غريغوري كورسو: بعض من بداياتي وما أشعر به الآن أنتمي إلى الشارع، ولكي أعيش سرقتُ أشياء صغيرة ونمتُ على أسطح المنازل
الشعر والشاعر متلازمان. لذا لا يمكنني الكتابة عن أحدهما بمعزل عن الآخر. وبما أنني شاعرٌ فأنا الشعر الذي أكتبه. منذ وقت مبكر رغبتُ في أن أصبح شاعرًا ولم أعرف كيف أؤلف قصيدة، كنت في الثالثة عشرة من عمري وحيدًا في العالم. بلا أمٍّ وأصبحَ والدي مجنَّدًا في الحرب. لذا فأنا أنتمي إلى الشارع، ولم أذهب إلى المدرسة. ولكي أعيش سرقتُ أشياء صغيرة ونمتُ على أسطح المنازل أو في مترو أنفاق مدينة نيويورك الكبرى، خلال الحرب العالمية الثانية وفي عام 1943م تحديدًا حيثُ عشت جحيمًا غريبًا. أعتقد أن الجحيم هو ما يولد منه الشعراء. فقد امتلأ داخلي بفرح وحزن لا يوصفان. فأردت أن أروي للعالم بأسره ما حدث لي، لكني لم أعرف كيف. ولو بقيت في الشوارع ربما لم أكن لأجد طريقة لمعرفة ما أريد. لقد سجنتُ. أعتقد أن بوصلة حياتي في ذلك الوقت لم تكن ضالةً أو على خطأ؛ فطالما أنا من أوجهها، فلماذا يكون خطأ، إن كانت ترشدني دائمًا بحسن نية أيًّا كانت البيئة التي وجدتُ فيها نفسي؟
سُجنت وأنا في السابعة عشرة من عمري وكان ينبغي إرسالي إلى إصلاحية الأحداث لقضاء مدة العقوبة لكوني لم أبلغ الثامنة عشرة لكني أودعت السجن وهكذا أصبحت أصغر سجين، ومثل هذا الأمر قد يمثل ظلمًا بالنسبة لآخرين لكنه أصبح أحد أهم الأحداث في حياتي. لم أشعر في السجن بأنني مقيد، وذلك بسبب عقليتي المرحة وغير الناضجة والتي غالبًا ما تكون حمقاء؛ بيد أنني لم أواجه البشر فحسب بكل أنواع البشر المحصورين داخل مصير مشترك، ولكن أيضًا كنت في مواجهة مع الزمن: ثلاث سنوات قرأت خلالها كثيرًا من الكتب المهمة، وتحدثت مع أرواح مدهشة -بشر عاشوا لسنوات عدَّة وهم محكومون بالإعدام، قبل أن يعفى عنهم -ولنْ أنسى أنني تحدَّثتُ مع مثل هذه الأرواح. قال لي أحدهم: «يا بُنيّ، لا تخدم الزمن، بل دع الزمن يخدمك». وهذا ما فعلته. فالزمن الذي طالما كان بمنتهى القسوة معي، عاملني بلطف هذه المرة وأفادني. وما أن أطلق سراحي حتى غادرتُ ذاك الشاب الذي نشأ بين شتى سلوكيات البشر بقبحها وجمالها. لذا، لا يمكنني أن أتحدَّث عن السجن بسوءٍ. لا أعني هنا أن السجن مكان جيد بأية حال، فهو بالنسبة للناضجين والمسنين أشبه بالعيش في تابوت، فأي باب مغلق على الإنسان أمرٌ محزن للغاية. أنا ما أنا عليه ولستُ أنفر مما كرهتُ وكانَ مفيدًا لي بطريقة غريبة. أحيانًا يمكن أن يكون الجحيم مكانًا جيدًا إذا ثبت للمرء من خلال وجوده، وجود نقيضه: الجنة.
وما الجنة؟ إنها الشعر.
لم أكتب الشعر عن السجن أو عن المحكومين، بل كتبت عن الخارج، لأنني عدتُ إلى العالم المفتوح. فأنا أنتمي إلى العالم وليس إلى السجن. في السجن كرَّست نفسي للقراءة لا للكتابة. وإذا كان علينا أن نتسلَّق سلمًا لنرى من الأعلى، فمن الأفضل أن نكتب عمَّا نراه بعد أن نتسلَّقَ وليس حول كيفية تسلُّقنا السلَّم. وبالنسبة لي، كان السجن هو ذلك السلم.
أنْ تتحدَّث من أعلى نقطة برأسك، وتثقَ تمامًا بنفسك، وبأنك تقول الحقيقة، لهو نعمة خلاص وعقبة مُزعجة أيضًا. فأنْ أكتب من أعلى نقطة برأسي يعني الكتابة من العمق وبصدق، ولكنه يعني أيضًا أن أكتب بفجاجة. وما من شاعر يرغب أن يبدو فجًّا. لكنني قررت تجشُّم العناء، طالما أنه يتيح لي قول الحقيقة. إذا كان ذهن الشاعر متسقًا، ستظهر قصيدته متسقة.
لم أعد أتذكر قصيدتي الأولى، ولم تعد بحوزتي نسخة منها، فقد فقدتها (مثل مئات سواها من القصائد التي لم اعد أتذكرها) في محطة للحافلات في ميامي بفلوريدا. كنت أضعها في حقيبة، وهي الشيء الوحيد الذي كنت أحمله في رحلاتي المتكررة؛ حقيبة أضع فيها قميصًا وبدلة مجعَّدة وسط سيل من القصائد. لم أعد للمحطة على الفور للسؤال عن الحقيبة. وبعد سنوات، سألتُ مدير تلك المحطة وأخبرني أن القصائد أتلفت على الأرجح. لم يقلقني هذا لأنني شعرتُ بأنني لن أنضب، كما لو كان لدي مصدر زاخرٌ لذلك المنتج الذي يسمى الشعر. الشاغل الوحيد الذي اهتممتُ به، وربما لم أكن محقًّا تمامًا، هو ألا أفقد الشاعر. فطالما بقي لديّ الشاعر ستكون لديّ القصائد.
50 قصيدة مقابل كل قطعة من الملابس الداخلية
لكن حتى في السنوات الخمس الأخيرة من رحلتي في أوربا، دأبت على حمل حقيبة واحدة فقط، ودائمًا بالمحتوى نفسه: خمسين قصيدة مقابل كل قطعة من الملابس الداخلية. وحينَ أضطرُّ إلى فتح الحقيبة في الجمارك، كان ضباط الجمارك يرون قصائد وقصائد وقصائد فحسب. من المفترض أن الدبلوماسيَّ وحده هو من يسافر ومعه كل هذه الكمية الكبيرة من الأوراق، لكن مظهري وملابسي المجعَّدة لا يجعلاني أبدو مثل دبلوماسي. إذًا ماذا يمكن أن أكون غير جاسوس أو شاعر أو كليهما؟ الشاعر جاسوس، لكنه ليس على القضايا السياسية، فهو يتجسَّس علينا جميعًا ويبلِّغُنا جميعًا. وقد سمَّاه كيتس (جاسوس الله) ومن خلال الإيمان بالإنسان، أصبح جاسوسًا لدى البشرية. وفي النهاية، لم أعد أجد صعوبة في التعامل مع الجمارك، ما عدا أنني كثيرًا ما كنت أجد صعوبة كبيرة في إعادة إغلاق الحقيبة فقد كانت قصائدي مكدَّسة فيها بحيث إنني حين فتحتُ الحقيبة داخل القطار، وعادة ما يكون ممتلئًا بالمسافرين، نطَّتِ الأوراق مثل قردٍ من صندوق زنبركي وتطايرت في كل مكان، وهو أمر مزعج؛ لذلك حاولت السفر بدونها، لكن هذا لم يكن جيدًا لأنني كنت أفقدها حيث أتركها. أعتقد أنني فقدت قصائد أكثر مما هو منشور حتى الآن. ولعل أفضل حل لتفادي ضياع قصائدي أن يصبح لدي محرر. وبمجرد أن أنتهي من إنضاجها، أرسلها إلى المحرر الخاص بي في نيويورك. وبهذا يمكن حفظ قصائدي.
كنت شاعرًا منذ طفولتي حتى خروجي من السجن، على رغم أنني لم أكن أكتب القصائد. وحين خرجت من السجن بدأت أكتب بغزارة، وإنْ بدتْ سيئة ربما. يستهويني أنْ أستنتج أن هذا سبب ضياع قصائدي. في البدء بدا لي أن كتابة الشعر مهمة بمنتهى السهولة، على رغم أن معظم النقاد يصنفون الشعر أحد أكثر الفنون صعوبة، لكنني لم أصدق ذلك. وكنت أقول من السهل جدًّا عليّ كتابة هذا الشيء الكبير الصعب. ولكن حلَّ وقتٌ لم أكن أكتب فيه سوى قصيدة أو قصيدتين في الشهر. حيث لم أتمكن من كتابة ما يريد داخلي أن يدوِّنه على الورق. وها أنا الآن لا أكتب سوى القصائد التي تكلفني كثيرًا من الجهد والفرح.
في هذه المدة، أصبح أكثر الشعر رواجًا الشعر بين الشعراء، وأصبح أكثر تلقيًا وفهمًا من ذي قبل. لكن ليس مهمًّا ما إذا كانت القصيدة رائجةً أم لا، بل المهم أن تظهر الحقيقة ومدى تطوُّر وعي الشاعر. وسواء كان الشاعر مفهومًا أم لا، أو كان جيد التلقي أم لا، فسيكون عليه يومًا ما أن يصل إلى الوعي الجوهري والكوني للإنسانية. وهذا من شأنه أن يفيده.
يكمن سحر القصيدة، السر الحقيقي للشعر، في القدرة على جعل مصير الأرواح البشرية أفضل وأكثر تطورًا. هناك سبب لوجود الشاعر والقصيدة. فمثلما كان هناك البحَّار والبحر والسفينة والاكتشاف. لا بدَّ أن يكون ثمة شخص هو (كريستوفر كولومبوس) العقل. ويمثل الامتداد الهائل للوعي، وهذا ما يفعله الشاعر. ولكن على خلاف (كريستوفر كولومبوس) الذي اكتشف عالمًا جديدًا كان موجودًا أصلًا، على الشاعر أن يخلق عالمًا جديدًا لم يسبق له وجود قبل أن يدوِّنه. ومن ثم يكشفه لكل البشر ولكل الأزمان. عندما أتيحت لي البصيرة الداخلية لأفهم ما كتبته، وجدتُ أنَّ ما كتبته يشبه مفتاحًا يفتح بابًا لم يدوَّن، ثمَّ دونت ذلك الباب؛ وحين فتحتُهُ، ماذا وجدت خلفه؟ لا شيء. لا شيء، طالما أنني لم أدوِّن شيئًا هناك. أعلم جيدًا أنني لن أجد شيئًا لا يمكن رؤيته. أعلم جيدًا أنَّ عليَّ إنشاء غرفة رغبتي الحقيقية. عندها، وعندها فقط يمكنني الدخول إليها لأسكنها بسلامٍ وفرح.
فإذا كان الشاعر قادرًا على الشعور بالسلام والفرح، فبالتأكيد أن البشرية جمعاء تشعر بهما. لكن يحدث أن البشرية جمعاء لا تشعر بالسلام أو الفرح؛ فهل ستشعر بها يومًا ما، وهي لم تشعر به من قبل؟ وهل ستصبح مثل هذه البشرية ممكنة؟ يمكنني تخيُّل ذلك، لكنني لا أعتقدُ أنه ممكن. فليس كلُّ الناس سواءً. فبعضهم في هناء. وآخرون في شقاء. وإذا شعر الجميع بالسعادة بينما ثمة حبلٌ يلتفُّ حول رقبتك فسأعرف أنه طالما ثمة موت فسيكون ثمة تعاسة. الحزن، كالموت، لا مفرَّ منه. فهذا هو مصيرنا. بالنسبة للحزن، فإن الشيء الوحيد الذي يمكننا فعله حياله هو محاولة أن نجعل الآخرين سعداء؛ وأما الموت، فإن الشيء الوحيد الذي يمكننا فعله حياله هو أن نعيق طريق جنونه. هذا هو الشغل الشاغل للشاعر المعاصر. فقد تقبَّل ما لا مفر منه، لذلك عليه أن يتعلم كيف يعيشه بشكل أفضل. ومع ذلك، ثمة كوميديا تتمثل في أن الجميع يعتقد أنه يعيش اللا مفر منه بقلب وروح أعلى مما لدى الشاعر.
الشاعر ثانويًّا بالنسبة للقصيدة
هذه هي الحال في الولايات المتحدة. العيش في عالم اليوم يمثل بالنسبة لي حالة كوميدية. على رغم أنني أؤمن بأن «الحداثة» و«المعاصرة» كلمات خادعة لأن كل البشر لديهم زمن واحد وروح واحدة، إلا أنها تركت لدي شعورًا فكاهيًّا بأن ثمة شاعرًا في العالم يمكنه كتابة قصيدة متقنة، في حين لا يجيد إتقان نفسه. يعدُّ الشاعر ثانويًّا بالنسبة للقصيدة. فليعانِ الشاعر، لكن لماذا ينبغي للقصيدة أن تعاني وتجعلنا نعاني؟ أقول إنها كوميديا حزينة لأنه أيًّا كان الضوء الذي قد يضفيه الشاعر، فهو – وليس القصيدة – من يضفيه. الضوء ينبعث من الشاعر لا من القصيدة.
الشاعر يضيء القصيدة. والقصيدة تضيء للبشرية جمعاء. في بلادي نحن نكرِّم الشعر ولا نكرم الشعراء. أنا جوهر شعري. ومن يكرم شعري يكرمني ومن يلعنني يلعن شعري. أنا الشعر الذي أكتبه. أعيشه، أستمتع به، وأعاني منه؛ وأتمنى أن يكون كل ما فيه من فخامة ومهابة لي وللجميع. فلم أكتب أي قصيدة ما لم تكن بطريقة أو بأخرى قريبة إليَّ كما لو أنها جسدي.
كل ما أعرفه مصدره الإنسان ونفسي والكتب. ولكون الكتب من الإنسان، ولكوني إنسانًا، فهذا يؤدي إلى القول إن كل قضايا الشعر بين أيدي الإنسان، وإن الشعر لا شيء بدون الإنسان.
العالم مكان يصعب العيش فيه، أما بالنسبة للشاعر فقد يغدو مكانًا لا يطاق. من بين كل هذه الدوامة من الكدح البشري، فإن الإنسان- الشاعر مقدر له الإقامة في ضواحي البشرية. ومن بين جميع البشر وعبر كل العصور، الشاعر هو الوحيد الذي لم تتلوث روحه بالظلام والمسوخية والارتكابات التي لا تغتفر، ومع ذلك فإنه يعيش منفيًّا من الحياة بالحياة. مكانٌ منعزل ومشقَّة بلا أجر هي الضاحية الحتمية للشاعر.
كلا، الشاعر ليس أسعد البشر، لا، بل ربما هو الأكثر تعاسة من بين بني البشر. أشك في أن شعراء العصور السابقة قد واجهوا مثل هذا الوضع الصعب وغير المحدود كما هو الحال الآن. وأعتقد أن الشاعر المعاصر يواجه الأسوأ في المستقبل.
ما ينبغي أن يصبح عملًا فنيًّا هو الشاعر لا القصيدة. ينبغي أن يصبح الشاعر جميلًا وكاملًا. يتطلب هذا العصر أن يكون الشاعر -أي الإنسان-حقيقيًّا مثل القصيدة. وهذا ما يحدث لأنَّ الشعراء قصائدُهم. هؤلاء الشعراء مختلفون تمامًا عن سابقيهم. أولًا: لأنهم يركزون على (النفس) أكثر من القصيدة. لأنهم يؤمنون تمامًا بأنه إذا تشكَّلت كينونة الشاعر بشكل جميل، فسيؤدي إلى تشكل القصيدة بشكل جميل. فمن المستحيل على شاعر مشوه أن يؤلف قصيدة سليمة. وثانيًا: على الشاعر اليوم أن يتكيَّفَ مع عالم ووعي في حالة تغير مستمر. عليه أن يتعامل أيضًا مع ما هو غير شعري بدلًا من الشعري. وهذا يتناقض مع تكوينه بالكامل، وكيانه بالكامل. ولذا فعليه أن يغير نفسه وإلا سيموت.
إنه يرى العالم من حوله ويدرك أن عليه التغير معه. إن أراد البقاء حيًّا. العالم يتغير لذا على الشاعر أن يتغير، وهذه حالة جديدة وشاقة وعارمة. ولأن الشاعر أول من يدرك التغيير، فعليه أن يطلق بوق التنبيه.
لم يعد الشاعر يرغب في أن يغني للأشجار. ذات مرة وجدتني أميل إلى كتابة شعر عن الأشجار، لكنني تركت الفكرة لأن شعرًا آخر أكثر يأسًا كان يغريني. أتذكر أن بعض شعراء (الطبيعة) سخروا مني بقولهم: «لكن الأشجار جميلة جدًّا، وفي الواقع هي أكبر بكثير من البشر». عندها ضربت بقبضة يدي على الطاولة الخشبية وقلت: «هذا! ما يفعله الإنسان بالأشجار!».
يوجد الآن كثير من الشعراء في الولايات المتحدة، وكلهم لديهم ما يقولونه. بعضهم يقوله على نحو سيئ وبعضهم الآخر بشكل ممتاز؛ لكن الجميع يتحدثون عن حب الخير والأمل بالحرية الفردية والكونية. إنهم يشيرون إلى وعي جديد، وحقبة جديدة، وهم يمثلون غروب الشمس وشروق الفجر في وقت واحد.
لم يجد الشاعر نفسه في أي وقت آخر من التاريخ في مواجهة العالم وجهًا لوجه، كما هي الحال الآن، تارةً على خلاف معه، وتارةً على توافق معه. إنه يرى نفسه ويرى كيف يراه الآخرون، لكن نادرًا ما تلتقي نظراتهم.
يصرخ الشاعر من أجل التغيير الاجتماعي لأجل العالم كله، رغم أنَّه يعلنُ بأنه هو من يحتاج إلى هذا التغيير وليس العالم كله. أعتقد أنه لا يوجد مجتمع يليق بالشاعر. في الولايات المتحدة يتخذون من الشاعر مثالًا للتندُّر، أو يرون فيه متمردًا إذا ما داسَ على إصبع قدم المجتمع الكبير. لا أحد وصيٌّ على المجتمع، والشاعر آخر من يدعي ذلك، لكنه مؤهلٌ أكثر من سواه أن يُحدثَ ذلك التغيير حتى حين يمنعه القدر من الوصول إلى ذلك المجتمع المتغير. وهو محكوم عليه أن يحيا على هامش المجتمع، دون أن تُلقى جريرة ذلك على أحد. الشاعر يعيش في عالمه الخاص وهذا أفضل ما يمكن أن يتاح له، وينبغي أن يكون كافيًا… لكنه ليس كذلك.
أرى أنه سيكون هناك كثير من الشعراء في المستقبل، وستتسع الروح الشعرية وتصل إلى الجميع وستعبر عن نفسها ليس بالكلمات – المكتوبة في القصيدة، بل في الكائن البشري وأفعاله التي يكرسها. ولكي يحدث هذا، من الضروري أن يندمج عالم الشاعر وعالم الآخرين، وبالتالي إنشاء إمكانية جديدة.
مجابهة الانتهاكات ضد البشرية
بضعة شعراء في كل بلد في العالم يمكنهم أن يعيشوا ويعتادوا في العالم الخارجي وكذلك في عالمهم الخاص، لكنهم سيصادفون ما سيقودهم إلى مجابهة الانتهاكات التي تُرتكب ضد البشرية. وعندما تتنوع الإنسانية الشعرية وتتسع وتحتضن الجميع بهذه الروح من عالم الفكر والجمال (ليس بالكلمة المكتوبة بل بالحقيقة الشعرية) فلن يكون أمام المجتمع سوى أن يتكيف مع هذا الوضع ومع ذاته. وأرى أن هذا هو الاتجاه الذي يسير فيه الإنسان، لأنه محكوم به وعليه أن يعيه؛ ويتعرف على زمنه. وسيتيح له ذكاؤه وتعاطفه أن يتغلب على كل العقبات التي قد تحاول صرفه عن هذا المسار، وحينها لن يكون (الشاعر) اسمًا بل يصبح نصرًا.
سيتغير الإنسان وكذلك الشاعر، لأنه هو أيضًا يفتقر للكمال. هناك كثير من الشعراء في محنةٍ، خاصة في الولايات المتحدة لأنهم يفتقرون إلى الاحترام والتكريم. جميع البشر تقريبًا يتوقون إلى الاحترام والتكريم ويسعون لنيلهما، والمحزن أن نيلهما في الولايات المتحدة لا يتحقق إلا بالمال. لهذا السبب فإن الشاعر الأميركي الذي يتمنى أن يحظى بالاحترام والتكريم يُهزم قبل أن يبدأ النزال. الغبي وماله سرعان ما ينفصلان، لكن الشاعر والمال لا يلتقيان لكي ينفصلا. ومقولة إن الشعراء يكتبون أفضل عندما يكونون جائعين ومشرَّدين ليست أكثر من قصة خرافية غبية.
لقد كنت أتحدث عن الشاعر لأن القصيدة بدونه لا تعني شيئًا. فحيث لا يوجد شعراء لا يمكن أن يكون هناك شعر أيضًا. في الوقت الراهن يبدو أن كل شيء ضد الشاعر الذي يتعرض دائمًا لخطر الإبادة. ونظرًا لما يلقاه الشعراء من تعامل الآن، أشك في أنهم سيتقبلون تحمُّل حالتهم في المستقبل (في حال وجود شيء مهم في رؤوسهم). بسبب حساسيتهم الشديدة، وحتى لو كانوا أقل حساسية، لا يقبل الشاعر أن يصنف على أنه كائن خاص أو متمرد؛ لا يمكن لذكائه قبول إهانة الترويج الدعائي.
فنجوم السينما يرحبون بالدعاية والترويج لأنهم يكسبون من خلالها الشهرة والمال؛ لكنها ستجلب للشاعر شهرة مدمرة، دون أن ينال المكافأة المالية اللعينة. الشاعر ليس فنانا هزليًّا استعراضيًّا مثل نجوم الترفيه. كل ما أقوله يتعلق ببلدي. الذي يمكن أن يصبح أعمى تمامًا ما لم يكن لديه شعراؤه (وخاصة مع الجيل الحالي الذي أنتمي إليه). الشعراء فتحوا عيون بلادي وأنا لست مع شعراء أميركا لا في الحاضر ولا في الماضي الذين لم يطلقوا صراخهم مطالبين بالحرية. للشاعر الحرية في فعل ما يشاء حيال شعره ووضعه. ويمكنه أن يغير كل الحالات المادية، لكن ليس مكانته كشاعر. الشاعر في عزلة في حالته الشعرية وفي حالته الإنسانية، بصفته شاعرًا -إنسانًا – وهو مكان يمكن أن يشعر فيه بعدم الأمان والحيرة، وأحيانًا يتأذَّى ويتشوَّه.
الشاعر يعاني من البشر لا من الشعر. وهذا ما يثير اهتمامي أكثر. لا يكفي أن تحترم البلاد شعراءها وتكرّمهم، بحيث يصبح ذلك سببًا لوجودهم. ثمة العديد من البلدان تعامل الفنانين باحترام لكنها تفتقر إلى الشعراء. لا يقتصر اهتمامي على الشعراء الأميركيين ولكني أفكر في جميع الشعراء في شتى أرجاء العالم، لأن كل واحد منهم هو، أولًا وقبل كل شيء، كائن كوني، ولهذا السبب يستحيل على الشاعر الحقيقي أن يكون إقليميًّا أو قوميًّا. كتابة قصائد في مديح البلاد ما لم تولد من القلب هي موت للشاعر. حالة الشاعر على الأرض اليوم بائسة. في الولايات المتحدة يُنظر إليه على أنه كائن غريب ودخيل على نمط الحياة في البلاد. في روسيا لا يستطيع أن يغني أغنيته الخاصة ما لم تكن في مديح البلاد، وفي أوربا استهلك، وفي آسيا لم يعد له وجود. كل شيء مغطى باليقين. وأصبح الشاعر وكيل الضرورة (وهو كان في السابق وكيلًا للجمال) فأصبح متلقيًا لليقين؛ وأصبح هذا اليقين مبرر وجوده.
عالم لم يعد هنا
الوعي بأن العالم يتغير يساهم في تكريس عدم اليقين. بينما عدم معرفة أن العالم يتغير يضاهي التيقن من عالم راكد ومعروف سلفًا، عالم لم يعد هنا. الماضي، كما هو معروف، يبدو أكثر أمانًا من المستقبل؛ ومع ذلك، لا نعرف ما إذا سيكون المستقبل أفضل أم أسوأ. من الواضح أن يقين العالم القديم بات وراءنا، ذلك العالم الذي شكَّلتهُ أفكارٌ وأساليب كانت جديدة في وقتها لكنها أصبحت معروفة وبالية، وهي تحتضر وتموت بمرور الوقت. لقد ماتت أفكار وأنماط الماضي. يبدو أن العالم يجلس متكئًا على كرسي بذراعين ويسألنا: (ماذا الآن؟) (ماذا بعد؟) لا أحد يعرف ولا يستطيع أن يعرف. الشيء الوحيد الممكن هو الانتظار والقيام بكل ما في وسعك حتى يتحقق ما تريد.
أعتقد أنه للوصول إلى اليقين، من الضروري المرور بعدم اليقين. يعرف الفرد الذكي جيدًا أنه لا يمكنه أن يكون لديه يقين بشأن الحياة، لاسيما بشأن الحياة المتغيرة في الوقت الراهن، لأن مثل هذا اليقين سيكون ناجمًا عن الصلافة والرياء وضعف الرؤيا، وهذا يتعارض مع طبيعة الحياة. الإنسان متواصل مع العالم. والعالم مستمر في الحركة ويحتاج إلى الإنسان لمساعدته على الاستمرار، ليس من أجل العالم نفسه ولكن لأجل الإنسان، لأن العالم يجب أن يسير دائمًا في مساره بينما يكون الإنسان مهددًا بعدم الاستمرار. الإنسان مسمَّرٌ في العالم ولا يستطيع تركه دون أن يموت، وإذا أراد أن يستمر في الحياة فعليه أن يتولى المهمة، فليس أمامه خيار آخر. العالم والحياة والموت تواصل مسارها. بينما يظهر الشعراء ويختفون، والموت يسبق الحياة، والشعر يعقب الحياة. لأن كل شيء يتغير: الإنسان والجبال والبحار وطرق ارتداء الملابس والسيارات. لقد حدث هذا دائمًا. واليوم نحن على دراية كاملة بالعملية المتغيرة بيننا. نحن ملتصقون بها بشكل وثيق، ولأول مرة في التاريخ يصبح لدينا يقين مما سيأتي.
العالم يكبر كلما صغر. فبينما تجعله سرعة سفينة الفضاء أصغر، فإن الفكر البشري يُوسِّعُه. لم يعد ثمة مناطق قابلة للاستكشاف على الأرض. على (كريستوفر كولومبوس) الآن الإبحار في بحار عقولنا، ولماذا الشك في أنه سيجد قارة رائعة هناك؟ عندما يُعثَر على تلك المنطقة العقلية، سيرغب جميع الناس في الهجرة إليها والاستقرار فيها من أجل تشييد مبانٍ جديدة. لقد سافر العقل البشري الرائع إلى القمر منذ مدة طويلة، لأن صواريخنا الأسرع من الصوت؛ وكلما زادت قوة الصاروخ الذي نسافر به، زادت مدة الرحلة؛ وكلما وسعنا عقولنا، زادت فرصنا في التعلم والاستمتاع بالمغامرات التي تنتظرنا. لا أشك في نضوج الوعي.
يتعذَّب الإنسان، ويصرخ من قلبه الممزق: «يا إلهي!» لكنَّه مخلوق بروح إله، حتى وإنْ كان لا يعبد إلهًا. الإنسان هو من يعذب الإنسان. الحياة ليست سيئة أو محزنة بحد ذاتها، لكن الإنسان هو من يجعلها على هذا النحو. فجميعنا نعلم أن الإنسان هو من يطلق المدفع، ويعذب بالدعس بالحذاء العسكري، والصعق بالكهرباء، والجحيم الذي لا يتخيله أحد غيره: دبابات الحروب، والقنابل… هناك وفيات تسبب بها البشر أكثر من الوسائل الأخرى.
هذا الطاعون البشري هو الأكثر استمرارًا. الإنسان هو الوحيد الذي يقدم على أفعال شنيعة وبائسة لارتكاب الموت. صحيح أننا جميعًا سنموت، لكن علينا أن نتمعَّن بالوسائل التي نموت بها. ونظرًا لأن العالم صار مكتظًّا، فإنهم يروِّجون للتحكم بالنسل، ولكن بلا شك، فإن التحكم في الموت أكثر أهمية. الموت ليس ملكًا لأحد!
إن شعب الولايات المتحدة يتقدَّم ويتعلَّم، وعلى رغم كل الوفيات التي تسببت بها الحكومات، فإننا نسعى بكل السبل لتحقيق سلام حقيقي وكريم. وفي هذا الوقت لا ينبغي للشاعر أن يميز بين القلب والروح، بين الشهوانية والروحانية، بين الجمال والقبح، أو بين الحق والباطل؛ لأنه وصي على الوعي البشري، وعندما يموت يأتي شاعر آخر ليحل محله، حتى يكمل الوعي ويصبح الإنسان أكثر إنسانية، والحياة أكثر اقناعًا.