سر بعثة الكاردينال

سر بعثة الكاردينال

كان المطر ينقر تارة بخفة خجلى وأخرى بإلحاح تفرضه الريح على زجاج النافذة. التفت مفتش الشرطة الجنائية زكريا بارودي إلى النافذة عندما اشتد قرع المطر تاركًا ما يشغله للحظة ثم عاد إليه. كان كعادته في يوم الأحد، يجلس في غرفة الطعام والمطبخ إلى طاولة وضع عليها حاسوبه المحمول وأوراقًا ومقصًّا وأقلامًا ملونة.

«طقس معفن»، همس بقرف لكنه كان شاكرًا لكونه يجلس محميًّا من مزاج الطقس السيئ في هذه الغرفة الدافئة. لكن شكره تقلص عندما سمع جاره في الطابق فوقه يغني بصوت جهوري وبلذة ككل أصحاب الأصوات الكريهة. كل شيء في هذا المبنى رخيص وقد تعمد من بناه أن يوفر في كل شيء. حتى في سُمْكِ الجدران التي لا تحمي الجيران إلا من الروائح.

قرر، عندما سيحال للتقاعد في شباط/ فبراير القادم، أن ينتقل من هذا الطابق الواقع قرب مكان عمله في مبنى الأمن الجنائي قرب ساحة باب مصلى إلى أي بيت آخر بجدران سميكة. ألصق أوراق رزنامة صممها هو للأيام الباقية من يوم الأحد في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر م2010 إلى بداية شباط / فبراير 2011م. عد الأيام وضربها بمساعدة حاسوبه بعدد الساعات والدقائق والثواني: «يا إلهي!»، تنهّد، «سبعة ملايين مرة علي أن أتنفس قبل الوصول إلى بر الأمان…». سيتعرف القراء هنا عن خلفية هذا المفتش الشجاع والمنهك بعد أربعين سنة من ملاحقة القتلة… وبعد موت زوجته التي أحبها حتى العبادة هكذا وبشكل مفاجئ.

* * *

دمشق، الإثنين 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2010م

أرسل الفجر رسالته البغيضة: طقس ماطِرٌ وبارد. وأتتِ الريح لتكمل هذه السماجة فصفعت وجوه المشاة بذرات المطر الباردة لتسرق منهم بوخزات باردة كالثلج بقايا مزاجهم الجيد بعد صيف طال أجله في أيلول وتمدد مسترخيًا حتى نهاية أكتوبر. وكأن الشتاء يرهب مدينة دمشق ربض قرب بواباتها أربعة أسابيع منتظرًا فرصة ليدخل خلسة. وعندما وصل نوفمبر ورأى الناس تعيش غير مكترثة اقتحم المدينة بجيوشه بهجوم ليلي صاعق ونهب الأشجار أوراقها.

قرع الرعد طبوله بشدة فاهتزت البيوت كسكانها. دمشق لم تبنَ للشتاء.

في الساعة السابعة صباحًا توقفت دراجة شاحنة ثلاثية العجلات تجاه السفارة الإيطالية في شارع عطا الأيوبي، ولسبب لا يعرفه إلا سائقو دمشق ترك الرجل القابع في مقصورة القيادة محرك الشاحنة الصغيرة يعوي طربًا بكل عنف مرتين متتاليتين، ثم كتم صوته بإطفائه.

ظل جالسًا وكأنه يأمل أن يتوقف المطر عن الهطول. لم يدم انتظاره طويلًا وكأن السماء استجابت لأمنيته. هبط الرجل إلى الشارع وألقى نظرة على الجزء الخلفي لشاحنته حيث ثبَّتَ هناك برميلًا كبيرًا بحبال متينة. نظر مرة أخيرة إلى العنوان على ورقة في يده ثم تأمل مبنى السفارة وتوجه بخطى بطيئة نحوها. لكنه لم يتم خطوته الرابعة أو الخامسة حتى هرول الشرطي حارس المبنى وأوقفه سائلًا دون تحية الصباح عما يريده بعد أن ألقى نظرة حذرة على البرميل الكبير.

«برميل للسفير فرانسيسكو لونغو» أجاب الرجل الخمسيني البدين.. ألقى الشرطي نظرة على الشاحنة الصغيرة التي أكل الدهر عليها وشرب والتي صنعتها يومًا شركة إيطالية تدعى «بياجو»، واليوم بعد هذا الزمن والتحولات التي مرّت بها الشاحنة الصدئة لا يمكن أن يعترض الإيطاليون عن تبديل جملة «صنع في إيطاليا» بجملة «صنع في سوريا». أزهار كبيرة بألوان غريبة وعصافير بشعة من تنك. وعندما وصل نظره الفاحص إلى اللافتة فوق مقصورة السائق وقرأ: «عين الحاسد تبلى بالعمى» لم يستطع الشرطي أن يكتم ضحكته. من يحسد هكذا كومة كهذه من الصدأ سيكون بالتأكيد أعمى سلفًا.

لكن الشرطي كان يعلم أن هذه الشاحنات الصغيرة وإن كانت تملأ الفضاء برائحة تزكم الأنوف وضجيج يصمّ الآذان كانت محبوبة لدى شركات النقل لأنها رخيصة ومتينة وتستطيع الوصول إلى هدفها في أضيق شوارع المدينة وحاراتها. ليس فقط شركات الشحن، آلاف العائلات ترتزق خبزها يوميًّا من هذه الشاحنات.

«برميل؟ في هذه الساعة المبكرة؟» سأل الشرطي متصنعًا الغضب ودالًّا بيده على ساعته، «وما يحتوي البرميل الذي تريد إيصاله لسعادة السفير؟».

«لست أدري، لكن رائحته تدل على أنه مليء بزيت الزيتون» أجاب صاحب الشاحنة المحمية من الحسد، «لكنه أثقل من الزيت» أجاب الرجل الذي أمضى عشرات السنين كحمّال إلى أن استطاع قبل عشر سنوات أن يشتري هذه الشاحنة الصغيرة.

لم يفهم الشرطي ما عناه الرجل بجملة «أثقل من الزيت» لكنه شعر بأن أصابع رجليه تكاد تتجمد بصقيع الأرض.

«زيت زيتون؟» همس الشرطي متعجبًا.

«أي نعم»، أجاب صاحب الشاحنة وقد تضاءل صبره إلى حجم حبة حمّص.

«إذن خذ البرميل للمدخل الخلفي للمبنى فهناك المطبخ.. والطباخ أتى اليوم على غير عادته باكرًا» أجاب الشرطي وهرول إلى غرفته الدافئة في مدخل المبنى ليحمي نفسه من الرائحة الكريهة التي تطلقها هذه الشاحنات عند تشغيل محركها.

… سيوصل الرجل البرميل للطباخ السيئ المزاج وسيتعجب هذا من وصول برميل ضخم رائحته تدل على محتواه: زيت زيتون.

.. ثم سيفتح البرميل ليكتشف كاردينالًا قتيلًا في كيس متين ضخم مليء بزيت الزيتون داخل البرميل.. وتعرف الطباخ على القتيل بسهولة؛ لأنه زار السفارة الإيطالية وأكرم فيها بعشاء فخم قبل أسبوعين.. عندما اكتشف الطباخ القتيل أطلق صرخة هلع مدوية وصلت للطابق الثاني حيث ارتشفت سكرتيرة السفير أول إسبرسو لها في هذا النهار.

..بعد ساعات سيباشر المفتش الجنائي زكريا بارودي البحثَ عن القاتل وسيعاني الأمرين.


هامش

في بداية السبعينيات غادر رفيق شامي واسمه الحقيقي (سهيل فاضل) مدينة دمشق (ولد فيها سنة 1946م) إلى ألمانيا لدراسة الكيمياء. «كنت لا أملك سوى 890 ماركًا ألمانيًّا ( 900 – 10 ثمن سجائر في الطائرة) ادّخرته من عملي مدرسًا اضطررت بعد أقل من شهرين للبحث عن العمل، فوجدت عملًا في نقل علب البريد (رسائل وطرود بريدية) من شاحنات نقل إلى القطار وبالعكس. وكان عليَّ العمل لثماني ساعات.. ومن ذلك اليوم تنقلت على امتداد خمس سنوات إلى أكثر من 16 وظيفة؛ منها الخدمة في المطاعم، والعمل في ورش بناء، ومعامل الصلب في المدن الصناعية القريبة من هايدلبرغ. وكوني كنت قوي البنية فهذا أهّلني لأعمال شاقّة لكنها ذات أجر عالٍ. وكنت أفضل تلك الأعمال أكثر من العمل في المطاعم؛ إذ كانت ظروف العمل فيها ولا تزال حتى اليوم، سيئة وبأجر زهيد.

لم أنقطع عن دراستي؛ إذ كنت أعمل في العطل وأنتظم في الدراسة خلال الفصل الدراسي، وأستمتع بالحياة، وكلما سنحت لي الفرصة أجلس لأكتب (وبخاصة روايتي الوجه المظلم للحب). ولا أخفيك أنني كنت سعيدًا بحريتي ونقاء حياتي من أية تبعية. هذا الانخراط في الحياة الألمانية ورؤيتها في قاعها هو معلمي الأكثر إقناعًا عن الحضارة الأوربية وطبيعة المجتمع الألمانيّ، وكذلك أفادني في صقل ألمانيّتي وفي البدء بحوار عسير مع الألمان حول الثقافات لم أَنتهِ منه حتى اليوم. وفي كل مساء كنت أجلس قبالة صورة صغيرة لدارنا في دمشق وأحتسي الشاي مع الذكريات».

أسس في عام 1965م مجلة حائطية «المنطلق» في حيِّهِ، واستمرت بالصدور حتى عام 1970م… نزح إلى ألمانيا عام 1971م… عمل في ورش ومصانع إلى جانب دراسته من 1971-1979م حيث نال درجة الدكتوراه في الكيمياء العضوية المعدنية. عمل في شركة أدوية كبيرة من عام 1980م حتى 1982م حيث قدم استقالته ليتفرغ للأدب.

نشر أعمالًا متفرقة من 1971م حتى 1977م… أسس عام 1980م مع كتاب أجانب آخرين المجموعة الأدبية «الريح الجنوبية» واتحاد الفنانين الأجانب «بوليكونست»… أصدر مع زملائه في مجموعة الريح الجنوبية 13 مجلدًا تحتوي نخبًا من أدب الكاتبات والكتاب الأجانب في ألمانيا من عام 1980م حتى عام 1985م. منذ عام 1982م كاتب متفرغ للكتابة. ومنذ 2002م عضو في أكاديمية الفنون الجميلة البافارية.

ترجمت كتب رفيق شامي من الألمانيــة إلى عدد من اللغات الأجنبية.

مقاطع‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬بالعنوان‭ ‬نفسه

صدرت‭ ‬عن‭ ‬منشورات‭ ‬هانزر‭ ‬ـ‭ ‬ميونيخ‭ ‬2019م

راجع‭ ‬الترجمة‭ ‬رفيق‭ ‬شامي