محمد بكّاي في كتابه الجديد «جَدَلُ النِّسْويّة» رَجّ الهَيَاكِل المركزية للعقل والجِنس والهويّة
يأتي الكتاب الجديد «جَدَلُ النِّسْوية، فصول نقدية في إزاحة الدوغمائيات الأبوية» (منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف) للكاتب محمد بكّاي، ليسُدَّ فراغًا تعانيه المكتبة العربية في مجال النبش في إشكالية النسوية والجنوسة والجندر من زوايا ونوافذَ شتّى، ففي الخطاب الفلسفي الغربي منذ أفلاطون وصولًا إلى جاك دريدا، اتّخذ خطاب الجنوسة صورة جدلية ولغة مُحتدمة وقلقًا هويّاتِيًّا تُهيمن عليه المركزيات وتتجاذبه الأقطاب الـمتضادة.
وأبرز ملامح الجدل التي يحملها خطاب الاختلاف الجنسي، حسب المؤلف، هي تمايز الذكوري والأنثوي؛ حيث يجوب القطبان مَناطِق حَرجة، ويطوّقان قوانين لعبة صعبة حينًا، ويخترقانها حينًا آخر، لترتسم خرائط الهوية والانتماء الجنسي، وتُضبط طقوس الرغبة وممارساتها عبر جغرافيات محدّدة ومقدّسة معياريًّا.
أمّا اختراق ذلك الهيكل الجنْدري فهو من قبيل العدول عن الحدود الطّوطمية التي لا تُمَسّ، حدودٍ مقدّسةٍ بجّلَتْها النُّظم التيولوجية والسياسية أو فرضَتها الأنساق الاجتماعية والثقافية، ومن ثم فهذا الضرب من الخطابات والمقولات عبارة عن موجات معرفية جديدة في حقل الإنسانيات، تناسَل من العصيان الجارف لثورة مايو 1968م، وهي ثورة الاختلاف الجنسي بامتياز، تمرّد أزاح ثقل الصرامة البنيوية لـ«مفهوم الإنسان» الـمكبّل بالنسقيات والـمراقَب من طرف الدوغمائيات كما كرّسَتها الميتافيزيقا في قرون عدة، من شأن الإزاحة فتح قراءات جديدة للتصوّرات الثابتة حول الجسد والجنسانية (وما يُسلّط عليهما من قمع وتهميش وهيمنة…) وخلق تحقيق حفري عبر التأويلات والاحتمالات.
ويضيف المؤلف في تقديمه للكتاب القيم، «ويأتي في طليعة تلك الموجة الفكرية ما بعد الحداثية ما يسمى دراسات النوع الاجتماعي للجنسين أو النظرية النسوية. وقد ساءل الجنْدر الخطوط المعقدة لمفهوم الهوية الجنسية أو الجنسانيات كما فتحت النظريات النسوية جبهات حربها على الترسانة الهرمية للفكر التقليدي والفلسفة والتحليل النفسي والبيولوجيا والطب لتطعن في مسلمات الطروحات الميتافيزيقية، وتعصف بالتمثلات الاجتماعية، وتشكّك في الحقائق البيولوجية والتشريحية، عن طريق جدل الأسئلة المطروحة أو جرأة الـمقولات التي قوّضت الأرضيات الـمتينة التي تتخذها الهيمنة الذكورية مطيةً لها حفاظًا على تركات أو سلطات رمزية أو قوى متنوعة، تخدم الذكوري المتمركز على ذاته، وتقوّي شوكته دون الرغبة في اكتشاف آخره المختلف عنه جنسيًّا».
حفريات في الجسد والجنسانية
تتناول فصول الكتاب موضوع النسوي أو الأنثوي من زوايا متعدّدة، سواء داخل الحقل الفلسفي أو الإستاطيقي أو الاجتماعي. همّها المشترك هو «الأنوثة والأنثوي» عبر الحفريات في الجسد والجنسانية واللغة والمجتمع والثقافة والدين، مساهِـمة بقوة في إدخال أبعاد الجندر المطموسة داخل دوائر السياسي والاجتماعي، وتثوير الأسئلة التقليدية حول الـمرأة. فمنذ أفكار سيمون دي بوفوار الجريئة حول هذا الموضوع وصولًا إلى التنظيرات الشرسة مع لوسي إريغاري أو ساره كوفمان، بلغت مسألة الهوية الأنثوية أو قضية النساء طُرقًا شائكة، حادّة، وأحيانًا مسدودة وهي تستميتُ جدلًا في خلق توازن بين حميميات التفرد (الأنا) وآفاق الشمولية (النحن)، وكيف تتحقّق عدالتها، ليس من خلال مفهوم المساواة أو عملية استرداد الحقوق فقط، بل لتظل العدالة شيئًا يستحيل تحقّقه. ونستعير الاستحالة هنا بمفهومها التفكيكي مع جاك دريدا؛ لأن التعاطي النقدي لمفهوم الاختلاف الجنسي وهوية المرأة المتعذّر إمساك حقيقتها يستمدّ جذوره أو خيوطه من سرديات بعيدة، متأصّلة مراكزها في حقلي السياسة والاقتصاد (التدبير السياسي والمالي).
وهذه الهرمية استبعدت النساء ومارست طقوس الهيمنة مستغلّة فكرة الهوس الجنسي بالمرأة، وضخّمت رؤوس الأموال الثقافية والمحكيات الرمزية ليظل مجال انفتاح المرأة محدودًا ومثقلًا بالخوف من اللاهوتي والدنيوي، لكن الموجات الجديدة للنسوية ارتطمت بالرغبة السياسية لتحرجها بالأسئلة والشكوك، وتطرح أمامها فرضية التجاوز ولا بدية القفز فوق الأسوار التي نُصبت في وجهها، ومن ثم تمحورت فكرة الانزياح والإزاحة مع النسويات لـتجاوز التشييد السياسي للمرأة، وحلّ الجمود الذي ارتبط بثنائية الفردانية والكوكبية.
وهنا يؤكد المؤلف صعوبة تواشج النظريتين السياسية والنسوية وتشابك حقليهما، إلى قدر يستحيل معه الفصل بينهما. فكلّ من الـحقلين «النسوي أو السياسي» يتّقد ذكاءً ومكرًا، لكن النسوية استردت أنفاسها، وابتكرت أسلحتها الفلسفية والتحليلية الخاصة بها والـملائمة لها، مع استثمار مقولات فلسفية منفتحة وثائرة مجدّدة الأمل/التأمل في المجتمع السياسي وتلوّناته الثقافية، والكشف عن الروابط اللامرئية التي خلقتها أساسًا فكرة الاختلاف الجنسي متأثرات بفلسفات ما بعد الحداثة مع ألتوسير، فوكو، دريدا، دولوز.
حس نقدي يقظ
ويرى بكاي أن الأشواط التي قطعتها تحوّلات النظرية النسوية والأنماط الفكرية والتحليلية التي سجّلتها تعكس مدى التطور الذاتي والبرادايمي لها، فسليلات سيمون دي بوفوار لم يُقلّدن مقولاتها فحسب! بل تـمسّكن -بعزم وإقدام- بإرادة رجّ الهياكل الـمركزية للعقل والجنس والهوية، ومن ثم رسمت النظرية النسوية ملامح «حسّ نقديّ يقظ» لا يهاب قصف أسس الـمشروع الفلسفي التقليدي.
ومن ثم لم تكتفِ التحقيقات اللسانية والأنثروبولوجية والنفسية الدقيقة التي قامت بها النسويات بتقويض ركائز الخطاب العقلاني أو بعثرة الصفائح النصية، بل امتدّ شغبها إلى ضعضعة الـمكونات الهوياتية التي ثبتها الـمشروع الفلسفي، حركة من شأنها أن تفقده مبرّرات وجوده، وبخاصة أنها أجادت تصويب الهجمات؛ حيث لم تتهاون النسويات عن ضرب كلّ أقانيم تلك التركات بقبضة فولاذية، كما لم تدّخر جهدًا في فضح «زيف الخطابات الذكورية» نظريًّا وعلميًّا من هيغل وصولًا إلى فرويد (سارة كوفمان في كتابها لغز الـمرأة، أو لوس إريغاراي في عملها منظار الـمرأة الأخرى).
إنّ التركيز على نموذج جاك دريدا في تلقي الفلسفة النسوية انتقاء إستراتيجي؛ لأنه ينفلت من بوتقة الذكوري وسلطته الأبوية على الـمؤنث، فالتفكيك الدريدي لا يتعاطف كثيرًا مع الأيديولوجية الذكورية، فرؤيته للأنثوي تتصل بالتيولوجي والصوفي أكثر، وتتفوّق على الرؤية الإيروسية والحقائق المسبقة حول جسد الأنثى.
كتاب محمد بكاي يحاول سد فجوات التشكّلات الجنسية الهيكلية ودهاليز الفوضوية الهوياتية، بتقارب هيرمينوطيقي يأتي من نواحٍ متباعدة، تفكيكًا لـما أغفلته الثقافة في هندستها الجندرية بشكل لا واعٍ أو تحت قمع الهيمنة الأبويّة، وبعيدًا من الثوابت الثقافية لمفهوم الجنسين (الذكر، الأنثى).