يوسا يروي كيف التقى كورتاثار وأعجب به وتعلم منه ثم كيف رآه ينشطر إلى شخصيتين متناقضتين
أعتقد أن العديد من الأميركيين اللاتينيين بدؤوا يشعرون بلاتينيتهم بفضل ما أُطلق عليه «الصحوة»، وبالتأكيد الأمر نفسه بالنسبة لي. ولدت في بيرو، وترعرعت في البداية في بوليفيا، ثم في بيرو، واكتشفت موهبتي ككاتب في سن مبكرة جدًّا، وفيما أكبر، كما أعتقد، كان العديد من كتاب جيلي والأجيال السابقة قد قرؤوا، قبل كل شيء، ترجمات كُتاب أميركا الشمالية والكُتاب الأوربيين. نشأت في الغالب غير مدرك لما كان يحدث في الأدب، وبخاصة القصّ، في البلدان المجاورة لي. قابلت بعض الكُتاب من أميركا اللاتينية الذين كانوا أيقونات، نجومًا من الدرجة الأولى، مثل نيرودا الذي قُرئ شعره في جميع أنحاء أميركا اللاتينية، ولكن، فعليًّا، حتى وصولي إلى أوربا، لم أكن أعرف كُتاب أدب قصصيّ لاتينيين.
جاءت الناقدة الأرجنتينية، آنا ماريا بارنيشيا، عبر ليما (عاصمة بيرو)، وتحدثت إلينا عن بورخيس، وبفضلها قرأت بعض قصصه. لكن، في باريس، حيث اكتشفت أن هناك أدبًا لاتينيًّا أصيلًا وغير مألوف وثريًّا جدًّا، قرأته -التهمته- وتعلمت منه الكثير. من بين الأشياء التي تعلمتها الوعي بأميركا اللاتينية، لأكتشف أنني عندما كنت في بيرو، كنت فقط جزءًا صغيرًا من مجتمع كان له قواسم مشتركة كثيرة جدًّا، ليس فقط اللغة ولكن أيضًا التاريخ والمشكلات الاجتماعية والسياسية التي، مع القليل من الاختلافات، كانت موجودة من مكان لآخر في أميركا اللاتينية.
أول كاتب من أميركا اللاتينية التقيتُه، وكان خوليو كورتاثار، التقيتُه في باريس، في ديسمبر 1958م. كنت أدرس في جامعة كمبلوتنسي بمدريد، أعمل للحصول على درجة الدكتوراه، وذهبت لقضاء بضعة أسابيع في باريس، ودعاني بيروفي يعمل باليونسكو لتناول العشاء. أجلسني في منزله، بجوار شاب نحيف جدًّا، اعتقدت أنه من عمري، تحدث بلهجة فرنسية بسيطة وأخبرني أنه قد نشر بالفعل كتابًا قصصيًّا، وأن خوان خوسيه أريولا بصدد نشر كتاب قصصي آخر ضمن مجموعة عروض في المكسيك.
أخبرته أنه كان لديّ كتاب قصص فاز بجائزة في برشلونة على وشك الصدور، وأني متحمس جدًّا لفكرة رؤية كتاب لي منشور للمرة الأولى. في وقت لاحق، في نهاية العشاء، اكتشفت أن الشاب الذي كان يبدو أنه من عمري كان أكبر مني، وكان اسمه خوليو كورتاثار. كان مع زوجته أورورا برنارديز، وكانا الزوجين الأقل تناسقًا في العالم؛ كان طويلًا جدًّا، وكانت قصيرة جدًّا، وبينهما، كان هناك نوع من الفهم والتواطؤ، عندما تحدثا لم يتوقفا عن إدهاشي. وفي كل مرة ألقاهما، أكون مفتونًا ومسحورًا بالطريقة التي يتحدثان بها، يتولد لديك انطباع بأنهم قد تدربا على محادثاتهما؛ بسبب الأناقة، والفخامة، وخفة الدم، والطريقة التي يُكَلِّم بها أحدُهما الآخرَ. يحكيان حكايات، يتحدثان عما قرآه مؤخرًا، حول المعرض الذي شاهداه للتو. كانا شخصين مهمين جدًّا بالنسبة لي في تلك السنوات الأولى في باريس؛ وكنت أنتظر بفارغ الصبر دعوتي لتناول العشاء في منزلهما؛ لأن العشاء مع كورتاثار كان مذهلًا.
التحول الأكثر غرابة لكورتاثار
ذلك أن خوليو كورتاثار، الذي كان بطبيعة الحال كاتبًا رائعًا بالفعل، شهد في وقت لاحق طفرة، التحول الأكثر غرابة الذي رأيته في حياتي، تغير مطلق في شخصيته. كان خوليو كورتاثار الأول شخصية مهذبة ومتحفظة جدًّا؛ وكان يتمتع بالأسلوب المجامل الذي يبقيه على مسافة من الجميع. يمكن أن يكون حنونًا ودمثًا جدًّا، وفي الوقت نفسه، يشعر الواحد باستمرار أن هناك بعدًا سريًّا فيه، وبالتأكيد هو الجزء الأهم من شخصيته، الذي يغذّي كتابته، التي لا يمكن للواحد أن يصل إليه أبدًا. فقد عاش حياة معزولة جدًّا؛ كان يكره التجمعات الكبيرة، وكان يكره السياسة. كنت ذات يوم أحاول تقديمه إلى لويس جويتيسولو، فقال: «لا، هو سياسي أكثر مما ينبغي بالنسبة لي». كان مهتمًّا بأمور كانت غريبة إلى حد ما. ومرة أخذني إلى مجلس سحرة، في موتواليتيه (باريس): قراء الكف والطالع… كان هناك العشرات منهم. وأعترفُ أنني كنت أشعر بالملل إلى حد كبير، وأعتقد أنني نادرًا ما رأيته مهتاجًا ومتحمسًا جدًّا كما هي الحال إزاء هذه الشخصيات: دجالون عظام، مشعوذون مهرة جدًّا، ولكن في نظره، فتحوا المجال إلى بعد معين من واقع كان غامضًا، باطني، لا يمكن التعاطي معه بعقلانية، وهو ما افتتن به بالطبع.
كان الذهاب إلى معرض مع خوليو كورتاثار مذهلًا بسبب حيوية ملاحظاته وثراء تعليقاته. في الوقت نفسه، كان رجلًا متواضعًا يفتقر إلى الطموح الاجتماعي، وهو أمر طبيعي جدًّا في عالم الأدب. كان لديه عدد قليل من الأصدقاء، ويمتلكون عمقًا أدبيًّا غنيًّا جدًّا ومتأصلًا. تعلمت منه الكثير، ومن الأشياء الكثيرة التي أُعجبت بها كرمه؛ إذ كان من أوائل الأشخاص الذين أخذت لهم روايتي «زمن البطل»، أدلى ببعض التعليقات السخية وحاول أن يجد لي ناشرًا. بعد ذلك عملت معه ومع أورورا في اليونسكو، مترجمًا، وأُصر على أن علاقتهما كانت تثري بعضهما بعضًا، ويبدو أنهما كانا يقرآن الكتب نفسها، بدا مطلعين على الأدب، وليس ما هو حداثي، ولكن ما بعد الحداثي، حتى ما كان سيأتي.
كان لدى خوليو كورتاثار شيء أعتقد أنه كان أحد خصائصه، واحدة من الخصائص المشتركة القليلة لكتّاب الصحوة: كتب بلغة تبدو طبيعية، وكانت تبدو مثل اللغة المنطوقة، اللغة اليومية؛ وكان يسخر كثيرًا من الكُتاب الذين ارتدوا بدلة ورابطة عنق للكتابة. سخر هو وأورورا من عبارة – رغم أنني لا أعرف ما إذا كانت صحيحة أم إنهما اخترعاها -من رواية لإدواردو ماليا؛ إذ تدخل شخصية في غرفة وتضيء النور، يقولون: «هكذا – وهكذا يدخل الغرفة ويحول الظلام الدامس إلى ضوء متوهج».
قطيعة مع اللغة المتباهية
الأدب الأميركي اللاتيني لجيل كورتاثار كانت له قطيعة بعض الشيء مع هذه اللغة «الأدبية»، الطنانة، والرنانة، والمتباهية، التي، بعد التفكير فيها أدبيًّا، نأت بنفسها عن اللغة الشائعة اليومية، ولغة الشوارع؛ اللغة التي عرف كورتاثار كيف ينقلها بشكل رائع في كتاباته، والتي أعطت قصصه، ومن ثَمَّ أعطت رواياته هويتها وسحرها.
في تلك السنوات كان يكتب «الحجلة»، وكان من أكثر الأشياء التي فاجأتني، وأنا الذي يستغرق العمل مني الكثير لكتابته، رؤية السهولة التي كتب بها مثل هذه الرواية المعقدة، فعليًّا من دون خطة، من دون سيناريو، ومن دون مخطط مسبق. في كثير من الأحيان، سمعته يقول: «اليوم، لا أعرف إلى أين ستذهب الرواية». كان أكثر ما أحببته بالتحديد هو الشعور بالخطر، وانعدام الأمان، للجلوس كل صباح من دون أي خطة مسبقة، للتقدم في الرواية التي كان يكتبها، والتي، كما تعلمون، جعلته يتمتع بشعبية كبيرة.
أعتقد، مع ذلك، أنه في مرحلة ما، واجَه كورتاثار نوعًا من الصدمة أو ثورة داخلية غيرت شخصيته تمامًا. هذه الشخصية السرية والحميمية والخاصة، التي تحولت للجمهور فجأة، وبدأت في العيش في الشوارع، وإطلاق لحية حمراء هائلة تنمو، وأبدت اهتمامًا بالسياسة التي كان يرثى لها في السابق، وأصبح ثوريًّا شابًّا عندما كان على وشك بلوغ الستين 60، مثيرًا للمشاكل، عدوانيًّا، وأعتقد، ساذجًا بشكل كبير، وفي الوقت نفسه هو ثوريّ نقيّ جدًّا، من دون أي تصادف لواحدة من تلك العقبات التي غالبًا ما تحول السياسة إلى نشاط أو مهمة تُخرِّب بعض معتنقيها نفسيًّا ومعنويًّا.
أعتقد أنه كان بريئًا وصادقًا، رغم أنني لا أعتقد أنه كان دائمًا على صواب في خياراته السياسية. لم تلقَ خلافاتنا السياسية بأي شكل من الأشكال بظلال من الشك على صداقتنا: ففي كل مرة رأى أحدنا الآخر، كان هناك الوُدّ القديم، وكانت هناك دائمًا أسباب للحفاظ على الإعجاب والوُدّ، الذي شعرت به نحوه في المرة الأولى التي التقينا فيها.
المصدر : ماريو فار غاس يوسا
Sabers and Utopias: Visions of Latin America: Essays by Mario Vargas Llosa