التحول.. لرجل الذاكرة الطويلة
«أنا أعرف كل شيء». هذا ما يردده دومًا مغسل الموتى ودفّانهم في قريتنا التي طالما تفاخر أهلها باحتضانهم أكبر مقبرة بين القرى المجاورة، مقبرتنا ذات الأربعة أبواب، لكل قرية بابها حيث يدخل أهلها حاملين موتاهم. هكذا خطط متعهد المقبرة الذي هو ذاته مغسل الأموات ودفانهم بكلمة قاطعة «لكل قرية بابها، لن أسمح بدخول الموتى جميعهم من باب واحد». وحين ندخل المقبرة نجد خطوطًا عريضة رسمها بعصاه، نحن لا نفهمها ولكنه حتمًا يعرف كل شبر في المقبرة، ويعرف كل ميت في أي قبر ولو بعد عشر سنين، بعض القبور تهدمت شواهدها ولم يبق شاهد سواه، وبعض القبور دفن فيها موتى بعضهم فوق بعض.
«أنا أعرف كل شيء». هذه العبارة التي يقولها جوابًا عن أسئلة أهل الموتى حين يعترضون على باب دخولهم أو مكان القبر. لا يملك أحد الاعتراض على قراره، حتى عمدة القرية وشيخها قد سلماه مفاتيح المقبرة وإدارتها كليًّا.
لم يكن يلفت انتباهي تخطيطه وإدارته للمقبرة، بل شكله وملامحه التي تتغير يومًا بعد يوم، بعد كل عملية دفن يتغير، يزيد طوله، رأسه يكبر، وبشرته تزداد بياضًا، تطول أطرافه، صرت أتحاشى ملاقاته في أزقة القرية؛ لأنه حتمًا سيتحول إلى وحش أو شبح، حتى خياط القرية أصبح يجمع كل الأقمشة والخرق ويخيطها بعضها ببعض حتى يستطيع أن يفصل له ثوبًا بمقاسه المتغير، ثم صار يعتذر عن خياطة ثوبه الذي تستغرق خياطته أسابيع وأشهرًا أحيانًا، وهكذا يمر عام بعد آخر وهو يتغير ويزداد طولًا وضخامة وبياضًا، وعيناه عميقتان كثقب أسود، رأسه يكبر ويكبر وكأنما مملوء بكل ذكريات وقصص الموتى، وكلما زاد حجمه وتغير شكله، تضاءلت كلماته، ولم يعد ينطق حتى بكلمته تلك «أنا أعرف كل شيء» ولم نعد نسمع منه سوى «أنا.. شيء» حتى تغيرت هيئته ولم يعد إنسانًا بل شيئًا يتمدد ويتمدد، وثوبه يحيط بالقرية، وأطرافه تتلقف كل شيء في طريقه وتتساقط في حضنه الشاسع ويُطوَى ويختفي كل شيء.
قصة من متتالية قصصية تصدر قريبًا.