الغرافيتي.. من الاحتجاج إلى مفارقات الاعتراف الفني تعبير عن المهمش والغامض
ما يعرف اليوم بفن الغرافيتي، أو فن الشارع أو الفن الحَضري، لم يكن يتصور أصحابه يومًا أنه سيغدو فنًّا قائمًا بذاته. الأمر يبدو كما تلك الحكاية التي يرويها «بلاين الأكبر» عن نشأة الفن عمومًا، التي يتحدث فيها عن المرأة ترسم طيف حبيبها على حائط البيت؛ كي تثبّت ملامحه وتجعله حاضرًا معها في كل وقت. هكذا إذن ينشأ الفن من الرغبة حين تنطبع على المساحة الخارجية لتخلد لحظات باطنة أو إحساسات أو مشاهد مرئية. تبدأ الفنون هكذا من هوامش الحياة كمقاومة للنسيان أو للطغيان أو للزمن. نخرج أحيانًا من بيوتنا صباحًا فتصادفنا في الشارع رسوم وخربشات تقترب من الرسم كما من التشكيل من غير أن تندرج في مداراتهما. الغرافيتي سليل الرسوم البدائية التي سجل فيها الإنسان ما يعاينه، من حيوانات ونباتات محيطة به. إنه انبثاق الرغبة في خلق المرآة التي يرى فيها ما يعيشه يوميًّا كأنه يركز من خلالها وجوده في الزمن والفضاء.
الحقيقة أن الخربشات والرسوم على الحائط كانت دومًا مجالًا للتعبير. ففي طفولتنا في المدن العتيقة، كانت الكتابة على الحائط والرسوم تعبيرًا عن صراع حي مع آخر أو إفشاء للأسرار والمحرمات التي لم يكن التعبير عنها ميسَّرًا. ففي وقت لم تكن فيه الكتابة حظ الجميع كان المتعلمون يشكلون من أنفسهم طليعة صبيان الحي، فيصبحون بشكل أو بآخر صوتهم الممكن.
الغرافيتي فن الهوامش المقاومة
لقد انبثق هذا الفن الوليد مع ثقافة «الأندرغراوند» التي سعت إلى امتلاك الفضاء العمومي عنوة للتعبير عن المهمش والغامض الملتبس، وعن أصوات مَن لا أصوات لهم. والسمة التي تطبع الغرافيتي هي كونه فنًّا مرتجلًا على مساحة محددة من الحائط يمتلك أصحابه أساليبهم الخاصة وألوانهم المميزة كما كائناتهم المعبرة عن مقاصدهم. بدأ الأمر في أنفاق المترو الفضاءات المهملة أو الهامشية في المدن الصناعية ليمتد في لحظات الأزمات والصراعات إلى الأماكن النظيفة من المدينة تعبيرًا عن الاحتجاج السياسي أو ردود الأفعال عن بؤس السياسات الداخلية أو الخارجية للقوى العظمى. وصار له أسماؤه المعترف بها كما مجلاته وهواته. إذا كانت النيويورك تايمز تخصص جائزة لأفضل غرافيتي في مدينة نيويورك، فإن هذا الفن الذي احتضنته أنفاق مترو المدينة ما لبث أن تعرض للمنع في بداية السبعينيات. وهو الأمر نفسه في أنفاق العديد من متروهات المدن الغربية، التي تخضع للتقنين وتخصص فضاءاتها للإشهار التجاري المدرّ للربح. لكنك وأنت ترتاد تلك المحطات تكتشف أن الغرافيتي يشتغل أحيانًا على هذه الملصقات بتشويه صورها، وأخرى بالتعليقات، وأحيانًا ثالثة بجعلها أرضية لمشروع بصري غرافيتي. وكما في الغرب فإن الغرافيتي العربي يراوح بين «التاغ» و«الغراف» و«الأسلوب الحر»، كما أنه قد يعتمد أيضًا على الكولاج.
يمكن اعتبار الغرافيتي فن الرغبة في امتلاك الفضاء العمومي. بل هو فن الرغبة في أسر نظر المشاهد العابر أو اقتناصه. إنه عنف مضاد يمارس من خلال ما تسميه مارس جوزي موندزان «فرجة العيانيات» visibilities(1) التي تحول الشارع إلى مسرح دائم. فالفرق بين المعرض ومسرح الغرافيتي هو أن هذا الأخير لا يخضع لزمنية ولا لمكانية الفنون الأخرى من سينما ومسرح وتشكيل. إنه أقرب إلى مسرح الشارع منه إلى التشكيل. يولد فن الغرافيتي الحقيقي في انطلاق تلك الرغبة التعبيرية كحساسية جمالية تفرز في نهاية المطاف جماليات خصوصية(2)، لأنه يُمارَس سرًّا وبعيدًّا من الأعين؛ كي يفرض نفسه في شكل انبثاق مفاجئ. إنه فن لا يولد كذلك، لكنه مع الوقت يحول صاحبه إلى اسم مرجعي وإلى فنان. وفن الغرافيتي في أصوله وامتداداته لا يصبح حركة فنية معترفًا بها إلا في تواتره وملحاحيته ووجوده المستمر في صلب المدينة. كما أنه لا يمتح هويته إلا من رغبته السياسية. وبما أن البعد السياسي للفن لا يمكن أن يولد إلا في الخلاف لا في الإجماع فإنه يصير لصيقًا بجلدة الممارسة الفنية للغرافيتي، كما ينظّر لذلك الفيلسوف الفرنسي رانسيير: «فالفن والسياسة يتصلان الواحد بالآخر باعتبارهما شكلين للخلاف، وعمليتين لإعادة تشكيل التجربة المشتركة للمحسوس. ثمة جماليات للسياسة بالمعنى الذي تقوم فيه أفعال التّذْويت السياسي بإعادة تحديد ما هو المرئي، وما يمكننا أن نقوله عنه وأي ذوات تكون قادرة على فعل ذلك. ثمة سياسة للجماليات بالمعنى الذي تقوم فيه الأشكال الجديدة لتداول الكلام وعرض المرئي وإنتاج العواطف الأولية بتحديد طاقات جديدة تكون في قطيعة مع تصميم القديم للممكن. هكذا ثمة سياسة للفن سابقة على سياسات الفنانين، أي سياسة للفن تكون عبارة عن تقطيع فريد لموضوعات التجربة المشتركة، وتمارس فعلها بنفسها بعيدًا من رغبات الفنانين في خدمة هذه القضية أو تلك»(3). إن هذا يعني أن كل فن جديد يولد قطيعة مع القديم في حضن رؤية سياسية تولد ذواتها الفنية، التي تغدو مع الزمن حاملة لمشروع فني جديد، يسم المرحلة كما يفتح آفاقًا جديدة للسياسة وللتعبير الفني معًا.
تحولات المجتمع العربي
إذا كان هذا الفن في البلدان العربية قد ظل محجوبًا نظرًا للسيطرة المحكمة لسلطات هذه البلدان على الفضاء العمومي، فإن تطوره البطيء سيعرف طفرة في السنوات الأخيرة لأن الفضاء العمومي صار رهانًا من الرهانات الكبرى للتعبير والتغيير. من ثم، فإن هذه الممارسة الفنية «القاصرة» (حسب تعبير جيل دولوز)(4) سوف تنمو وتترعرع في حضن المواجهات وفي اللحظات الحاسمة. هكذا يمكن اعتبار فلسطين البؤرة التي تبلور فيها هذا الفن بشكل لافت للنظر. فحين عمد المحتل إلى إقامة سور العار، الذي يجاوز سور برلين في مقاصده ومراميه وبنيته، صار هذا الفضاء الممتد مجالًا مرآويًّا للتعبير عن الحنق والغضب والتنديد، وعن الوجود المحجوز للفلسطينيين في عقر وطنهم. هكذا يستدعي الفضاء الشباب الفلسطيني يوميًّا إلى تفجير مكنونات إحساسه البصري كي يوسع أفق عالمه. فهذه الرسوم التي تستوطن الجدار تشكل ثقوبًا محتملة في الجدار، لا لترى فيما وراءه فقط، ولكن لتؤول وجود الذات والآخر، وتربط ما يفصل بين الجدار. الرسوم تبدو هنا كأنها امتداد للأرض التي تربط بين الطرفين.
هذه الوضعية الثورية هي التي سيعيشها الشباب (فالغرافيتي فن الشباب بامتياز) في بلدان ما عُرف خطأً «بالربيع العربي» وبخاصة تونس ومصر. ففي تونس، لاحظت في أسفاري التي تلت مباشرة ثورتها، كيف تحول هذا الشعب المغلول إلى شعب يكتسح بتعبيره الفني كل الفضاءات التي كانت ممنوعة عليه تعبيريًّا من قبل. هكذا تحول الشارع إلى مزيج من التظاهرات الفنية التي تشمل ملصقات الفوتوغرافيا وفن الشارع «الستريت آرت»، والغرافيتي. بل ثمة أيضًا فنانون غير معروفين كانوا يعلقون لوحاتهم في الساحات المعروفة بمدينة تونس على أعمدة مصابيح الشارع في الغسق. وحين تمر في الغد لا تجد لها أثرًا… ومن بين الأسماء البارزة في هذا المضمار: إينكمان، فاجو، إيسكا وان، مين وان. وقد نظمت المجموعة لها مؤخرًا بباريس معرضًا جماعيًّا، وهو ما يمنح هذا الفن مشروعية في قاعات العرض. وهؤلاء في الغالب متخرجون من مدارس الفنون تخصص غرافيك وتصميم فني، وهو ما ينفي عن هذا الفن طابع الانبثاق العفوي ويمنحه إستراتيجية ترغب في توكيد الذات والاختيار؛ بحيث إن المنجزات الفنية في الشارع تتحول إلى صور فوتوغرافية تؤرخ لها وتشهد عليها قبل أن تمحوها عوامل الزمن أو السلطات المحلية. والملاحظ هنا أن هذه الأسماء تأخذ طابعًا ملغزًا تعبيرًا عن التباس هذا الفن نفسه، وتتشبه كثيرًا بأسماء مجموعات الراب والهيب بوب التي تندرج بشكل أو بآخر في معمعتها.
فن الغرافيتي وولادة الفنان
في سنة 1979م بالمغرب، وكنت حينها لا أزال يافعًا، حيرت التخطيطات والرسوم التي كانت تكسو جدران حيّ «فاس الجديد» السلطات المحلية. كانت المرحلة فترة إضرابات التلاميذ والطلبة، وتصعيد المواجهات بين النقابات والسلطة. في كل صباح كان سكان هذا الحي يعثرون على كتابات ورسوم ذات بعد احتجاجي، ساخرة أحيانًا ومندّدة أخرى. فتلجأ السلطات المحلية إلى محوها، فلا تشرق شمس اليوم التالي حتى تكون حيطان أخرى في جهة أخرى من الحي قد انطلت بإبداعات هذا الشخص المجهول الذي كان يوقعها باسم عبدالله. ولأن السلطات لجأت إلى اعتقال كل من يحمل اسم عبدالله من غير أن تتوصل إلى الفاعل فإنني اكتشفت أن هذا الاسم كان مجرد مجاز يرمز إلى شخص مجهول، أي إلى عبد أو بشر من عباد أو بشر الله. صار صاحبنا أسطورة حية دوخت السلطات ودشنت فنًّا جديدًا للاحتجاج لم يكن حينها معروفًا بالمغرب. فيما بعد برزت أسماء فناني غرافيتي وفناني الشارع، وبخاصة في السنوات الأخيرة التي تميزت بانفراج سياسي. غير أنها أسماء لم تنبع، كما هي الحال في مصر وتونس ولبنان، من انفجار سياسي بقدر ما سايرت التوجهات الفنية الجديدة لاكتساح الفضاء العمومي.
لقد بدأ البعد السياسي لهذه الممارسة يتوضح مع ثورات «الربيع» العربي وبعدها في الخيبات التي أفرزت عنها. وهكذا صار الشباب المنتج في هذا المضمار يشحذ سكاكين نقده ويتصدى «للمقدسات» الاجتماعية والسياسية. لكن التجربة المصرية، نظرًا لخصوصيتها، ولامتداد «ربيعها» كانت الأغنى والأكثر عفوية. فقد ولدت مجموعة من فناني الغرافيتي الذين تركوا بصمات واضحة على شوارع القاهرة. هنا يكون الطابع السياسي الاحتجاجي النقدي سمة بارزة تخترق الفعل الغرافيتي. ولأن الرهانات الجديدة تتجاوز ما جاءت به الثورات العربية، فإن الظاهرة الجديدة تتمثل في خلق هذا الفن لنمط تواصل جديد يجمع بين التواصل الواقعي والتواصل الافتراضي، الذي يمنح نفسًا جديدًا لوجوده. وهو ما جعل هذا الفن اليوم فنًّا يساهم أيضًا في تجميل المدينة، تقام له الدورات مثله مثل باقي الفنون. وهنا بالضبط يتحجّم دوره الأصل المقاوم ليتحول إلى فن مثل باقي الفنون.
إن الممكنات الراهنة للممارسة الفنية، تعود به إلى تعدده الأولي وروابطه الأصلية. حين كان الفن جزءًا لا يتجزأ من المجموعة البشرية التي ينتمي إليها، ومكونًا من مكونات حياتها اليومية. بيد أن الوسائط الجديدة واندراجه في عالم الصورة اليوم بمختلف ممكناتها التقنية والعولمية يجعله يعيش مفارقة تكسير المعتاد وفي الآن نفسه انسياقه للتحولات المؤسسية الجديدة. «واليوم، كما تقول عن حق، الفيلسوفة التونسية رشيدة التريكي، فإن تطور الفنون البصرية قد ولَّد ممكنات جديدة ضخَّت دماء جديدة في الممارسة الفنية وفي أشكالها. وصار هذا الخرق لمعيار اللوحة المسْندية والصورة المقدسة أو الإشهارية البؤرة التي تنشط من جديد الفكر النقدي من خلال بعده الحسي المتعدد»(5). إن هذا الفكر النقدي الذي رصده جاك رانسيير في بعض التجارب العالمية، يحتاج إلى دماء متجددة تمكنه من صياغة نظرة مرتبطة بالأحداث، وقابلة في الآن نفسه لأن تنسلخ من مرجعيتها. وتلك هي مفارقة فن الشارع.
يبدو إذن أن الغرافيتي، مثله مثل الكاريكاتير، سلاح مقاومة فنية ذو بعد شعبي وجماهيري وعمومي أكثر من غيره من الفنون، التي يظل أثرها المباشر محدودًا. والفورة التي يعرفها هذا الفن تحرر الفنون البصرية من الانغلاق، وتستثمر مقوماتها البصرية والتشخيصية والخطابية كافة بهدف إنتاج أعمال قد تتعرض للزوال، غير أن آثارها الوجدانية والتحريضية والفكرية توسِّع من أفق الوعي وتفتح له سماوات لم يحلق فيها فن آخر من قبل. بيد أن هذا الفن، في سياقات غير ثورية، يتخلى عن بعده السياسي، ليدمجه في البعد الاجتماعي، ويركز بالتالي على قضايا اليومي والقضايا الخارجية مثل: الحروب والإرهاب وغيرهما. من ناحية أخرى، بعد أن اعتُرف به كفنٍّ قائم بذاته، جرت مأْسَسته بشكل أو بآخر، ليغدو وسيطًا من ضمن الوسائط الفنية الأخرى التي تُوظَّف في تجميل واجهات البنايات، أو إدخال بعض الغرابة على واجهات المحلات التجارية. وبذلك فإن هذا الفن يتأرجح اليوم بين أصوله الاحتجاجية ووضعيته المؤسسية الحديثة العهد. وهو الأمر الذي يطرح أسئلة جديدة عليه، قد نكتشف بعض معالمها فيما سيأتي من سنوات.
الهوامش:
1) Marie José Mondzani, L’Image peut-elle tuer, Bayard, Paris, 2002, p. 43.
2) يقيم ميشيل مافيزولي تمييزًا خاصًّا بين الأيسطيزيس أي الحس الجمالي المبني على العاطفة الذي يميز التعبيرات الجديدة والجماعية لما بعد الحداثة وبين الجماليات كما نعرفها باعتبارها فلسفة للفن تعتمد الذوق والفردانية. ميشيل مافيزولي، تأمل العالم، الصورة والأسلوب في الحياة الاجتماعية، ترجمة فريد الزاهي، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي، الطبعة الثانية، 2005م، ص. 163.
3) Jacques Rancière, Le Spectateur émancipé, éd. La Fabrique, Paris, 2008, p. 73.
وقد ترجمنا هذا الكتاب المهم للغة العربية، وسيصدر قريبًا عن دار رؤية في القاهرة.
4) يعتبر دولوز وغواتاري في كتابهما عن فرانز كافكا، أن الأدب القاصر مفهوم يلزم أن يدرك باعتباره مقاومة وتعبيرًا للأقليات في لغة الأغلبية، من خلال تحويل جذري للمكانية.
5) رشيدة التريكي الصورة كما نراها وكما نتصورها، ترجمة فريد الزاهي، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي، 2017م، ص. 100.