أسطورية السرد في «درب المسحورة»
تقوم رواية «درب المسحورة» (الآن ناشرون- الأردن) للكاتب العماني محمود الرحبي على حدث بسيط وهو اختفاء طفلة، لكن الاختفاء يأتي عبر أحداث صغيرة تنتمي في مجملها إلى ما يسمى بالواقعية السحرية، لكنها سحرية ترتبط بموروث عُمان الثقافي وهو خليط من المعرفة العربية والموروث الشعبي الذي تلعب المخيلة فيه الدور الرئيس، كما تلعب الصحراء بحضورها المادي والروحي بكل أساطيرها دورًا حاسمًا في السرد وتطور الأحداث، كما تلعب اللغة الشعرية ذات الكثافة والمجاز والتركيب الحاد والعنيف دورًا في حضور تلك الواقعية السحرية ذات الطابع العُماني.
كل تلك الاختيارات جاءت من الخيال الأسطوري الذي اعتمده الروائي واستخدمه بمهارة فائقة في تركيب الرواية وبنائها الشعري. فالبناء يقوم على فكرة السارد العليم والأحداث كلها في يده وتأتي على هيئة فيوضات لا يحكمها المنطق أو العقل، وإنما روح الجماعة البشرية ومعتقداتها الأسطورية ويلعب العقل فقط دور الحارس. فالشخصيات كلها من دون أسماء، وهو ما يوسع من دائرة الدلالة حتى تستغرق كل الناس في المكان أو كأنهم يمثلون تلك الجماعة البشرية. فالرواية تبدأ بظهور الطفلة التي تكشف أن مجتمع الصحراء نوعان؛ أحدهما يمارس مهنة الرعي وهم الأغلبية وتحكمهم قوانين في أغلبيتها قبلية، والسلطة بسيطة وقريبة من الناس فهي ممثلة في القاضي والحاكم، وأبوابهم دائمًا مفتوحة، ويحكمون دائمًا بالعدل بين الناس. والنوع الثاني طبقة المهمشين والخارجين على الأعراف والتقاليد، ويحكمهم التوحش والبربرية، ولهم ثقافة مادية مختلفة عن سكان الصحراء، ويعتمدون على السحر والقوى الخفية في كل أفعالهم، فهم يأكلون كل شيء من نبات أو حيوان حتى المفترس منه بل يأكلون الإنسان نفسه.
المتوحش في صراع مع المتحضر
النوع المتوحش في صراع دائم مع المستقر والمتحضر، الذي يخضع لقانون ما، فقد قاموا باختطاف الفتاة عن طريق السحر ليأكلوها، لكن أهل الصحراء لديهم طريقة ما لإفساد هذا السحر وإبطال مفعوله وهذا ما تم. إلا أن الذي أخذ الفتاة ليس أهلها ولكن راعية غنم، وكبرت في خيمة أخرى ليست لأهلها وظلت أمها في انتظارها طوال الوقت بعد أن بحثت عنها كثيرًا.
وكانت خيمة راعية الغنم بسيطة تتكون من زوجها القعيد والجمل والغنم فقط، وأصبحت هي بنتهم. وتصل المأساة إلى ذروتها عندما يترك أخوها الغنم ترعى على راحتها حتى تنفصل عن العمران ويتعرض لخطر العطش، وهو في حالة إعياء كاملة يرى خيمة من بعيد، فيتوجه لها فيرى صبية أمام الخيمة تخطف قلبه، فيذهب ويطلب الماء ويشرب حتى يرتوي وتقع في نفسه ويأتي بأمه لتطلبها للزواج. وعندما يصلان إلى خيمة الراعية تعرف الأم بنتها وتفرح وتحاول أن تأخذها، إلا أن الراعية ترفض فيحتكمان لدى القاضي الذي يُحكِّم الفتاة فتختار الراعية.
ليس في الرواية حدث كبير لكنها تقوم على الطقوس الصحراوية، وهي متنوعة حسب السرد، فهناك طقوس العابر في الصحراء، وطقوس الدفن، وطقوس التعامل والتزاوج، وطقس الاحتكام إلى الأعراف، وتلك الطقوس هي التي ترسخ المعنى وتطور الرواية. أما الجماعة المتوحشة والبربرية فتحكمها الغرائز الأساسية فقط، وهي محصورة في المأكل والملبس والجنس، وكل طقوسها بدائية ولا تَمُتُّ للإنسانية بِصِلة.
إن الرواية من حيث البناءُ تقوم على مفهوم القصيدة لا النشيد، ومن هنا تتابعت فصولها في سرد سريع لا يوقفه الإيقاع ولا الجمل القصيرة ولا الغنائية، وهو ما ساعد الراوي على كشف تفاصيل المجتمع بأقل لغة، وإن كانت اللغة هنا متعددة الدلالات، وتوحي بما هو خفي وباطني في المجتمع. إنها رواية خاصة تقارب رواية «عرس الزين» للطيب صالح ولا تقلده، وإنما تقدم عالمًا خاصًّا وغرائبيًّا لا يدركه إلا أبناء الصحراء.