شرفة
تتسربل المدينة بالهدوء التام، منطقة قامت على البحر بعد ردمه وجاء الناس من مختلف القرى وسكونها بعيد من ألفة القرية، فلا يقطع ذلك السكون سوى مواء القطط أو صوت بعض السيارات المارّة. مروة أصيبت بالملل وتتوق إلى الذهاب في نزهة إلى البحر في عطلة نهاية الأسبوع، لكن حتى هذا الحلم خفت لونه؛ فأبوها ليس لديه إجازة بسبب عمله الليلي بحسب نظام عمله، وأخواها يفضلان السهر مع أصدقائهما في الإجازة الأسبوعية بينما تذهب والدتها لزيارة صديقاتها…
تتكاثف غيوم الظلام في غرفتها، جدرانها المطلية بألوان الربيع قد بهت لونها وأصابها عطب الخريف، حتى أثاث الغرفة بات كئيبًا، المنضدة، الدب القطني الأزرق المستلقي على وسادتها، روايتها، كتب الأشعار، باتت أحرفها جوفاء فارغة من تكرار قراءتها…
حياة مكررة تود لو تكومها كورقة وتلقي بها في القمامة فلا شمس ولا بحر ولا نورس، تنظر إلى الشرفة، وهي تشاهد العصافير تغدو إلى شرفة وتقف على أوراق شجرة العنب وهي تنقر الباب الزجاجي كأنها تدعوها إلى الخروج، الفراشات تداعب الأزهار التي صفت في أحواض صغيرة على الشرفة… لم لا أكون بينهم في الخارج؟ قالتها وفي صدرها ضيق…
تقترب حمامة النخيل (حمامة الخافتة) من الشرفة وهي تحدق بمروة وتلف برأسها الصغير بشكل مرن، تذكرت مروة حكاية حمامة النخيل حين كانت امرأة تسببت في موت ابنتها غرقًا فمسخت إلى حمامة تنوح على ابنتها إلى الأبد، تمنّت لو ترتكب خطيئة تمنحها جناحين وحرية تأخذها إلى الغيوم… قالت: أيتها الحمامة امنحيني شيئًا من ريشك… أيتها الأزهار أبي يمنعني أن أشرع نافذة الشرفة وأستنشق عبيرك! خشية القيل والقال عن امرأة جلست في شرفة بيتهم.
هل أتجاسر وأفعلها؟ هل أرتكب هذه الخطيئة؟ هل أجتاز ردهة الظلام إلى الشرفة كي أغتسل بالشمس، ويصافح النسيم وجهي؟
في المساء، حيث عم البيت الهدوء في البيت، حيث لا أحد، فرصة مجنونة كي تقوم بفتح تلك الشرفة المغلقة طوال النهار… هدوء الحي يغريها أن تقوم بهذه المخاطرة… اقتربت من الشرفة، أزاحت الستارة المسدلة، فوجد نور القمر طريقًا إلى غرفتها… كان النسيم يداعب شجرة العنب الممتدة على طول البيت… مدت يدها المرتجفة وهي تنظر للأسفل لتتيقن من عدم وجود أيّ من المارة… فتحت الباب الزجاجي فهب نسيم يداعب وجنتيها وراحت الستارة تتراقص على وقع نغم النسيم… لبست مروة وشاحها وعباءتها وجرت كرسيًّا والمنضدة إلى الشرفة، لا بد من عمل كوب شاي وبعض البسكويت كي تكون الجلسة ممتعة أكثر. قالتها بحزم…
لأول مرة تدب الحياة في خلاياها، كزهرة عادت من ذبولها… كانت الطرقات خالية من البشر إلا من بعض السيارات المارة وقطط تموء ثم تمضي، مر رجلان من هناك، رأتهما ينظران إليها بتمعن… نقلت إليها الريح صوتهما: ساقطة.
اقشعر بدنها من هذه الكلمة، لكنها تظاهرت بأنها لم تدر لها بالًا، ارتشفت قهوتها وقضمت بسكويتًا، ثم مرّت سيارة وهي تضيء الأنوار وتخفتها، ظنت أن أخويها قد عادا، خفق قلبها بشدة، اقتربت السيارة فلم يكن كما ظنت، بعد قليل امرأتان تسيران ببطء وهما تحدقان بمروة وبدت وكأنهما متبرمتان، بعدهما مرّ شاب، أخذ ينظر إليها نظرة المفترس، أصبح يجيء ويذهب على ذات الطريق… راح يصفر وهو يمشي بخيلاء… تخيلته سوف يتسلق إليها.
دب الخوف في أوصالها، قامت وسحبت الكرسي والمنضدة للداخل وأوصدت الباب الزجاجي للشرفة، لم تكتمل سعادتها بسبب تلك الوجوه المعتمة، وألقت بجسدها على الفراش واستسلمت للنوم.
في اليوم التالي جاء أبوها مكفهر الوجه متجهمًا.
الأب: حسبي الله ونعم الوكيل! هل تريدين أن تلوثي شرف العائلة؟
لم تنبس ببنت شفة، لا تدري كيف علم أبوها بالأمر، انهال عليها ضربًا حتى بانت الكدمات في جسدها، ثم أمر بتغيير غرفتها إلى الغرفة المجاورة التي لا توجد بها شرفة، في غرفتها الجديدة لم يبق لها سوى نور ضئيل يتسرب من النافذة التي أوصدت بشباك حديدي.