«الكتابة والجسد في شعر أمجد ناصر» إبدالُ الوعي الشعري

«الكتابة والجسد في شعر أمجد ناصر»

إبدالُ الوعي الشعري

مثّلت تجربة الراحل الكبير أمجد ناصر إبدالًا رئيسًا في قصيدة النثر العربية، وشكّلت أعماله الشعرية متنًا اختبَر من خلاله طرائق جديدة في الكتابة الشعرية، وهو ما جعل من منجزه النصّي استثناءً، حقَّق انفصاله عن أشكالِ تمثُّل قصيدة النثر المتداولة في الشعر العربي. وقد كان من الطبيعي أن تثير تجربةٌ فريدة بهذا الثراء عددًا كبيرًا في القراءات التي تناولتها بالدرس والتحليل، سواء من الناحية الأكاديمية أو النقدية، وهو ما يشهد عليه عدد من الدراسات التي صدرت في السنوات الأخيرة، على امتداد العالم العربي، لعلّ آخرها دراسة للباحث المغربي يوسف البهالي تحمل عنوان «الكتابة والجسد في شعر أمجد ناصر» (دار توبقال، 2020م). وفيها يحاول الباحث الإجابة عن سؤالين محوريين: كيف تمثَّلت كتابة أمجد ناصر الجسد وأبدلت وضعياته في القصيدة؟ وكيف راهن هذا الجسد على تفكير ذاته شعريًّا بما يجدّد بناءه من قصيدة إلى أخرى؟

يرى يوسف البهالي أنّ ممارسة أمجد ناصر النصية انشغلت بشكل الكتابة، وراهنت قصيدته على إبدال هذا الشكل وهي تنتقل من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر، ثم الانتقال بجسد هذه القصيدة من وضعية إلى أخرى تبعًا لتمثُّله فعلَ الكتابة. ولم ينفصل مفهوم الكتابة الشعرية عند أمجد عن قصيدة النثر، وظلَّ وعيه بها مهجوسًا بالشكل الذي راهن على هدم الحدود بين الشعر والنثر. ولا شك أنّ مجموع أعماله الشعرية تقوم على نسق متين، بل إنّ لكلّ مجموعة من أعماله نسقها الخاصّ، يحقّق به انفصاله عن الأعمال الأخرى، ويُظهر ملمحًا من ملامح مشروعه الكتابي.

فكلّ ديوان ينهض على رهان كتابي موصول بطبيعة المرحلة التي شهدت ميلاده. وتؤلّف بين قصائد كلّ مجموعة رؤية خاصّة للكتابة الشعرية، تُبرز إبدال الوعي الشعري المستمرّ عند الشاعر؛ لأنّ فعل الكتابة عنده هو في الأساس تمرُّد وبحث عن المسالك المُفضية إلى قصيدة بقوانين مختلفة.

أمجد ناصر

منذ أن وجد أمجد ناصر تصوُّره لقصيدة النثر ولعناصرها المعرفية والنظرية في الشعرية الأميركية، انفتح في تجربته الشعرية أكثر على أسئلة القصيدة، وعلى ما يراه ضروريًّا للاستمرار في حفر الأعماق بحثًا عن المعرفة الشعرية. وظلت قصيدته تطرح سؤالًا قلقًا عن ممكنات شعرية جديدة، راهن فيها على حضور الجسد، وهو ما ظهر بشكل جليّ في الأعمال المكتوبة أثناء مقامه في لندن، حيث انكشفت ملامح وعيٍ جديد، انتقل فيه ممّا هو جَمعيّ إلى ما هو ذاتيّ، وأصبح الجسد، بما هو ذات، المنطلق فيما يجري داخل القصيدة. غير أنّ تعدّد أوضاع الجسد وصوره يقود إلى الاستنتاج بأنّه يصعب الحديث عن هذا الجسد بصيغة المفرد.

وفي ضوء الانتباه إلى اختلاف وضعية الجسد داخل القصيدة عن وضعيته خارجها، تبدّى في أعماله إبدال الوعي بالجسد من داخل البناء الشعري، خصوصًا في مجموعة «سرّ من رآك». على أنّ المهيمن في صورة الجسد كما قدّمه هذا العمل تجلّى في استناده إلى الاستعارة، وفي تقديمه في وضعياتٍ مختلفة، بحيث أصبح فيه منتجًا لدلالة متولّدة من مُمكنه، بعد أن كان الجسد في المجاميع السابقة عليه مجرّد استعارة في خدمة دلالة يقوم الشعر بالتعبير عنها. ومن جهة أخرى، راهنت قصيدة أمجد على حركية الشكل بما يضمن التحرّر من نمطية البناء. وقد شكّل ديوان «حياةٌ كسرد متقطع» إبدالًا رئيسًا، انشغل فيه الشاعر بتأسيس ممارسة نصّية مغايرة، تُحقّق انفصالها عن سلطة النموذج، الذي خضعت إليه قصيدة النثر العربية، لتصنع نظريتها من داخلها.

لقد هيَّأ رهان الانفتاح على التجربة الإيروسية، من خلال الكتابة الشعرية، سمَة تحوُّلٍ، أعاد به أمجد ناصر بناء علاقته بالجسد في القصيدة حيث صار جسدًا متأمِّلًا لذاته. وقد حفر الشاعر من خلال هذه التجربة الكتابية مسالك جديدة، حقَّقت الإيروسية، كموضوع، وسمحت للجسد بالتجدّد وإبدال وضعياته عبر الكتابة من جهة، وعبر التوغّل في تأمّل آفاق الكتابة من جهة أخرى، لتكون الكتابة نفسها ممارسة مصحوبة بتأمّلها لذاتها. ويجسّد الديوان اللندني الأوّل «رعاة العزلة» منطلق هذا الانشغال ونواته الأولى لدى أمجد ناصر، قبل أن يخصّ الشاعر بعده ديوانًا بكامله، هو «سرّ من رآك»، يحتفي فيه بتأمّل الجسد من خلال التجربة الإيروسية، وهو ما واصله في الأعمال اللاحقة.

وعمومًا، فقد كان مسعى القصيدة في لندن تحرير الجسد من الكبت الذي سيَّجه، وكرّس نسيانه، وراهن بناؤها على إبدال رؤية الجسد إلى نفسه ليفكّر في ذاته شعريًّا. وقد تبدَّت فردية هذه الممارسة في انتقال بناء القصيدة من التعويل على المعنى إلى خوض غمار التجربة. وهو ما أبدل وضعية الجسد في البناء، لينتقل من الذهني إلى الحسي بالرهان على مختبر اللغة، والخوض في موضوعات جديدة، تحرَّر فيها الجسد من المتعاليات التي قيَّدته.

كَتب الجسدُ في قصيدة أمجد ناصر سيرتَه شعريًّا، وراهن في هذه الكتابة على إعادة خلقه الذاتي انطلاقًا من زمن حاضر. غير أنّ هذه الكتابة عملت على إعادة ترتيب سيرة الجسد، فيما هي تضعه في الآتي، بخلاف السيرة النثرية، التي تخضع لقانون الاسترجاع، تحكي ماضي الجسد، وتُلغي مستقبله. وقد اشتغل أمجد ناصر على إعادة بناء المفكَّك في تاريخية الشعر، واستثمار عناصره المفكّكة في أفق الرهان على بناءٍ جديد، يصير فيه السرد شعريًّا، أي مشروطًا بالسياق الشعري، وليس بما يأتي من خارج الشعر.

كما تمثَّلت كتابة أمجد ناصر الموت شعريًّا، وعملت على اختبار وضعية الجسد واللغة في تفاعلهما مع فضاء الموت، بما هو تجربة تورّط الذات الكاتبة في مغامرة كتابتها. وقد حقّق الجسد إدراكه أيضًا عبر الحواسّ، واستند إليها في بناء معرفته، واشتغلت الرائحة والعين في قصيدة أمجد وفق إستراتيجيات متباينة، في سعيهما إلى تشييد ذاكرتيهما الخاصّتين. فإذا كانت لحاسّة الشمّ في أعمال الشاعر ذاكرة نصّية، تراهن على تذكّر المنسيّ الذي حجبه الواقع الجديد، وألغى احتمالاته، فلأنّها تساهم في تبديد المسافة بين الماضي والحاضر بلغةٍ تحتفي بالرائحة، وتقيم اشتغالها على إبدال العلاقة بالأشياء.

أمّا بالنسبة للذاكرة البصرية، فقد بَنَت العين ذاكرتها الخاصّة في القصيدة، بما أتاح وصل الجسد بتاريخه، فيما هذه الحاسّة تعيد بناء التاريخ من خلال الكتابة. وقد ظهر اشتغال ذاكرة العين على الصورة المسترجعة موسومًا بتعدّد الطرائق. ولم ينفصل الرهان على الجسد في القصيدة عن سؤال اللغة، بما هي تحقُّق للجسد في الكتابة.

يخلص الباحث، في الختام، إلى أنّ فعل الكتابة في دواوين أمجد ناصر الأولى لم ينشغل بفاعلية الجسد، بقدر ما تناوله كموضوع. لكنّه انطلاقًا من مجموعة «سُرَّ من رآك» أعاد بناء علاقته بالجسد في القصيدة، وهو ما مثّل إبدالًا في الوعي الشعري للراحل أمجد ناصر وتحوُّلًا جديدًا في مساره الكتابي؛ ذلك أنّ البناء العامّ لهذه المجموعة يروم التخلّي عن توجيه الصوت الجماعي، الذي هيمن في المجاميع السابقة عليه. وفي هذا التخلّي توجَّهت الكتابة نحو أفقٍ آخر، عبر الإنصات المرهف للجسد، وهو يفكّر في ذاته ويتأمَّلها شعريًّا، من داخل القصيدة.