تشكيل العالم في «يوميات شاعر مغمور»
يضم ديوان «من يوميات شاعر مغمور»، الصادر عن سلسلة الإبداع الشعري بالهيئة المصرية العامة للكتاب، 2018م، اثنتين وثلاثين قصيدة، يقسمها الشاعر خالد حسان إلى أربعة أقسام، كل قسم يعد جزءًا أصيلًا من وحدة كلية هي الديوان، والأقسام الأربعة هي: «إرهاصات ثورية» (قصيدتان)، «من يوميات شاعر مغمور» (أربع عشرة قصيدة)، و«الحب مرة أخرى» (خمس عشرة قصيدة)، و«غيابك» (ثلاث قصائد). وتشكل تلك الأقسام الوحدة الموضوعية التي تجعلنا ننظر إلى هذا الديوان بوصفه ذا مقدمة شعرية، ومتن أو موضوع شعري، وخاتمة شعرية لمكون واحد.
إضافة إلى الإهداء الذي يحمل روح الشاعر اللائمة التي تطلب الغفران من ناحية، ويحمل -من ناحية أخرى- آيات شكر لصديقه الشاعر محمد القليني؛ إذ يقول فيه: «إلى أبى وأمي.. أرجو أن تغفرا لي أنني لم أزل أكتب الشعر الذي لا طائل من ورائه/ إلى صديقي محمد القليني الذي بذل مجهودًا كبيرًا في تجميع هذه القصائد وترتيبها»(ص 9).
وينضوي هذا الإهداء على شقين: الأول يلوم فيه الشاعر نفسه ويطلب المغفرة من أبويه، ويبدو أنهما ليسا راضيين عن كتابته الشعر، الذي يرى خالد حسان أنه «لا طائل من ورائه»، وهو قد يكون محقًّا في هذا؛ إذ إن سؤال جدوى الكاتبة يُلح على كثيرين من أبناء هذا الجيل -أقصد جيل ما بعد ثورة يناير- الذي عاصر ثورتين، وذاب بين الجيلين السابق واللاحق؛ فتبدو ملامح هذا الجيل الذي ولد في ثمانينيات القرن الماضي متشابهة مع الجيل السابق عليه، وهو جيل لا يختلف كثيرًا عن جيل الثمانينيات من ناحية، وجيل ما بعد الألفية، وهو الجيل المتوافرة له الرفاهية الكاذبة وأحلام الثراء السريع من ناحية أخرى. أما الشق الثاني من الإهداء فهو لصديق خالد حسان، وهو الشاعر محمد القليني، وهو شاعر قصيدة نثر أيضًا، بذل مجهودًا في تجميع قصائد ديوان «من يوميات شاعر مغمور»، وترتيبها.
من الرمزية إلى المباشرة
وكما ذكرنا مسبقًا؛ فإننا سنقرأ هذا الديوان بوصفه أربعة أقسام، منفصلة متصلة في الآن نفسه، ففي القسم الأول «إرهاصات ثورية»، وفي القصيدة الأولى (1) يتبدى إنكار الذات والتفاني الذي يُرى في تعامل الآباء مع الأبناء؛ إذا يقول: «قالت نملة صغيرة/ لأخرى قُطعت ساقها/ إثر انزلاق قدم أحد الجنرالات/ فوق سلم مهجور/ لمعسكر قديم: لا بأس/ غدًا أولادنا سيعيشون حياة أفضل» (ص11). وهو الأمر الذي يشي بمظلومية الشاعر الذي يتمثل في هذا القسم من الديوان بوصفه نملة، من نمل كثير هم نحن البشر. ويقول في نهاية القصيدة (2): «وأخذ يهتف: هذه ليست حياة/ دعونا نخرج إلى الشوارع الواسعة/ والهواء النظيف»(ص12). وهو في هذه القصيدة يحيل إلى الثورة، مؤكدًا كوننا نملًا أو أعدادًا لا قيمة مهمة لها، مؤنسنًا ذلك النمل الذي هتف في المقطع السابق من القصيدة رافضًا وضعه الذي كان عليه، وداعيًا في الآن نفسه إلى الخروج إلى الشوارع الواسعة والهواء النظيف، في إحالة إلى الميادين التي احتوت صرخات النمل المظلوم إبان ثورة يناير، وتتجلى الوحدة الموضوعية في القصيدتين اللتين احتواهما هذا القسم؛ إذ إن المؤنسَنَ واحد، وهو النمل، وهو الرمز البطل الفاعل في القصيدتين، وفي هذا الجزء كله، بطبيعة الأمر.
أما متن الديوان الرئيس، الذي يحمل عنوان الديوان نفسه «من يوميات شاعر مغمور»، فقد خصه خالد حسان بمناقشة بعض تفاصيل الحياة اليومية التي أضحت واقعًا حياتيًّا يعيشه إنسان القرن الحادي والعشرين، أو لنقل إنسان ما بعد 2011م. واللافت في هذا الجزء هو المباشرة؛ إذ تحيل عناوين القصائد إلى متونها مباشرة، بخلاف الرمزية التي تمثلت في الجزء الأول من الديوان «إرهاصات ثورية». ففي قصيدة «بعض التقدير»، يرسم خالد حسان صورة للإنسان المشار إليه بوصفه إنسانًا وحيدًا سيطرت عليه التقنية والتفاصيل الحياتية المستحدثة، فيقول: «أحيانًا يحتاج المرءُ إلى تقدير من الحياة/ كأن يهتز الهاتفُ فجأةً/ بمكالمة طال انتظارُها/ أو يصطدم كتفُك بكتف صديقٍ/ لم تره منذ سنوات/ أو يعلن صندوقُ البريد الإلكتروني/ عن وصول رسالةٍ غير متوقعة/ أو ترسلُ لك إحدى الشاعرات الجميلات/ طلبًا للصداقة على الفيس بوك…»(ص15). والشاعر في هذه القصيدة غارق في تفاصيل الحياة اليومية، في تماهٍ واضح للعنوان مع المتن؛ عنوان الديوان بصفة عامة، وعنوان أو عناوين القصائد على وجه الخصوص، فالمفردات التي يستخدمها الشاعر مفردات حياتية يومية، يستخدمها الناس في حياتهم اليومية، بل في تفاصيل التفاصيل.
وعلى الرغم من كونه غارقًا في التفاصيل، فإنه يوظف مفرداته المكونة لقصائده توظيفًا متميزًا، وتبدو وحدة الموضوع في ارتباط أقسام الديوان بعضها ببعض؛ فالجو العام للقسم الأول من الديوان يتجلى في باقي أجزائه؛ إذ تحيل بعض مقاطع قصيدة «بعض التقدير» إلى الثورية في إحدى مفاهيمها العامة، فيقول: «أو يصطدم كتفك بكتف صديق»، وهو ما كان يحدث بشكل واقعي وقت الثورة؛ إذ كان من الممكن أن تصادف صديقًا جمعكما الميدان الثوري دون سابق ترتيب.
تتخلل تلك المشاعر الثورية قصائد الديوان، ربما دون سابق ترتيب أيضًا؛ لكن خالد حسان يوظفها باقتدار من يمتلك من اللغة أدوات تشي بكمال شعري في قالب نثري مميز. ويبدو أن شيطان الشعر الذي كان مشهورًا في التراث الشعري العربي القديم قد تلبسه، وهذا ما يتبدى في القصيدة نفسها؛ فيقول: «أو تأتيك ربة الشعر بعد إفلاس دام لعامين أو أكثر/ أو تصلك دعوة للمشاركة في مؤتمر الشعر العالمي/ أو ملتقى قصيدة النثر/ أو أي أمسية شعرية/ في أي قصر ثقافة/ مهجور»(ص16).
في المقاطع السابقة يناقش حسان طموحات الشعراء الذين يرون أنهم بحاجة إلى تقدير أكثر مما هم عليه الآن، وهذا ما يتبدى في آخر القصيدة؛ إذ يقول: «أحيانًا يحتاج المرء إلى بعض التقدير من الحياة/ كي يتعلق بمبرر -ولو واهٍ- لوجوده فيها»(ص17). ويظهر في هذا المقطع الختامي تأكيد الشاعر فكرتَه الأساسيةَ التي بدأ بها القصيدة، وتشكلت في ثناياها، لتكمل في نهايتها، حتى لو كان هذا المبرر ضعيفًا، أو واهيًا، بحسب تعبير خالد حسان نفسه.
شاعر لا يحب الشعر والسياسة
إن أهم ما يميز هذا الديوان وشاعره هو وحدة الموضوع التي تجعل المتلقي لا ينشغل سوى بملاحقة التفاصيل الحياتية التي يصيغها الشاعر في قصائده، فهو يتمثل قصيدة النثر تمثلًا متميزًا بوصفها تدور في فلك المهمش البسيط في شكله، العميق جدًّا في دلالاته وآثاره، فهو كباقي أبناء جيله من المصريين، لا يحب السياسة، على الرغم من أنه لا يستطيع أن يُغيِّر من كون كل تفاصيل الحياة اليومية مُسيسة بامتياز. ففي قصيدة «لا أحب السياسة» لا يصف نفسه فحسب، بل يصف جيلًا ورطته دقائق تفاصيل الحياة فيما حدث من أحداث بعد 2011م، يقول: «بالمناسبة/ أنا شخص كسول.. جدًّا/ وفوضوي/ وأناني/ ولا أطيق الأفكار الكبرى/ وليست لدي طموحاتٍ تخص المجتمع وأمراضَه/ وأحلامي -مهما اتسعت-/ لا تتعدى وجودي/ كفرد/ لذا/ لا تنتظري اهتمامًا/ حينما تميلين بالحديث معي/ ناحية السياسة/ أو الثورة/ أو تطلبين -ولو بطريقة عارضة-/ أن تعرفي رؤيتي إزاء المدعو «الربيع العربي»/ فأنا مثقل بي/ بما يكفي/ وهمومي/ أبعد من أن يناقشها مجلس النواب القادم!»(ص24).
ويبدو للوهلة الأولى أن الشاعر ينفي عن نفسه معرفته بالسياسة؛ لكنه في الوقت نفسه يستعير مفردات تُستخدم في الحقل السياسي بشكل دقيق، فالثورة، ومجلس النواب، والربيع العربي، الأفكار الكبرى، تراكيب لغوية يذيع انتشارها في الاستخدامات السياسية والخطابات الرنانة التي يستولي من خلالها السياسيون على عواطف الجماهير. واللافت أن هذا المتن الشعري المتمثل في القسم الثاني «من يوميات شاعر مغمور» تتجلى فيه البساطة والألفاظ المستخدمة في الحياة اليومية، حتى في القصيدة التي يزعم فيها خالد حسان أنه ترك كتابة الشعر؛ تلك القصيدة المعنونة بـ«لم أعد أكتب الشعر». لكنّ ثمة تعاليًا يمارسه الشاعر في هذه القصيدة، حين يقول: «تخيلي يا أمي/ أنني لم أعد أكتب الشعر/ أصبحت رجًلا عاديًّا/ كل ما يشغله لقمة العيش/ وقيلولة هادئة/ وفراش نظيف…»(ص29). قد يُرى في هذه القصيدة نرجسية تُخيّلُ للشعراء أنهم من طينة غير طينة باقي البشر، فكونه أصبح رجلًا عاديًّا فذلك ربما يكون غير عادي لشاعر، على الرغم من كونه شاعرًا مغمورًا باختياره لعنوان هذا الديوان على وجه الخصوص، وعلى الرغم أيضًا من كونه شاعرًا ينتقى مفرداته المفهومة والواضحة والجلية للقارئ العادي أو للرجل العادي الذي أصبحه الشاعر خالد حسان في هذه القصيدة؛ لأنه لم يعد يكتب الشعر.
قصائد للأنثى
وفي القسم الثالث من هذا الديوان، الذي يعنونه خالد حسان بـ«الحب مرة أخرى»، والذي يضم أربع عشرة قصيدة، تحيل عناوينها كلها -إضافة إلى عنوان القسم نفسه- إلى المتون بشكل مباشر. فقصيدة «معكِ»، عنوانها يشير، مباشرة، إلى أن المخاطب أنثى -كما في باقي قصائد هذا القسم- وقع الشاعر في شباك حبها. يقول: «قبلك لم أكن أحب/ فقط/ كنت أدرب مشاعري على الطيران»(ص46). فالقصيدة تتمثل الحداثة الشعرية بمفهومها الأكثر بساطة، ذلك الذي يعني خلق علاقات جديدة بين الأشياء في قالب لغوي، وهذا ما يتبدى في الجزء السابق من القصيدة، وفي السطر الشعري الذي يقول فيه: «كنت أدرب مشاعري على الطيران»، بما في هذه الجملة الشعرية من أنسنة للمشاعر. وكذلك في قوله في المقطع التالي: «معك/ عرفت كيف تنبت للحنين أظافر/ للمشاعر أجنحة/ للذكريات جيوب»(ص46). فالمشاعر تُدرب على الطيران، والحنين أصبح إنسانًا أو حيوانًا له أظافر، والمشاعر صارت طيرًا له أجنحة، والذكريات أمست شيئًا ذا جيوب.
وهكذا يستمر الشاعر في هذا الخط الشعري بين الأنسنة والتشيؤ، أي رؤية المشاعر كأشياء مادية لا معنوية. أشياء أو أناس، لا فرق، المهم هو خلق علاقات جديدة بين المفردات اللغوية المكونة للمتن الشعري، وهو ما استطاع خالد حسان فعله بشكل مميز يجعل شعره قريب الدلالة، عميق المعنى والأثر في الآن نفسه.
أما القسم الأخير الذي عنونه خالد حسان بـ«غيابك»، وهو يضم ثلاث قصائد، رقمها كما رقم المفتتح أو القسم الأول «إرهاصات الثورة»؛ فينحو فيه النحو نفسه الذي سلكه في القسم الثاني والثالث؛ إذ إن ضمير المخاطب فيه مؤنث، سيطر على جوه العام الفقد، وهو وعنوانه دالّانِ دلالة مباشرة على المتن، ففعل الفقد/ الغياب حاضرًا في قوله: «غيابك/ الذي أربطه/ كل صباح/ بحبل متين/ ثم أحمله على ظهري/ كفاجعة/ طوال اليوم»(ص75). وكذلك يبدو بارزًا في القصيدتين التاليتين. ولم يُعَنْوِنْ خالد حسان القصائد الثلاث، كما فعل في القسم الأول أو المفتتح، مُكتفيًا بالعنوان الرئيس لهذا القسم، مرقمًا تلك القصائد أو الحالات الشعرية، صانعًا حالة متميزة تترك أثرًا قويًّا في نفس المتلقي الذي يترك الديوان بعد قراءته بمزاج صافٍ يأمل في قراءة المزيد لهذا الشاعر الذي دائمًا ما أناديه بـ «الشاعر المغمور»، فقد صنع هذا الديوان حالة شعرية مكتملة تجعله يُكنى بعنوانه.