخطير، كما هو قادم في ملفات العلم المختلفة.

الإنسان يسابق نفسه

لم يكن أحد في ثلاثينيات القرن الماضي يعتقد أن الطائرة سوف تطير بسرعة أكبر من الطائرات المروحية المعروفة وقت ذاك، ولم يكن أحد يرى أن هناك جهازًا يمكن أن يكشف طائرة قادمة من بعد، لكن بعد سنوات أصبحت الطائرة تطير بسرعة الصوت، وأصبح الرادار يكتشف الطائرة بمجرد أن تحلّق من مطارها، بل أصبح اليوم هناك طائرات لا يكتشفها الرادار التقليديّ، وسباق يجري في العالم اليوم بين طائرة لا تُكتشَف، ورادار يُكشّف!

قبل سنوات قليلة كان الشخص الذي يريد أن يصور صورة ما، عليه أن يحمل جهاز تصوير، وإن أراد أن يستمع إلى الإذاعة في الوقت نفسه عليه أن يحمل مذياعًا ( كبر أو صغر)، أو إن أراد أن يكلم آخرين كان عليه أن يستعمل تليفونًا مرتبطًا بخط أرضي، اليوم ليس له حاجة إلى كل هذه الأجهزة، ففي جهاز واحد صغير جدًّا، تستطيع أن تصور وتستمع إلى أي إذاعة في العالم، وفي الوقت نفسه تتصل بمن تريد في العالم أجمع، وربما ليس بعيدًا في الزمن أن يستطيع هذا الجهاز نفسه أن يكشف عن حالتك الصحية (سرعة نبضك ونسبة السكر في دمك) وينبه طبيبك في الحال، الذي يرسل لك الدواء بطائرة صغيرة تحمله حتى أمام البيت، وينبهك الجهاز إلى وصولها؛ كي تستلم شحنة الدواء. حتى مذيعك المفضل أو مذيعتك المفضلة سوف يُستبدَل بهما جهاز (روبوت) يقرأ لك الأخبار ويناقش المختصين، وإن لم يعجبك (بدّلته أو بدّلتها) فقط بضغطة زر، بل تستطيع أن تبدل ألوان ملابسها أو ملابسه، بل تشارك في الأسئلة المطروحة.

الزمن يفرض التقدم العلمي، والأخير يقفز قفزات هائلة إلى الأمام، فقد دخل جهاز (الفاكس) قبل ربع قرن أو يزيد في حياتنا، وأصبح كل مكتب لا بد أن يكون مجهزًا بذلك الجهاز السحري، الذي يرسل ورقة من (لندن) مثلًا لتصل في ثوانٍ إلى (المنامة)، هذا الجهاز السحري لم يعد مفيدًا أو لازمًا اليوم، لقد انتهى أو كاد بوصول (البريد الإلكتروني) الذي أرسل من خلاله مثلًا هذا النص وفي لحظات يكون ماثلًا أمام هيئة تحرير الفيصل، بل إن النص نفسه (في بعض اللغات) يصحح نفسه من الأخطاء المطبعية واللغوية وسوف تكون هذه الخدمة متوافرة في اللغة العربية قريبًا، بل إن الجهاز الذي أعمل عليه كان مثله قبل سنوات تبقى بطاريته صالحة لبضع ساعات من دون اتصال كهربائي، أما جهازي الحديث فإن بطاريته تبقى عاملة ومنتجة لمدة 14 ساعة متواصلة قبل أن تطلب إعادة شحنها.

بعض الدراسات تتحدث الآن عن سيارات تقود نفسها ولا تحتاج إلى وقود تقليدي، وهي تقريبًا قادمة خلال سنوات قلائل، بل طائرات تقود نفسها، وهي أكثر أمنًا حتى من السيارات التي تقود نفسها!! وقد تختلف الأرقام والإحصائيات ولكن يتفق خبراء الطيران على أن الخطأ البشري هو السبب الأكبر في حوادث الطائرات (النادرة أصلًا)؛ قام موقع PlaneCrash.com بتحليل ألف حادث طيران مميت في جميع أنحاء العالم في المدة بين 1950 – 2010م فوجد أن خطأ الطيار عاملًا في الحادث بنسبة 53% في تلك المدة المدروسة، النتيجة أن طائرة من دون طيار هي آمَنُ من تلك التي يقودها بشر، ولكن مع (رهاب الطائرات) كيف تقنع المتخوف بذلك ولو أنه قادم في المستقبل.

ليس بالضرورة أنه متصاعد

لا يستطيع متابع أن يجزم بأن تقدم العلم هو بالضرورة متصاعد ويراكم الإيجابيات، فهو كأي عمل بشري آخر يعمل (في آلية صعود وهبوط) المثال المشهور من بين عدد من الأمثلة هو (البنسلين) الذي اكتشفه ألكسندر فليمنغ عام 1928م، وكان فتحًا مبينًا للبشرية في مجال الطب واستخدم كعلاج فعّال لأنواع من العدوى البكتيرية، وبعد نجاح كبير في البشر والحيوانات وظهرت له تأثيرات جانبية سلبية على مر الزمن، تغلبت عليه أنواع من البكتيريا واستطاعت مقاومة نجاعته بعد أقل من مئة عام من اكتشافه، ولم يَعُدْ دواءً ناجحًا كما كان في السابق، إلا أنه خدم البشرية لعقود، ومثله كمثل أدوية أخرى واختراعات كثيرة تخدم البشرية، ثم يستعاض عنها بأخرى لعدم الفاعلية أو لفقدها للجدوى الاقتصادية.

الاكتشافات الحديثة، حتى فيما بعد البنسلين، اعتمدت على أبحاث متتالية تمت في السابق، فالعلم عامة محصّلته دائمًا متصاعدة، فبعض العمليات الجراحية تُجرى اليوم عن بعد بسبب التطور في الاتصال (شبكة 5G) الحديثة، ويستطيع أي مواطن اليوم أن يحول مبلغًا من المال لشخص آخر في (آخر الدنيا) بمجرد لمسة زر، ومن دون أن يغادر مكتبه أو حتى منزله!

الخلاصة

يمكن أن نجيب عن السؤال المركزي الذي طُرح في أول المقالة، إن سرعة تصنيع اللقاح لوباء كوفيد 19 هو أمر طبيعي جدًّا، ولا يثير القلق المثار حوله من بعض، فالعلم يتقدم وأيضًا لا يقتصر تقدم هذا العلم على بلد أو مجتمع، فلقد أصبحت براءات الاختراع متاحة في جوانب عدة من خدمة البشر، تظهر في مكان ويستفيد منها ملايين في مكان آخر. ولقد ساهمت جامعات عربية في الآونة الأخيرة (وبخاصة في دول الخليج) بحصد عدد من براءات الاختراع في مجالات حيوية عدة تقدم للجمهور العام خدمات لم تكن متاحة في السابق، فلم يعد (الاختراع أو الاكتشاف) محصورًا على بلد أو ثقافة.

وإذا كان لكل (أزمة فرصة) كما يقول المثل الصينيّ الشائع، فإن وباء كورونا جعل الدول والأفراد والمؤسسات تتسابق في استخدام وتشجيع الكثير من المبادرات الخاصة، التي تُعنَى بتسهيل الخدمات للجمهور اعتمادًا على العلم، هذه المبادرات سوف تبقى بعد انتهاء الوباء وتتطور إلى الأفضل. فالثقة في العلم البحت والتطبيقي حتى الاجتماعي ثقة تتزايد بين البشر، فالعلم قد يخلق مشكلاته ولكنه في الوقت نفسه يُقدّم حلولًا لتلك المشكلات؛ لذلك فإن الدول اليوم يقاس تقدمها بدرجة اهتمامها بتطوير العلوم، وبنسبة ما تخصصه من ميزانيتها لما يُعرَف بـ«البحث والتطوير»، وبعدد الأوراق العلمية التي ينتجها أبناؤها والمقبولة علميًّا، وبعدد براءات الاختراع التي يحصل عليها مواطنوها والمؤسسات العلمية التي ترعاها، في هذا المجال، وبناءً عليه نقول: إن الاقتصاد المعرفيّ في دول الخليج مُعتنًى به كثيرًا، وصانع القرار يَعِي أهميته في مجالات الحياة المختلفة؛ لذلك لدينا في دول الخليج مؤسسات أصبحت تضاهي المؤسسات العالمية وعلماء حققوا نجاحات في مجتمعاتهم واعترفت بهم المؤسسات الدولية، وكل الجهد اليوم مبذول لبناء «الكتلة الحرجة» من رأس المال البشري للمساهمة في التقدم.