في روايته «شجو الهديل».. جار النبي الحلو يرصد خيبات الطبقة الوسطى

في روايته «شجو الهديل».. جار النبي الحلو يرصد خيبات الطبقة الوسطى

في روايته «شجو الهديل»، ذات الطابع الرومانسي، عنوانًا ومضمونًا، يتتبع جار النبي الحلو حيوات ومصاير عدد محدود من الشخصيات، تجمعهم بناية من ثمانية طوابق في وسط مدينة صغيرة من مدن دلتا النيل في شمال مصر، هي المحلة الكبرى المشهورة بمصنع كبير للغزل والنسيج، كان له شأن كبير في بنية الاقتصاد المصري فيما مضى، قبل أن يتوارى تألقه في ظل متغيرات جذرية شهدها المجتمع المصري عمومًا منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي.

يوازن الحلو في هذه الرواية القصيرة، التي ترصد خيبات الطبقة الوسطى وانهيار أحلامها بعد اعتماد سياسة الانفتاح الاقتصادي في مصر، بين سرد راوٍ عليم، يبدو أحيانًا كأنه أحد شخصيات الرواية، وسرد ذاتي تتولاه هذه الشخصيات. يبدأ بالشخصية المحورية، «فتحي عزت»، من اليوم الأول الذي سكن فيه أرضية منْور البناية، ثم ارتباطه بباقي السكان على نحو حميم على الرغم من الهوة الطبقية التي تفصل نظريًّا بينه وبينهم. تخطى الأربعين من عمره، يعاني ضعفًا شديدًا في البصر، ويتكئ على بنية هزيلة لتلبية احتياجاته البسيطة. جلبه «عبدالسلام» صاحب البناية، المولع بمضاعفة الأموال التي يجنيها من السكان ومن دكاكين القماش التي يملكها، من قريته ليقيم في منْوَر البناية، انطلاقًا من صلة قرابة بعيدة تربطه به. ظلَّ ثلاثة أيام ينظف أرضية المنور من مخلفات السكان، ثم فرش كرتونة كبيرة فوقها لينام عليها.

الحكاية بدأت ذات صيف، وهذا الاستهلال يسرده «فتحي عزت»، قبل أن يتسلم زمام السرد الراوي العليم: «في البداية كان مذعورًا من المكان، يدعك عينيه ليرى. صاحب البيت قرر، أن يرميه في المنور ليلقط رزقه»، وكأنه دجاجة عليها النكش في الأرض لتلقط ما يمكن أن تقتات عليه. ثم يعود السرد إلى «فتحي» ليحدثنا عن سكان البناية: «سهير هي أول من دقَّت عليَّ بابي، هذا الباب المشغول بالحديد ولا يخفي شيئًا، ولا يستر». خلع الجلباب وارتدى قميصًا وبنطلونًا جلبتهما له «سهير»: «تخيلتُ أنني صرتُ شخصًا آخر، وقررت أن أشتري مرآة صغيرة، سأعلقها على الحائط، وأبحلق فيها لأرى ما أنا فيه». كان صاحب البيت الذي يقيم في الطابق الثالث مع أسرته، قد اشترط عليه الحرص على أن يتصرف كأنه «أعمى وأطرش»، وإلا سيطرده على الرغم من صلة القرابة البعيدة التي تربطه به، التي لم يذكر أصلًا أي شيء عنها لأي من السكان، فظلت إقامة فتحي في المنور، أمرًا مثيرًا للدهشة بالنسبة إليهم، ومثيرًا في الوقت نفسه لمشاعر العطف عليه، عند بعضهم، ومشاعر اللامبالاة عند آخرين.

حمامتان

الشجو قاموسًا هو الهم والحزن، وفي المثل: «وَيْلٌ للشَّجِي من الخَلِي». أما الهديل فهو صوت الحمام، أو فرخ الحمام. ويبدو الهم قاسمًا مشتركًا بين شخصيات الرواية، بمن فيهم «عبدالسلام» مالك البناية الذي لا يعبأ سوى باكتناز المزيد من المال، ويشكل له ذلك همًّا يؤرقه طوال الوقت. ويقابله الشيخ علي المتطرف دينيًّا إلى حد التورط في نشاط يجعله هدفًا لشرطة أمن الدولة. ويلتقي الاثنان في التأذي من هديل حمامتين وثغاء عنزة مصدرهما المنور حيث يعيش فتحي. والحمامتان والعنزة أهدتهما بائعة جبن تدعى «اعتماد»، إلى «فتحي» ليتأنّس بها في وَحْدته. فيقرر «عبدالسلام ذبح الحمامتين والعنزة، ويقر «الشيخ علي» ذلك، ويفتي بأنه «حلال، حلال، حلال». لكن هديل الحمام بالرغم من شجوه كان يثير عواطف سكان آخرين، منهم كمال الذي يسكن حجرة فوق سطح البناية، فرسمهما في لوحة، ثم ألهمه ذلك أن يرسم لوحة أخرى لـ«آمال»، الابنة الكبرى لمالك البناية، التي لم تكمل تعليمها وبلغت الأربعين من عمرها من دون أن تتزوج. «ياه كبرت الزغلولتان، صارتا حمامتين وصرت أحب التنصت لهديلهما في الصباحات الباكرة، يرتفع كأنه تسبيح، كأنه تهدج، كأنه مغازلة، كأنه طلب الود».

جار النبي الحلو

هكذا تأملتهما «سهير»، قبل اكتشاف مرضها بالسرطان، ثم موتها وهي في ريعان شبابها. كانت آمال، كما يؤكد الراوي العليم، هي الوحيدة التي تعترف بأن «كمال» فنان. «كمال» تجاوز الخمسين من عمره، ترك الوظيفة الحكومية ليتفرغ للرسم. ارتبط وجدانيًّا بـفتحي وحمامتيه: «هو في حجرة صغيرة في المنور وأنا في حجرة صغيرة فوق السطح». كان «فتحي» موضع حسد من صاحب البيت الذي يراه بلا هموم، ومن ابنته «آمال» التي رأته يتمتع بحرية تتوق هي إلى مثلها لتتخلص من نظرات التأسي أو التشفي التي تراها في عيون المحيطين بها لانعدام أملها في الزواج… «آه يا آمال لو عندك حجرة صغيرة من خشب أو حجارة في قلب الصحراء، أو وسط الجليد، أو على شاطئ بحر، كنتُ أرتاح وأرمي هموم عمري، آه لو عندك يا آمال حجرة تطير فوق السحب، لا يحمل أحد همي ولا فرحي». وهنا يعلق الراوي العليم: «هكذا حدَّثت آمال نفسها، والدمعة انزلقت ولم يرها أحد، وضبطتْ نفسها تحسد فتحي على حجرته في المنور. همست بفزع: يا نهار أسود». ص 30.

أسرار

كان فتحي يحملق ليلًا في الشبابيك ليميزها: «هذا شباك يظل مضيئًا طوال الليل، وهذا شباك مظلم دائمًا، وشبابيك المطابخ يطفأ نورها ويضاء من حين لآخر». من مكانه هذا ستتهادى إلى أذنيه أسرار، تفشي بعضها مكالمات «سهير» الهاتفية، مع زميل لها في الجامعة. كانت تفضل الحديث هاتفيًّا معه ليلًا متكئة على شباك حجرتها المطل على المنور؛ حتى لا تسمعها أمها، من ناحية، ولأن شبكة الهاتف تكون ضعيفة داخل الشقة، من ناحية أخرى. «سهير»، على عكس أمها، نحيفة جدًّا، وهي معلمة لغة إنجليزية في مدرسة إعدادية، وترتبط بعلاقة عاطفية مع زميلها في المدرسة نفسها ويدعى «مالك». تكتشف أنها مصابة بالسرطان، فتقرر الانسحاب من تلك العلاقة.

يخاطب الراوي العليم القارئ مباشرة على الطريقة الشفاهية في أحد مواضع السرد بضمير الغائب، متحدثًا عن حنان ابنة مالك البناية: «بصفتي الراوي العليم أعرف أنها بالأمس وبعد أن نامت أمها وآمال نهضت في غضب وفتحت درج مكتبها وأخرجت خطابات حازم. مزّقتْها ورمتْها في سلة الزبالة. في اللحظة نفسها دخل عبدالسلام المنور ومعه جزار ليذبح العنزة». هنا يختم جار النبي الحلو الرواية بنهاية مفتوحة. وما بين البداية والنهاية، تتداخل الأزمنة وتتنوع أساليب السرد: استرجاع، تضمين، وتناصّ، وتَتتابَعُ المشاهدُ بما يشبه التقطيع السينمائي.

كما تحضر تقنية الحلم: «رأى فتحي في المنام الحمامتين تحلقان في السماء. استيقظ. أمسكهما ثم صعد إلى السطح وأطلقهما. اختفت الحمامتان بين سحب داكنة لم يرها في المنام». لكنهما سرعان ما عادتا إلى المنور. أما «آمال» فلاحظت أنها بدت في اللوحة التي رسمها لها «أصغر عمرًا، أكثر بهجةً، غير أن ألوانها داكنة». فيما كانت الحاجة نعمات، الموظفة الكبيرة، تعاني من الغلاء الذي بات يضرب كل شيء، ثم تجد نفسها غير قادرة على الوفاء بإيجار الشقة التي تسكنها مع ابنها الصبي، الذي لم ير أباه مطلقا؛ لأنه كان ابن سبعة أيام فقط عندما غادر الأب البيت. كانت ترفض أن تطلب من المحكمة الطلاق من الزوج الغائب، على أمل أن يعود يومًا ما. لكنها أصرّت في النهاية أن تفكر جديًّا في الحصول على الطلاق ومن ثم الاقتران بزوج جديد يعينها على أعباء الغلاء التي لم تعد قادرة على التصدي لها وحدها.

مات كمال، في حجرته، واعتماد لم تعد تأتي إلى البناية. أما فتحي مدير المدرسة، وهو غير فتحي ساكن المنور، فوجد نفسه بعد بلوغ سن التقاعد الرسمي، مضطرًّا إلى العمل مع ابنه في سوبر ماركت ليتمكن هو أيضًا من مواجهة موجات الغلاء التي لا تتوقف، كما لا يتوقف جشع «عبدالسلام». وعلى خلفية شجو الهديل، تحضر أصوات الشيخ محمد رفعت، وعبدالحليم حافظ وناظم الغزالي، وتتردد أسماء طه حسين ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبدالقدوس وإبراهيم أصلان، مقترنة بما تبثه الإذاعة وما يعرضه التلفزيون، وما يحكيه «عماد» و«كمال» و«مالك». والأخير هو حبيب «سهير» الذي كان يحب أن يسمع منها ما تحفظه من قصائد محمود درويش، قبل أن يقرأ لها مقتطفات من الروايات المولع بها.

«حياة البالغين الكاذبة» لإيلينا فيرَّانتي مونولوغ طويل تتخلله أصوات عدة

«حياة البالغين الكاذبة» لإيلينا فيرَّانتي

مونولوغ طويل تتخلله أصوات عدة

رواية «حياة البالغين الكاذبة»، للكاتبة الإيطالية إيلينا فيرَّانتي، بترجمة معاوية عبدالمجيد، أصدرتها أخيرًا مكتبة «تنمية» بالتعاون مع دار الآداب البيروتية، علمًا أنها صدرت بالإيطالية عام 2019م عن دار «إيديزوني إي/ أو». تخرج فيرَّانتي في هذه الرواية من فضاء ميلانو، الذي شغل رباعية روائية شهيرة لها، بعنوان «صديقتي المذهلة»، إلى فضاء مدينة إيطالية أخرى، هي مدينة نابولي، حيث تعيش «جوفانَّا»، التي تبدأ الأحداث وهي في الثالثة عشرة من عمرها، مع والديها، في حي راقٍ في نابولي العليا. لكنها تُصعَق عند سماع حديث بين والديها، وفيه يقارنها بـ«فيتوريا»، العمَّة؛ «القبيحة والحقيرة»، ومن ثم تهتز ثقتها بنفسها تمامًا، وقد كانت تستمدها من إطراء والدها الدائم لجمالها، وتنقلب حياتها المنظمة إلى حالة فوضى لا تدري -بحسب استهلال يسبق سرد ملابسات ذلك التحول الدراماتيكي ومآلاته على مدى نحو ثلاث سنوات من مرحلة مراهقتها- إن كانت تحتوي على الخيط الناظم لحكاية ما، أم إنها مجرد ألمٍ مشتَّتٍ لا شفاء منه.   

وتمتلك فيرَّانتي، التي لا يعرف أحدٌ مَن تكون حقيقةً، أسلوبًا مميزًا، وهي بحسب الأستاذ في الجامعة الكاثوليكية في ميلانو وائل فاروق، استثناءٌ في موجة «البيست سيللر»؛ «لأن كتابتها رغم بساطتها وعدم اشتباكها مع قضايا كبرى، جميلة وتثير حنين عدة أجيال تمثل اليوم جمهور القراءة الرئيس في الغرب». وعلى الرغم من نجاحها عالميًّا، فما زالت فيرَّانتي؛ المولودة في نابولي عام 1943م، تخفي هويتها الحقيقية منذ نشرها لأول أعمالها سنة 1992م. ومع ذلك فإنها تعدّ باسمها المستعار هذا، الروائية الإيطالية الأشهر في وقتنا الحاضر، فقد بِيعَ مليونا نسخة من مؤلفاتها في أكثر من 39 بلدًا حول العالم. تتمسك فيرَّانتي بسرية هويتها وتعدّها عاملًا أساسيًّا في عملها ككاتبة.

ازدواج لغوي

تشير «جوفانا» كثيرًا إلى ازدواج لغوي ما بين أهل نابولي العليا حيث تعيش مع أبويها، ونابولي السفلى حيث تعيش عمتها «فيتوريا» بقية أسرة والدها، وفي ذلك يقول وائل فاروق: «اللغة الإيطالية المعاصرة لغة حديثة جدًّا ولم تصبح لغة الحياة اليومية إلا مع انتشار السينما والتليفزيون في الخمسينيات. كل مقاطعة في إيطاليا عندها «لغة» مستقلة لا يمكن لأبناء المقاطعات الأخرى فهمها رغم أن جذورها ترجع إلى اللاتينية وعامياتها التي كان يطلق عليها الفرانكا».

تصر «جوفانا» على أن تتعرف إلى عمتها: «لم أكن أعرف عنها سوى القليل، أو لا شيء، وما رأيتُها إلا نادرًا، لكنني –وهذا هو المهم– لم أكن أذكر من تلك المناسبات سوى الخوف والنفور» (الرواية صـ11، 12). يضطر والداها إلى الرضوخ لرغبتها تلك، ومن هنا ستعيش تجربة ثرية في عالم يتجنبه والداها تمامًا، تمسكًا بالفضيلة المفتقدة هناك، بحسب زعمهما الذي سيتبين لاحقًا أنه كاذب، بما أن انعدام الفضيلة أو افتقادها هو أمر وارد في الأوساط الراقية وتلك السافلة على حد سواء، بحسب ما ستذهب إليه الرواية. ستبوح لها أمها بأن عمتها تعمل خادمة؛ «لأنها تركت التعليم وهي في الصف الخامس الابتدائي». وصارحها والدُها وهما في الطريق إلى العمَّة قائلًا: «كانت عائلتي فقيرة لدرجة أنهم كانوا بلا أعين تذرف الدموع».

وحين رأت الفتاة عمتها قالت لنفسها، أو بالأحرى لقارئ مذكراتها التي تشكل قوام تلك الرواية: «بدت لي فيتوريا ذات جمال لا يحتمل لدرجة أن اعتبارها قبيحة كان أمرًا ضروريًّا». أبوها اسمه «أندريا ترادا»، مدرس للتاريخ والفلسفة في أرقى المدارس المتوسطة في نابولي. الوالدة كانت تدرس اللاتينية والإغريقية في إحدى تلك المدارس، وتصحح روايات رومانسية، وأحيانًا تعيد كتابة بعضها.

ولدت جوفانا في 3 يونيو 1979م؛ (أي أن الأحداث وقعت بدءًا من عام 1992م تقريبًا). لها صديقتان شقيقتان؛ «أنجيلا» في عمرها نفسه، و«إيدا» تصغرها بعامين. والدهما «ماريانو»؛ أستاذ تاريخ في الجامعة، ويتعاون دائمًا مع إحدى المجلات المرموقة في نابولي. وأمهما «كوستانسا»، ستُفاجَأ «جوفانَّا» بأنها متورطة في علاقة عاطفية مع والدها بدأت قبل 15 عامًا، وسيُحدِث ذلك صدمةً نفسية لها ولأمها وكذلك لصديقتيها «أنجيلا» و«إيدا» وأبيهما، ومن ثم لن تعود العلاقة الحميمية بين الأسرتين إلى ما كانت عليه قبل الكشف عن تلك الخيانة، التي لن نعرف أبدًا ملابسات اكتشافها.

من أين يأتي الشر؟

جوفانا مولعة بالقراءة، مثل والديها. في البداية كانت تودّ أن تصبح مثلهما، لكنها سرعان ما ستصدم فيهما وتقرر أن تنأى بنفسها تمامًا عما يمثلانه من دون أن تتخلى عن الشغف بالقراءة والمعرفة. عبرت من دهشة الطفولة إلى صدمة البلوغ. تلك الصدمة التي لا بد منها في الطريق نحو النضوج، على ما يبدو. وجاء التحول الأبرز في حياتها الهادئة عندما سمعت أباها يقول لأمها عنها: إنها باتت تشبه عمتها فيتوريا «القبيحة الحقيرة»… «جاءني الحيض منذ عام تقريبًا، وصار نهداي مرئيين إلى حد يشعرني بالحياء» (الرواية صـ11).

في تلك الأثناء لم تكن تعرف عن عمتها سوى القليل أو لا شيء، وما رأتها إلا نادرًا، «لكنني –وهذا هو المهم– لم أكن أذكر من تلك المناسبات سوى الخوف والنفور». سؤال الرواية الذي تطرحه بطلتها المراهقة: من أين يأتي الشر؟ من هنا سيسيطر على «جوفانا» فضول لمقابلة عمتها، ثم في ضوء ما جرى في المقابلة، ستقول «جوفانَّا» لأبيها: إنها لم تعد ترغب في رؤية عمتها. عمتها كانت قد قالت لها في تلك المقابلة: «خير لك أن تخافي مني. ينبغي للمرء أن يخاف حتى إذا انعدمت الضرورة، فالخوف يبقينا متيقظين». لكن «جوفانا» لن تذكر شيئًا عن ذلك؛ لا لأبيها ولا لأمها.

لا يبرز من عائلة «أندريا ترادا»، سوى العمة «فيتوريا»، مع أن له شقيقًا يدعى «نيكولا»، وهو عامل في قطاع السكك الحديدية، وشقيقتين أخريين: «روزيتا»، و«أنَّا». ومن خلال العمة «فيتوريا»، ستتعرف «جوفانا» إلى أسرة «إنزو»، الذي مات في ريعان شبابه بعدما وشى «أندريا» به لدى زوجته «مرغريتا»، كاشفًا عن علاقته السرية بشقيقته. ولـ«إنزو» و«مرغريتا» ثلاثة أبناء: «تونينو»، «كورادو»، و«جوليانا».

ستشك جوفانا أولًا في أن «ماريانو» على علاقة سرية بأمها، لكنها ستكتشف أن والدها هو الذي يخون زوجته مع زوجة أعز أصدقائه، وأن ذلك بدأ قبل 15 سنة. وأخيرًا تقول عن حصيلة ثلاث سنوات من الاقتراب الحميم من عوالم البالغين: «عندما أجتهد في تصنيف المراحل التي مرَّت بمجرى حياتي المتواصل، حتى اليوم، أقتنع بأنني أصبحت شخصًا آخر نهائيًّا» صـ148. قالت لها أمها: «إن لأبيك زوجة أخرى (تقصد عشيقة) منذ 15 عامًا»، فردَّت عليها وهي غير قادرة على صرف شكها في أن أمها على علاقة حميمة بـ«ماريانو»: «وأنتِ أيضًا لك زوج آخر».

قال الأب: «لا جدوى يا جوفانَّا، فأنتِ مثل شقيقتي تمامًا»، ثم خرج من منزل الأسرة، ليعيش مع «كونستاس» وابنتيها في منزل فخم تملكه، ومن ثم أخذت علاقة «جوفانا» بالشقيقتين «أنجيلا» و«إيدا» تفتر متجهة نحو قطيعة حتمية.

هذه الرواية هي أشبه بمونولوغ طويل، ومع ذلك تتخلله أصوات عدة، لكن عبر «جوفانَّا»، التي تنتهي إلى القول لنفسها: «لستُ جميلة ولن أكون كذلك يومًا». ثقتها في نفسها مهتزة، كما يليق عمومًا بفتاة بلغت للتو السادسة عشرة من عمرها. هي أيضًا في ارتياب دائم، تجاه نفسها والآخرين… «أحتاج أن أعرف مَن أنا حقًّا، وأي شخص سأصبح». تبدأ الرواية وبطلتها على أبواب البلوغ، وتنتهي غداة احتفالها بعيد ميلادها الـ16، لكن الحكي هنا يأتي بصيغة التذكر. امرأة ناضجة، ربما تكون هي فيرَّانتي نفسها، تتذكر ملابسات دخولها عالم البالغين الذي تصفه بالكاذب، بما يعني أن ما سبقه كان عالمًا من البراءة، وكان لا بد من عبوره، فليس متاحًا -للأسف- أن نبقى ببراءة الأطفال إلى الأبد.