الحروفية.. الاشتغال بآليات مختلفة وطرح مفهوميّ جديد.. جوليان بريتون نموذجًا
يُعَدّ الحَرْفُ العربيّ نسقًا تكوينيًّا جماليًّا متموضعًّا في مدلوله وشكله، وإن هذه الصيغة في البروز بين التعيين في المعنى والدلالة وبين الظهور الشكلي، تُعَدّ من مقومات تطور وتنوع أشكال الكتابة للحرف العربي في حد ذاته، التي يمكن إرجاعها إلى البحث عن مكنون جماليات الحَرْف ورمزيته، وأغراضه، وتأثير ثقافة أو ثقافات في منهج تطور الحرف، فتتوسع دائرة حضوره ليأخذ خصوصية المكان والزمان.
إن تنوع الخطوط، كالخط الديواني، النسخي، القيرواني، الكوفي… إلخ، من دلائل ثراء الثقافة العربية الإسلامية، لتتنوع التشكيلات الحروفية عبر انغماس الفنان في مدلول الحَرْف في حد ذاته كبنية وكشكل، ومنه إلى التوليد في معناه الشامل. وهو ما يمكن التعبير عنه بولادة وظهور الحروفية العربية من آلية كتابة الحرف وتعبيراته إلى تعبيرية التشكيل بالحرف، وهو ما جعل من هذا الأخير رمزًا تشكيليًّا اختلفت مقارباته وتعييناته بحسب مقاربة وتعبيرية الفنان في حد ذاته، ليتأكد بروز وتموقع الحرف العربي في البناء الحروفي كفنٍّ من الفنون الإسلامية.
يُعَدّ تعدد إشكالات بحث الفنان العربي والمسلم في توظيف بنية الحرف في العمل الفني سواء في مجال التصوير أو النحت، من المقومات التي يمنحها امتزاج بنية الحرف في حد ذاته بنوع من الروحانية التي تقبل بمستويات ومقاربات مختلفة حسب توجه كل فنان.
إن هذه التمظهرات الروحانية في الخط شكلًا وممارسةً، يمكن أن تعطي صفة اللامتناهي في التجربة الحروفية بحيث «تصبح كل مظاهر الفن الإسلامي هي تعبيرًا عن اللانهائي كقيمة جمالية في الفن وقيمة من القيم الكونية الكبرى، وتصبح كل مظاهر الجمال في الفن الإسلامي في كل الخامات والأشكال وعلى كل المنتجات هي تذكيرًا بالمعنى القيمي نفسه نحو الوعي باللانهاية». فبالسياق نفسه تحمل الحروفية كتيار فني، إلى الموازنة الكمية والنوعية، لتنفتح على طرائق ووسائط فنية معاصرة يمكن لها أن تسهم في تطوير التجربة الحروفية، وتنفتح بدورها على جدليات جمالية وفلسفية تعطيها مجالًا أوسع للقراءة والتقبل فالفهم والتأويل.
إن تبدل آليات التعبير بالحرف ضمن منهج الانفتاح على وسائط فنية معاصرة، يمكن أن تمنحه بُعدًا رمزيًّا جديدًا، وتخرجه من إطاره الضيق والمعهود، ليفتح سجالًا متجددًا عبر تضمين مفاهيم تشكيلية تكسبه صفة التجدد والانفتاح. إن محاولة تقفي بواطن التعبير والإبداع في التجربة الحروفية عبر تغير آليات التشكيل، تتوجه إلى تحديد أهمية تدخل وحضور الوسائط الفنية، وبخاصة التكنولوجية أو الرقمية كوسائط معاصرة، ومدى منحِها الفنانَ رؤًى تشكيليةً وتعبيريةً جديدةً، يمكن أن تحمل بدلالات ومعانٍ تحطم حدود الأطر المادية المعهودة للأثر الفنيّ.
من هذا الإطار يمكن استحضار تجربة المصور الفوتوغرافي الفرنسي، جوليان بريتون، الذي اعتمد في تجربته الحروفية على تقنية التصوير الفوتوغرافي، واعتمد الحرف العربي في تكوينات وتركيبات حروفية عبر عنصر الحركة وتسجيلها بالضوء. هذه التجربة التي يمكن أن تتفرع في قراءتها إلى عنصرين؛ عنصر يهتم بدراسة الأبعاد التقنية في عملية التشكيل الحروفي بما في ذلك الوسائط المعتمدة، وعنصر يهتم بالمفاهيم والطرح التشكيلي الذي يمكن أن ينعكس في هذه التجربة لقيامها وانفتاحها على جملة من المفاهيم منها الأدائية، وجدلية البناء والتشكيل عبر الحركة ومشهدية الظهور والمعاينة البصرية، ومنها إلى انفتاح القراءة على المكان وفي الزمان.
قيمة ضوئية متحركة
إن تجربة جوليان بريتون، في اعتماده مبدأ التشكيل الحروفي في الفضاء المفتوح، عبر عنصر الحركة، الذي يُعَدُّ تجربة أدائية زمنية، إنما تتفاعل وتبرز تكويناتها ونتائجها من خلال عنصر تسجيل الكتابة في شكلها وبنيتها الحركية عبر آلية التصوير الفوتوغرافي، وهو يعد تسجيلًا لقيمة ضوئية متحركة ومتنقلة في الفضاء لترسم أبعادها وملامحها وشكلها بالضوء كوسيط، وبعدسة آلة التصوير الفوتوغرافي كتسجيل وإبراز لنتاج هذه الحركة داخل الفضاء.
إن هذا التعامل مع رمزية الحضور الضوئي والحركي داخل الفضاء، إنما هو كمسار بنائي تتأسس عبره تشكلات اللامرئي من خلال التسجيل اللحظوي للفعل عبر التصوير الفوتوغرافي «إذ تسجل ما تمت رؤيته، فالصورة الفوتوغرافية تستند دائمًا بطبيعتها أصلًا إلى ما لم تتم رؤيته، إنها تعزل فترة زمنية مأخوذة في ديمومتها وتحافظ عليها».
فهذه التجربة الأدائية الحروفية، التي تتنصل من المحمل المادي، ومن الأدوات المعهودة في الممارسة التشكيلية كالريشة والأصباغ وغيرها من الأدوات والمواد، إنما تطرح جدالًا تشكيليًّا وجماليًّا جديدًا؛ ليصبح الفضاء في أبعاده الفيزيائية هو محمل الأثر الفني، ولتصبح الحركة ضمن أدائية الفنان هي مكون ومنتج للأثر برقابة ومتابعة ذهنية وعقلية تحدد أبعاد الحرف وتراكيبه ضمن قراءة محسوسة من الداخل نحو الخارج.
وإن تدخل عنصر التصوير الفوتوغرافي، كمستقطب ضوئي، يمكن عدّه المحمل الثاني للأثر الفني وكعنصر تسجيل وباثّ للتجربة في نتاجها التركيبي الحروفي، وبها تبرز ملامح وهيئة المسار الحركي داخل الفضاء. ومن هذا الإطار تبرز قيمة المواءمة والسجال بين التكوينات الحروفية والفضاء الذي ترتسم فيه، كخطاب وتفاعل ثنائي مباشر، يثير في الوقت نفسه تفصيلات المكان ومكوناته، وكذلك في تموضع التكوينات الحروفية عليه، بتأسيس خطاب بصري محمول بتقنية التصوير الفوتوغرافي وتسجيلات حدوثية الفعل الإنشائي.
إن التركيبات الحروفية الضوئية التي أنشأها جوليان بريتون، قد اتخذت من الحرف العربي وخصوصياته محور نشوء هيئتها، ومن انسيابية حركة الجسد داخل الفضاء تأثيثًا لأبعاد الأثر الفني، ليكون محملًا بأبعاد زمانية مكانية، فيستحوذ عليها الحرف ويتشكل بها بصريًّا، فيكون بذلك تضمين لقسم من أقسام الجمال المحسوس، كما أورده أبو حامد الغزالي في قوله: «الجمال المرئي في المدركات المنظورة، ويستتبعه تذوق للذة بصرية من خلال العين والنظر». وهو ما يمكن التعبير عنه بالجدال الذي تمنحه هذه الممارسة بين المقاربة الحسية للتكوينات الحروفية، بما هي تكوينات حركية إيحائية وغير مادية وملموسة كتشبيه بحركات الإشارة، وبين بروزها العينيّ الذي تحققه المعاينة التقنية لمسار الإنشاء والتجربة الفردية، من خلال تقنية التصوير الفوتوغرافي التي تسجل هذا التحديد لمسار التجربة.
انفتاح على مفهوم الحرف
إن هذا التمشي في الممارسة الحروفية لجوليان، محور عملية يتأسس من مفهوم الصورة في عمومها كحمل لعدة دلائل ومنفتحة على التأويل الجامع للمتناقضات، لما يمكن أن تتصف به صُوَره المنتجة بانفتاح على مفهوم الحرف، الشكل، المادة والفضاء، كمحاور للتشكيل عبر خلق جدال بينهم، لتبرز ملامحها في الشكل العام للأثر الفني المنتج، «فالشكل هو الصياغة الأساسية للجسم والمادة، بينما الهيئة هي المفهوم العام للشكل يمثل نفسه، ولا يمكن لأي عمل فني أن يبرز ما لم تكن هناك ملامح وتفاصيل تشريحية قائمة للشكل، فالشكل واسطة نقل أو اتصال».
إن تجربة جوليان بريتون، وإن كانت في ظاهرها ممارسة تقنية ضوئية لتركيبات حروفية عربية ممزوج بعضها بحروف غربية، كنوع من الهِجَان بين الثقافات واللغات؛ لتصبح في رمزيتها كلغة كونية، إلا أنها ممارسة محملة بالمعاني والدلالات الفكرية والفلسفية والجمالية التي يمكن أن تقرأ خلف هذه التعيينات الظاهرية والبصرية لميلاد الأثر الفني، وخصوصًا في التعبير عن الحروفية والاشتغال عليها بآليات وطرح مفهومي جديد، يجاوز حدود الاشتغال على الحرف كتجريد أو غيره من المفاهيم الأخرى المعتمدة في العملية البنائية للعمل الحروفي.
فهذا الظهور أو التشكل للعمل الحروفي في تجربة بريتون يمكن عدُّه نسقًا تكوينيًّا حركيًّا عبر تعبيرات الجسد من خلال الرقص، وهو ما يمكن وصفه بالنشوء من الداخل إلى الخارج وتأسيس لخطاب رمزي دلالي في الفضاء.
من خلال أدائية جسد بريتون، تتوسع دائرة القراءة والمعاينة لهذا النشاط الحركي في رمزية وشكل بروزه، إلى معاينة آثار التصاهر مع إمكانات وخصوصية المكان، فيُضْحِي الأثرُ الحروفيُّ البصريُّ وغير الملموس عنصرًا متفاعلًا مع مادية المكان في الزمان، وليتشكل بخصوصية الفضاء المفتوح كحامل للأثر الحروفي، وهو ما يحيل إلى التعبير عن منهج ودلائل التأثيث في الفضاء عينه، الذي يمزج بين المرئي الملموس واللامرئي المحسوس فيصيران كلاهما مرئيينِ محسوسينِ متجسدينِ وظاهرينِ في الصورة، حيث «تملك الصورة الكثير من الجاذبية، وذلك بانغراسها في المتخيل الرمزي والاجتماعي للكائن، فهي قد تكون علامة ودليلًا، غير أنهما علامة ودليل يحملان في مظهر دلالتهما في مظهرهما، حتى وهي تستحضر الغائب وتعاضده. لذا، فإذا كانت اللغة قادرة على صياغة المرئي واستحضار اللامرئي مفهوميًّا، فإن قدرة الصورة تكمن بالأساس في تحويل المرئي واللامرئي إلى كيان محسوس».
هذه الصور المنتجة للتجربة والممارسة الفنية، تحمل أبعاد المكان والزمان، وتحول اللامرئي مرئيًّا. فالحركة ونتاجها كأثر غير ملموس ماديًّا، ليصبح مرئيًّا محسوسًا عبر تسجيل حركة الضوء في الفضاء بالصورة، فيُضحي اللامرئي مرئيًّا واقعًا، هذا ما يحيل التعبير عن قيمة الصورة وإمكاناتها الدلالية، وقدرتها على استيعاب المكان والزمان بما يتخللهما من عناصر بنيوية هي أساس العمل ومحور العملية التشكيلية. وكما جاء في قول الدكتور مخلوف حميد: «قوة الصورة لا تكمن في تنوع تشكيلها اللغوي، وإنما في تعدد مستويات دلالتها، لقدرتها الفائقة على تجسيد وتمثيل (المرئي-الواقعي) و(الخيالي)، أي تجسيد الوهم والغياب». إنه المجال الذي تلعب فيه الصورة دورها المحوري في تضمين المعنى والدلالة في مفهومها الشامل، لتكون أداة كشف للواقع ومواطن بروزه وتشكله، وظهوره فيما يقابله من عجز أو حدود للعين من تعيين لهذا الأخير.
قائمة المراجع:
– د. مخلوق حميد، مجتمع الصورة بين ثقافة الفراغ وفراغ الثقافة، الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم، تونس، 2009م.
– عبو فرج، علم عناصر الفن، الجزء الأول، دار دلفين للنشر، ميلانو، إيطاليا، طبعة1، 1982م.
– أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، جــ4، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، بدون تاريخ.
– أنصار محمد عوض الله الرفاعي، الأصول الجمالية والفلسفية للفن الإسلامي، جامعة حلوان، كلية التربية والفنون، 2002م.
– John Philippe Breuille, L’art du XX siècle, dictionnaire de peinture et de sculpture