أين الحياة التي أضعناها في العيش؟ قراءة في «الرحلة الناقصة» لفاطمة المحسن
المذكرات مفردة تمثل نوعًا من «التسوية» لتسمية نوع أدبي مهم وهو إعادة كتابة الحياة، نقلها إلى اللغة بما يتضمن ذلك من انتقاء أو نسيان أو حذف أو إعادة صياغة. إنما مفردة المذكرات تتحدد بالذكرى وليست الذكرى وحدها ما يتحكم بمثل هذه النصوص، ولهذا لا نجد مذكرات تشبه أخرى لا لأن حياة كل كاتب تختلف عن سواه، ولكن لأن علاقته بالماضي وطريقته في نقله إلى اللغة وجرأته تتفاوت وتختلف كثيرًا بين كاتب وآخر.
فاطمة المحسن اختارت أسلوبها الذي يبدأ بالعنوان «الرحلة الناقصة». هي إذن رحلة لم تصل أو أنها وصلت من دون أن تدرك غايتها، وهي في آخر الكتاب كما يحلو لها أن تسمي الفصول بـ«موتيف» تتطرّق إلى العنوان من دون أن تفصح تمامًا: «كتبت مذكراتي بعد مرضي وأهديتها إلى فالح عبدالجبار كان عنوانها «الرحلة الناقصة»، سألني: لماذا هي ناقصة؟ كنت على ثقة بمعرفته قصدي، ولكنه رفض أن تخلف رحلتي موعدها، وما كنت أظن أنه هو الذي سيتركها على نقصانها. رحلة عمر معه فكيف لي أن أتذكر الآن نتفًا منها». وفالح عبدالجبار الجميع يعرفه هو الباحث السوسيولوجي السياسي العراقي مترجم «رأس المال» لكارل ماركس، وهو رفيق فاطمة المحسن وزوجها الذي رحل قبلها.
لكن بعد قراءة الكتاب ينسحب مفهوم الرحلة الناقصة على دلالات أوسع، وليس بالضرورة رحلة الحياة الزوجية والعاشقة مع رفيق الدرب والعمر؛ لأن كليهما فاطمة وفالحًا كانا رفيقين شيوعيين، وأن رحلتهما معًا في تجربة الحزب الشيوعي هي الأخرى ظلت ناقصة؛ بسبب تركهما للحزب من ناحية، ونهاية الحزب المأساوية على الساحة السياسية العراقية من ناحية أخرى، وهذا ما تتطرق إليه فاطمة بمرارة وصدق وتفاصيل مذهلة، تكشف عنها امرأة مناضلة أعطت الحزب أغلى ما في حياتها: شبابها وأدبها وعائلتها من دون أن تصل معه إلى سلام أو إلى بر الأمان كما يقال.
تكتب فاطمة المحسن سنواتها بلغة شفيفة ذات بعد شعري وانكسار أنثوي في غاية الجمال، «حياة أشبه بومضات رحيل وتجوال سريع مثل ساعي بريد أضاع العناوين وفقد ذاكرته. كنت أجهل أن كل المدن تعز على الهاربين من أوطانهم لأننا دغل الحقول، زائدون على العالم ونملك في غدونا ورواحنا جدرانًا متصدعة ما إن تنخرها بأصابعك حتى تتهاوى…».
أو عندما تنظر باتجاه العراق من إحدى جبهات المنفى تتدفق لغتها بعذوبة وتلقائية ساحرة، «تبقى مغادرة الأماكن الأولى اقتلاعًا لا يدرك فداحته حتى الذين يعيشون تفاصيله، ربما هو غفلة عن فراغ تجوب فيه المطارح الغريبة بحثًا عن مستقر، تقول لنفسك أنت حرّ من عبودية توطن عليها أهلك.. ستكون لك ذاكرة تشبه الغياب الذي أنت فيه ولا تشبه نفسها، فهي تدور مثل بندول بين جهات لا حدَّ لها، كلما تدخل بيتًا تشعر بالألفة معه، ترى بيت أهلك الأول يلوح كراية مثقوبة في هجير العراق وأنوائه. ماذا لو كان كما أردت في الماضي بيتًا يشيخ مع جسدك وروحك تترك على أرائكه بقايا أطعمة ونتف أحاديث وصورًا يغبش الوقت ألوانها؟ تلك المراكب كلها التي أغرقتها كي لا تصل العراق تبقى تؤشر لك بين ضباب البحر مثل أشرعة هائلة، هل كنت هناك تحت هذه الشمس الحارقة تهرول كي تستبدل حياة بأخرى…».
هذا هو السؤال الجوهري الذي يحمله المنفيُّ على ظهره كحقيبة غير مرئية ولا يريد له جوابًا؛ لأن الجواب يعني نهاية الرحلة. تتوزع رحلة فاطمة المحسن محطات عدة بعضها في المدن، وأخرى بين الأصدقاء في المقاهي والسهرات، وكذلك وبالأخص تجربة السجن والتعذيب التي واجهتها في العراق قبل أن تختار الرحيل.
النتيجة التي آل إليها يوسف الصائغ
تتوقف فاطمة عند أسماء مهمة في الشعر والصحافة والسياسة العراقية وأغلبها من رفاقها في الحزب الشيوعي وزملائها في جريدة «طريق الشعب»، وتذكر أحداثًا تارةً كما تسجل انطباعاتها تارةً أخرى عن شخصية كل منهم وفق رأيها فيه وفي شعره أو مواقفه السياسية، ومن بين هؤلاء شهادتها عن الشاعر يوسف الصائغ الذي كان مسؤولًا في جريدة الحزب «طريق الشعب»، وانتهى به المطاف أن يمتدح صدام حسين بقصيدة ويترك الحزب. وهنا تحاول فاطمة أن تشرح هذه السيرورة في انهيار يوسف الصائغ في أكثر من موضع، «كنا في غرفة تحوي المجموعة الأكبر من المحررين والرسامين يزورنا يوسف الصائغ كل يوم. يوسف الذي يدخل حكايتنا وينسل منها، ثم يعود إليها مثل التواريخ المثقوبة كلها في جراب الثقافة العراقية، ثقافة شفت تحت مطارق العنف. يأتينا بأسرار سكرتارية التحرير وينثر الكلام والوشايات. شاهدت حبيبته التي قتلها البعثيون في مطعم فوانيس عندما قدمها متباهيًا، هي المهندسة إلهام شابة تبدو قوية الشخصية والبدن. كانت تلك الكلمات بمثابة صك غفران لخيانته الزوجية، فأنا أعرف زوجته. يوسف الذي هرع إليّ مع سلوى زكو يوم خروجي من السجن وكان الدمع يفيض من عينيه، كلمات النضال تبهره مثل طفل يكتب وشجو صورة الشيوعي في ذهنه… قلت له: يجب أن ترحل فأنت لا تحتمل اختبارًا كهذا (السجن) لكنه رفض… عندما أرسل سرًّا إلى بيروت قصائدَ الرثاء التي كتبها إلى حبيبته التي ماتت تحت التعذيب، كان يوسف يسير على حبل مشدود لا يعرف على أي جهة تنزلق قدماه، فقد تركوه في المعتقل مقيدًا على كرسيّ بعد أن عَرَّوْه وعصبوا عينيه وعذبوه وأهانوه…».
بعد هذه المشاهد نعرف النتيجة التي آل إليها يوسف الصائغ، والقارئ يجد في الوقائع والأحداث الكثيرة التي تذكرها فاطمة نوعًا من التفسير المقنع للبعض، إن لم يكن تبريرًا لـ«سقوطه» كما كان يقال في لغة النضال يوم ذاك، حتى إن فاطمة تبوح لنا بسر في علاقتها مع يوسف، كيف أنها استلمت منه رسالة غزلية وهو الأمر الذي فاجأها، فهي لم تكن ترى فيه أكثر من زميل ورفيق «أرسل لي قصيدة غزل ركيكة ويوسف ضليع باللغة والتفعيلة فظننتها من مرافقه، فأجبته بكلمات مختصرة ولكنها قاسية فردّ علي بجملة واحدة ندمت بعدها على فعلتي (حرام ما تشوف عيونك)…».
كثيرون هم الأصدقاء الشعراء بالأخص الذين تتطرق إليهم فاطمة خاصة تجربة «رابطة الكتاب والفنانين والصحفيين»، التي تشكلت ببيروت بمعية سعدي يوسف، وفاضل العزاوي، وصادق الصائغ، وفالح عبدالجبار، ومخلص خليل، وزهير الجزائري، وعصام الخفاجي وسواهم. كان الحزب الشيوعي يدير هذه الرابطة سرًّا وعلنًا ويلبّي طلباتها، وكانت له دالة على منظمة التحرير الفلسطينية وياسر عرفات. كانت هذه الرابطة محاولة لدحض فكرة الإبعاد التي يعانيها مَنْ أُرغِموا على الانقطاع عن محيطهم وجمهورهم، أو لعلها نتاج الفزع والشعور بالخوف من فقدان البوصلة والحاجة الماسة للرد على ثقافة السلطة وقد عُقِدَ مؤتمرها الأول عام 1981م.
تجربة نضالية مريرة
إن المنعطف الحاد في رحلة فاطمة هذه، هي التجربة النضالية المريرة التي عاشتها داخل الحزب الشيوعي، وهي في هذا الكتاب تقدم شهادة في غاية الأهمية والجرأة عن حال مناضلي الحزب، وسياسة القيادة، وعنف الرعب والتعذيب في سجون البعث، «لم يكن الموقف الذي تلبسني في السجن محض إيمان بمبادئ كنت أدافع عنها من هوس محق الشيوعية، بل كان يكتنف هذا الموقف أيضًا عناد شخصي أو شعور بكرامة حاول رجال الأمن سحقها، فلحظة تلقيت الضربة الأولى على معدتي تقيأت من شدتها وأنا صاحبة الجسد الضعيف المرتجف بين أيديهم.. كنت أفكر أن أرد الإهانة باليأس المطلق من النجاة، لعل نقطة ضعف السجين ساعة التعذيب هي تفكيره بالنجاة. فهو يفتح كوة أمامهم لتحطيمه جسديًّا ورُوحيًّا».
وهي في استعراضها هذه اللحظات المريرة والمهينة، وبخاصة عندما تركوها عارية، تكشف عن بعض نقاط ضعف الضباط المشرفين على عملية التعذيب، وكيف أنهم لا يملكون ردًّا عن سبب فعلتهم هذه سوى أنهم مأمورون، «أنا عبد مأمور» يردد ضابط التعذيب ليغسل «ضميره» بهذا المحلول الاستعبادي الرخيص.
المهم في هذه التجربة الرهيبة أن فاطمة رفضت الاستسلام ولم توقع أي ورقة «براءة» أو اعتراف، وخرجت من السجن مرفوعة الرأس، لكن الأمر الأدهى الذي ربما كان السبب وراء تركها الحزب هو ما ترويه في موقع آخر من الكتاب، «كل تلك الأخطاء والخطايا التي رأيتها بأم عيني لم تثنني عن معتقداتي، لولا تلك الفاصلة المهمة التي شهدتها في الأيام الأولى لخروجي من السجن. كان جسمي شبه محطم وأنا مستلقية وأمامي التلفزيون يبث أخباره، ذهلت حين شاهدت صدام حسين يتسلم جائزة خوزيه مارتيه من فيديل كاسترو. ها هو بطل أحلامي الثورية بلحيته وبدلته الكاكي يضع الوسام على صدر صدام حسين فيلتفت السيد النائب (صدام) لينظر في عيني وعلى وجهه تلوح نصف ابتسامة. هكذا خُيّل إليّ وأنا ألمح كيف تتجمع ضحكة الشماتة في زاوية شفة صدام السفلى، وهي تميل إلى اليسار ليطلقها قهقهات بوجهي. كانت تلك اللقطات كافية كي تصيب مني مقتلًا، فقد عرفت أن ابتسامته نجحت في ما عجز عنه رجال أمنه. غُبش هذا المشهد بدموع حجبت عني الرؤية وما يشبه الغصة، كنت أطردها بالتنفس من حلقي».
يا له من مشهد، من اعتراف، من شفافية وعذوبة في اللغة، ومن ذكاء في التقاط أطراف المشهد الذي لم يكن سوى بضع دقائق على شاشة تلفزيونية أطاحت بجبروت مناضلة لم تثنِها لا الإهانات ولا التعذيب ولا السجون والمعتقلات الرهيبة، لكن مشهدًا لـ«بطل أحلامها» القائد الكوبي كما تصفه بلحيته وبدلته الكاكي يتوج جلادها وقاتل رفاقها المناضلين بأعلى وسام شيوعي كوبي، وهي تعرف كيف تصف تلك الابتسامة القاهرة لصدام التي تميل «يسارًا» على شفته السفلى.
هنا تختصر فاطمة المحسن بطريقتها تجربة مريرة عاشها الحزب الشيوعي وهي «الجبهة الوطنية»، التي عقدها الحزب مع صدام حسين في السبعينيات من القرن المنصرم، وانتهت بتصفية الحزب وهروب القيادات إلى المنافي، بعد أن سُحِقَ المناضلون في المراتب الأولى.
لكن ذروة الغصة التي أشارت إليها فاطمة تدركها عندما تقول: «عندما أستحضر هذه التجربة المؤلمة اليوم أراها حماقة ارتكبتها بحق نفسي، ربما معرفتي بمقدار ضعفي وأنا الخائفة من الأشياء كلها في حياتي، ما دفعني لمغامرة الصمود التي لا تعني لدي اليوم سوى القسوة والفظاظة التي تقود إلى مازوشية نرتكبها بحق أجسادنا وأرواحنا، لعلها الوجه الآخر لإرث الضعف والخنوع الذي توارثناه، فالأمن العراقي وقتها لم يطلب سوى توقيعي أو إعلان التخلي أو البراءة من الحزب. أقول لنفسي اليوم: وما الضير لو وقعت وخرجت مبكرة من الجحيم؟ ربما لأني من بلد التوابين الذين يجلدون ظهورهم ورؤوسهم أمام الملأ ليقولوا عن الظالم كم هو سادر في ظلمه؛ لذا كتب الشيوعيون هذا التأريخ المرير مقايضين به أجساد أناسهم بمجد لا يساوي قبضة الريح.
لو قرأ الروائي الجزائري الراحل الطاهر وطار الذي كتب رواية «الشهداء يعودون هذا الأسبوع»؛ لعثر في هذه الشهادة على كنز عظيم يقدمه للشهداء الذين أعادهم إلى الحياة في روايته ليروا ماذا جرى بعد رحيلهم.
مدن الوطن ومدن المنافي
في رحلة فاطمة المحسن محطات أخرى مهمة وهي المدن، مدن الوطن ومدن المنافي. في الوطن لا تذكر سوى مدينتين: الناصرية، مسقط الرأس، وبغداد «عاصمة العمل والنضال والسجون». وفي المنافي تأتي بيروت ولندن ودمشق وطهران كمحطات لكل منها طعمه ودروسه. أما الناصرية «فهي مدينة سياسية فيها نشأ الحزبان الشيوعي والبعثي، فانقسمت العوائل بينهما. أخوالي يختلف معتقد كل واحد فيهم؛ فأكبرهم كان بعثيًّا، بينما أصغرهم كان شيوعيًّا.. لم أعش في الناصرية سوى مدة قصيرة بعد أن نقل والدي وظيفته إليها وقبلها جلنا في بلدات كثيرة. أحب هذه المدينة لأنها تخص جدتي وأمي، وهذا يكفي لكي تكون لي شراكة مع ماضيها الأثير».
لكنه إن كانت تحب أمها وجدتها فقد عرفنا إلى أي مدى كانت تكره والدها، على الرغم من أنها تعترف أنه لم يكن قاسيًا عليها رغم نشاطها الحزبي الذي كان لا يميل إليه، ورغم حريتها في ارتداء الملابس القصيرة، ولهذا لا تستطيع أن تفسر سر كرهها له بهذا الشكل.
أما بغداد فهي المدينة/ الجبهة، جبهة المواجهة الأولى مع الحياة وهي مواجهة دامية شاملة على كل الصعد؛ في العمل كمحررة لصفحة المرأة في جريدة «طريق الشعب»، وكمناضلة حزبية في صفوف الحزب الشيوعي، وكناشطة نسوية على صفحات الجرائد وفي المنتديات النسوية، وكمثقفة وكاتبة بين الأقلام الشابة، التي كانت تزهو بها بغداد في سنوات الستينيات. كل هذا بدأ في بغداد. إنها المدينة التي تعمدت فيها فاطمة المرأة الصحفية المناضلة والمتمردة، وفيها دفعت أقسى الأثمان حتى اضطرت إلى مغادرتها مع العديد من رفاقها بعد أن انتهى حلم «الجبهة الوطنية»، واستفاق الرفاق على شاطئ بحيرة من الدماء.
لكنها وبعد منفى دام أكثر من ثلاثة عقود عادت إليها، فكيف رأت عاصمتها؟ تجيب: «في الليلة الأولى التي حللت فيها ببغداد فارقني النوم وكنت أضع رأسي بين أعمدة الشرفة؛ كي أرى الخربة التي تطل عليها غرفة الفندق، لا يمكنني التخمين إن كان البيت الذي أراه أمامي قد تعرض إلى قصف أم إن رافعة حطمت أركانه، لم يبقَ سوى فناء وغرفة وكومة أحجار. كانت إحدى لحظات الذهول التي انتابتني عند عودتي إلى العراق، اكتشفت أن بغداد التي عشت فيها منذ أن أنهيت دراستي الابتدائية لم أكن إلا طارئة عليها ولم أعرفها يومًا. قطعت خيط طفولتي الجنوبية ولم أعد بغدادية حتى. كانت بغداد هناك لأهلها الذين هم ليسوا أهلي ولا كانت مكانًا انتميت إليه ولا كنت بحكم انتمائي العائلي جنوبية أيضًا، فأنا لا أتكلم لهجة الجنوب، ولا أشعر أنني من الجنوب مثلما لم أشعر يومًا أنني من العاصمة. لم أكن في شبابي الأول أعي نكرة الانتماء إلى المكان، فالأرومة الشيوعية وحدها تشعرني بانتساب ما، ربما إلى ذلك العالم الشائع الذي لا تحدّه حدود، أخوة الطبقة التي نريد لها الانتصار، نشيد الأممية الذي أحفظه عن ظهر قلب. فملأ قلبي رعشة وفرحًا خفيًّا وأنا أردده مع الرفاق، وأرى من خلاله تلك الجموع التي تعبر القارات الخمس متجهة إلى الشمس».
ليس هناك أوضح من هذه الشهادة على عمق الانتماء الأيديولوجي، بحيث يحل محل الأرض والعائلة واللغة والوطن بكل حضوره.. لا الناصرية ولا الجنوب ولا بغداد وهي البلاد التي عرفتها قبل المنفى تشكل انتماء لامرأة في مطلع العمر، بل هي الأغنية الأممية، والنشيد العالمي الشيوعي يصير أرضًا ووطنًا عالميًّا.. إن مثل هذه الحالات المتطرفة في الانتماء السياسي الأيديولوجي كانت معروفة في جيل الشباب في منتصف وأواخر القرن العشرين في العراق، وهي بحاجة إلى وقفة أطول لفهمها ودراسة نتائجها وأشكال استمرارها.
بعد بغداد تأتي بيروت بين مدن المنفى المهمة التي امتازت بخصوصية تفردت بها في رحلتها، فقد عرفت فاطمة بيروت قبل أن تلجأ إليها في منفاها وهي التي تقع «في الطريق بين بغداد ولندن، مثل فاصلة لها أن تكون طارئة أو تتوسط بين مزاجين مختلفين أو هي على ما هي عليه لا تدعو إلى ما يوحي بكونها دار إقامة، ربما بسبب صيتها السياحي أو جمالها الحميمي مثل علبة حلوى أو هدية من رجل مغروم، كما يسمي أهلها العاشق، أو ربما بسبب حربها المعلقة على وتد يرخيها ويشدها إلى الأقصى. أتخيل هذه المدينة تعيش مغامرة الحرب وكأنها ستقع للتو، وتجهلها كأنما لن تحدث أبدًا. لعلها لا تصدق وجودها كي تلغيه، فهي هشة حيث لا يدركها الثبات».
وفاطمة تعرف بيروت جيدًا وكما ذكرت في شهادتها أنها لا تشعر أنها في مدينة للإقامة، بالرغم من سحرها وبحرها وحريتها وكيف أنها «مشرقة ومطواعة وتشعر المقيم من الأجانب والعرب فيها بما هو ضائع بين صورتين متداخلتين، الشرق والغرب، تجد المرأة الأشياء التي تفتقدها متخففة من الأسئلة التي تلاحق خطواتها. تتكثف في بؤبؤ العين لحظات سعادة ونشوة وأنت تجلس في مقهاك المفضل في زاوية مطلة على بحر رائق تتناول قهوتك وتطالع كتابًا… لعلك تشعر أنك هنا منذ أمد بعيد…».
بالطبع ليست هذه الصور فقط هي التي عاشتها فاطمة في بيروت، فقد عاصرت فيها في سنوات السبعين من القرن الماضي الحرب الأهلية وعاشت ضراوتها في حي الفاكهاني في بيروت، حيث كان الحزب الشيوعي «ضيفًا» هناك على المقاومة الفلسطينية، وفيه تعرفت إلى جَمْع كبير من الرفاق والشعراء حتى احتلال بيروت من الجيش الإسرائيلي، وخروج منظمة التحرير ومن معها من مقاتلين وضيوف… وبيروت أيضًا العودة بعد سقوط الدكتاتور صدام حسين حيث كانت مع زوجها فالح عبدالجبار في لندن، وقد انتقلا للإقامة ببيروت، وهنا تجددت هذه المدينة بوجه أكثر رضاء واسترخاء، وبخاصة أن دوامة المنافي قد هدأت بسقوط صدام حسين، وتجربة العودة إلى العراق دون الإقامة فيه، بل في بيروت حيث أسست مع زوجها فالح عبدالجبار مركز الدراسات العراقية… وبيروت أيضًا الصدمة الكبرى في الصراع مع مرض السرطان الذي واجهته ومعها فالح عبدالجبار ببطولة، واستطاعت أن تنتصر عليه بالرغم من عودته بشكل آخر، إلا أنها ما زالت تقاوم بحب مثالي للحياة واعتناق عظيم للأمل.
ثم إن هناك دمشق الحبيبة، العاصمة التي يحبها المنفيون العراقيون لجمالها وطيبة أهلها والاحتضان السياسي الذي لقاه الهاربون من عسف نظام صدام حسين، «كانت دمشق مثل هدية تلقيتها في حياتي، بساطة روحها الشرقية وعذوبة مناخها وتلك الحرية التي استشعرتها وأنا أجوب شوارعها وحيدة دون ارتباطات بزواج أورثني الشقاء والألم. وجدت في دمشق دون المدن كلها التي مررت بها حلم العودة الوحيد إلى الوطن… كان وقت دمشق كريمًا ويدها مباركة مسحت على رأسي، ومحت عذابات ووحشة وغربة كنت استشعرتها في بودابست.
مدينة الورد الذي يشقه الدانوب
أسير في دمشق على هواء خفيف، أشق الخطى في طريقي الصباحي إلى المجلة، أتلفت إلى مدرجات المرمر ورائحة المناقيش وعطر ياسمينة أعبرها في منعطف دربي…». ثم كانت هناك بودابست وهي المدينة التي حلت فيها كطالبة بعثة لعمل شهادة الدكتوراه في الآداب وعنها تتحدث فاطمة، «عشت في بودابست أكثر من خمس سنوات منذ 1982م، ومحت ذاكرتي منها الكثير. مدينة الورود التي يشقها الدانوب وكأنه ذريعة لأجمل إمبراطورية تقع على تخوم ثقافة القرن التاسع عشر، النمسا التي باركها شتراوس وفاغنر كانت توزع فيوضها على ضفاف النهر… هذه المدينة التي قمعتها الدبابات السوفييتية ما زالت تطرز جدران قلعتها القديمة بقايا رصاص المعارك الحامية. لعلها بين الدول الاشتراكية الأكثر انفتاحًا ثقافيًّا وحرية فكرية، ولا يقف الناس في طوابير أمام أسواقها العامرة…».
وفاطمة تشهد أنها في هذه المدينة تعلمت أصول البحث والكتابة الحقيقية على يد أستاذها البروفيسور اليهودي سيمون روبرت الذي «تدرجت معه من النفور إلى الإعجاب والاحترام.. كان قاسيًا معي في البداية ولكنه علمني التحدي والصبر واحترام المادة التي أبحث وأكتب عنها».
ولن تنسى فاطمة «طهران» بين مدن العبور التي مرت بها بعد التصفيات التي واجهها الحزب في بغداد، وكان الشيوعيون يوم ذاك في طهران كما هم في بيروت في حضن المقاومة الفلسطينية التي آوتهم في بيروت، وكذلك أثناء مرورهم السريع في طهران «كانت أشهُرُ بقائي في طهران من أعسَرِ وأتعس الأشهر في حياتي وأنا لا أعرف مصير طفلي». بالطبع لم تكن المدن فقط محطات هذه الرحلة، فجبال كردستان العراق والسفر على ظهور البغال، التي تنتحر عندما يهدها التعب ولا يشعر بها الرفاق، فترمي بنفسها من أعالي الجبال، وهكذا نجت فاطمة المحسن من بغل، كاد يلقي بنفسه من قمة جبل وهو يحملها على ظهره.
هكذا هي ألوان المخاطر تَتأتَّى من حيث لا ندري، وليس بالضرورة مما نخشاه وما نترقبه. لقد كان في حقيبة فاطمة دفتر مذكراتها، ألقته في إحدى القمامات في بودابست كشاهدة لعبثية رحلة سامتها أشكالًا لا تحتمل من العذابات والمآسي، «مفكرتي التي رافقتني في هجرتي من العراق لم أسجل فيها حرفًا واحدًا بعد رحيلي، وبقيت مليئة بالخطوط المتقاطعة لأيامي العراقية أنظر فيها مواعيدي الحزبية التي دونت بعضها بأحمر الشفاه أو بكحل العين.. رميت ذلك الدفتر في مكب الزبالة في بودابست بعد إحساسي بيأس من عودة تلك الحياة الصاخبة، التي عشتها أهرول في ماراثون طويل…».
من بين كل مدن المنفى تشعر أن فاطمة تمنح لندن بطاقة التميز الأولى، فهي المدينة الحضن، وهي المشفى من الداء وهي الأصدقاء العراقيون والشيوعيون الذين كانوا في الفاكهاني ببيروت، وتوقفوا في دمشق ومن ثم لندن. وفي لندن أيضًا بدأت عملها في صحيفة «الرياض» بمساعدة من عبدالله الغذامي، ودعم من الراحل تركي السديري رئيس التحرير، وقد دام تعاملها محررةً ثابتةً للجريدة طيلة خمسة عشر عامًا تكتب حصريًّا لـ«الرياض». وعن التعاون مع الجريدة ذكرت «لم تطالبني جريدة الرياض يومًا بموقف أو تحجب موضوعًا كتبته، ولم يتصل بي محرر منها ليملي شرطًا أو يوجه أمرًا». وامتدحت الرقي في التعامل مع الراحل تركي السديري أثناء مرضها وانقطاعها عن الكتابة، بحيث لم يتوقف راتبها الشهري على الرغم من أنها طلبت منه ذلك.
وعن علاقتها ببريطانيا تكتب: «لم أجد في البلدان الأخرى ما يمكن أن أسميه وطني، وعدا بريطانيا التي أدين لها بحب يشبه حب الوطن، كنت أشعر أن كثيرًا عليّ الانتساب إليها كمواطنة مكتملة». ولهذا ربما اختارت فاطمة المحسن اليوم بعد رحيل فالح عبدالجبار لندنَ، من بين كل عواصم المنفى التي عرفتها وأحبتها.. لندن هي الحضن الأعمق.
فالح عبدالجبار الحبيب والزوج والرفيق
تخصص فاطمة المحسن الموتيف الأخير في رحلتها إلى حبيبها وزوجها ورفيقها فالح عبدالجبار الذي أهدته هذه الرحلة الناقصة بالعبارات الآتية: «فالح لم يكن شخصًا بعينه بل هو مرايا الشخصيات المتكاثرة، وقدر ما أتعبتني تلك المرايا التي تحيطني مثل دائرة فلكية قدر ما كانت تمنحني أفقًا مفتوحًا على تجارب ثرة مفعمة بالعنفوان والغنى.. ارتباكات فالح وجنونه تبدأ وتنتهي عند معركته مع الزمن، الوقت الذي حاول أن يمسك بقرنيه.. فهو عجول يركض في براري الله كي يسبق الزمن، وإن نظرت بعين العقل فإن «فالح» اختار حتى توقيت موته. خاض الحياة بالمناكب وكان شجاعًا بمواجهة المرض.. كان أكثر ما يرعبه أن يكون عاجزًا، وهو يودع أيامه يحدق في الفراغ».
تستمر فاطمة برسم صورة رائعة ودقيقة لفالح عبدالجبار وهو المفكر العراقي الكبير والمناضل الذي لم تهدأ الجبهات من حضوره وهو العاشق والشاعر كما عرفته، رغم أنه لم يكتب شعرًا ولو أنه اعترف لي يومًا أن كتب في بداية شبابه قصائد لكنه لم يحفل بها إنما واصل مغامرة الحياة كما عرفته شعرًا.
إن رحيل فالح عبدالجبار، وفي هذه المرحلة من رحلة الحب والمنفى والنضال، شكل الحدث الأكبر والأكثر تأثيرًا في حياة فاطمة المحسن، «أسأل نفسي كل مرة عن الفراغ الذي تركه، تلك الغابات التي أجوبها بعصاي مثل أعمى فأَراه أمامي الوقت كله، أراه خلف شجيرات العمر التي تلوح في أفق بعيد، أرى أصابعه تشبك يديّ وتبقيهما معًا… هل عليَّ تخيل نفسي في سواد الحداد كي أجد للموت خلاصة وللفقدان قيمة؟ الحزن ملك شخصي، قارة العمر التي نقطعها وحدنا حتى لو احتشدت بالناس. نحن نغادر هذه القارة على حين غفلة، انتهى وقتكم، هذا ما سيقوله لنا مخرج الفيلم، فيلم حياتنا.. كأن «فالح» ينتظرني في هذا المنعطف الذي عشته يومًا وكنت أجهل التوقيت الذي ينبغي أن نبدل فيه مصائرنا، هل هو الحب، الرغبة، السعادة، أم الصداقة؟».
بهذه اللغة الشفيفة ذات البعد الشعري الصافي تكتب فاطمة عن منعطف حياتها الأخضر المتمثل في رحيل الحبيب الرفيق والصديق فالح عبدالجبار. الرحلة الناقصة كتاب يقرأ كوثيقة تأريخية عن الحزب الشيوعي العراقي، وكشهادة لامرأة مناضلة في مجتمع عربي إسلامي كالعراق، ولناشطة في الدفاع عن حقوق المرأة، ويقرأ أيضًا كنصّ أدبي سردي رفيع.