العلمانية شرط الحداثة ولا تقدُّم بدونها
قبل الخوض في موضوع العلمانية، لا بدّ من توضيح ما المقصود بهذا التعبير لما يكتنفه في منطقتنا من غموض والتباس، إن لم يكن تشويه متعمّد. فالعلمانية ليست عداءً للدين كما يحلو لأعدائها تصويرها لتأليب المؤمنين عليها، وليس هناك من تناقض بين الإيمان الديني وتأييد العلمانية بمفهومها الصحيح. بل تقوم العلمانية بمعناها الضيّق على فصل الدين عن الدولة، وتقوم بمعناها الأوسع على تجريد رجال الدين من السلطة في الشؤون غير الدينية كافة.
ويستند المعنيان الضيق والأوسع إلى منطق واحد. فلو أخذنا الإسلام مثالًا في تطبيق هذا المنطق (وهو ينطبق على جميع الأديان) لانطلقنا من أن الاختلاف العظيم بين ظروفنا وعلومنا المعاصرة وبين الظروف والعلوم التي كانت سائدة في الجزيرة العربية في عصر الإسلام الأول، يقتضي ممن يريد في عصرنا تسيير جميع الأمور باسم الدين أن يُبدع، مهما حاول ستر إبداعه وراء قناع الاجتهاد والتفسير. لذا فإن ممارسة السلطة السياسية وتقرير الشؤون الاجتماعية والعلمية باسم الدين يعنيان بالضرورة أن بعض الرجال يرى نفسه مخوّلًا فرض بِدَعه وتفسيراته الاعتباطية على المجتمع، الأمر الذي يهدّد بأسوأ العواقب. وبما أن عصر النبوّة قد انتهى ولا يجوز لأحد أن يدّعي تمثيل الإرادة الإلهية، فإن خير أشكال السلطة بالتأكيد ذلك الذي يحول من دون استبداد بعض الأفراد بالمجتمع بحجة ادّعائهم احتكار المعرفة الدينية، أو بأي حجة أخرى. ويتحقّق هذا الشرط من خلال حيازة عامة الشعب على السيادة واستناد القرار السياسي إلى الأغلبية الشعبية، أي من خلال الحكم المدني الديمقراطي. وهذا ما لخّصه الشعار الشهير لثورة عام 1919م في مصر: «الدين لله والوطن للجميع».
العلمانية والظلامية الإلحادية
أما مرادف العلمانية السياسية في مجال علوم الطبيعة فقد بات سائدًا في معظم البلدان. صحيح أن ثمة دولًا أو ولايات قليلة لا تزال تمنع تدريس تطوّر الأجناس بحجة تعارض هذه المقولة مع الدين، غير أنه لم يعد هناك من حكم سياسي يصرّ على أن الشمس تدور حول الأرض بحجة أن هذا ما نصّ عليه التراث الديني. والحقيقة أن الظلامية في مجال علوم الطبيعة لم تقتصر في القرن العشرين على تلك التي تحجّجت بالديانات السماوية، بل شملت أيضًا ظلامية إلحادية في الاتحاد السوفييتي حيث كانت تُفرض في عهد ستالين نظريات «علمية» مستوحاة من فلسفة «ماركسية» محنّطة كانت تشكّل أيديولوجيا الحكم الرسمية، أي ديانته «المادية». فإن ممارسة النقد العقلاني الذي لا يتقيّد بأي أفكار سابقة شرطٌ لا بدّ منه لوجود العلوم الحديثة. بكلام آخر، فإن العلمانية في مجال علوم الطبيعة هي شرط بديهي لتقدّم تلك العلوم التي يعود تأسيسها بوصفها علومًا بالمعنى الحديث إلى زمن تحرّرها من تسلّط الأفكار الدينية المصدر.
والأمر نفسه ينطبق على العلوم الاجتماعية، وهي حقلٌ كان لمفكّر عربي أسبقية في تأسيسه على أسس علمية بالمعنى الحديث. وإذا كان يحقّ لنا أن نفتخر بأن عبدالرحمن بن محمد بن خلدون هو أول من أسّس علم التاريخ وعلم الاجتماع الحديثين، علينا أن نفهم طبيعة ما كان سبّاقًا إليه وما أتاح له تحقيق إنجازه العظيم. وابن خلدون خير مثال على إمكانية التوفيق بين الإيمان الديني وفصل المعرفة الوضعية عن الدين؛ إذ لا يشكّ أحد في إيمانه واعتناقه الإسلام. بيد أن إيمانه هذا لم يمنعه من التحرّر من تفسير التاريخ بالإرادة الإلهية، وكيف به يعزو إلى تلك الإرادة ما شهده في عصره من تغلّب للمسيحيين على المسلمين في الأندلس، وتغلّب للمغول على الخلافة العبّاسية في العراق مع قيام هؤلاء بقيادة هولاكو باجتياح همجي لعاصمة الخلافة بغداد، وبعد ذلك تعرّض دار الإسلام أسوة بأوربا وغيرهما من مناطق العالم لكارثة الطاعون التي أودت بما يناهز ثلث مسلمي ذلك العصر (بمن فيهم والدي ابن خلدون)، وأخيرًا تعرضّ بغداد لاجتياح مغولي همجي جديد بقيادة تيمور لنك.
فكيف بمسلم صادق يقبل عقله أن يعزي إلى الإرادة الإلهية كل هذه الكوارث والنكبات البشعة التي لحقت بعامة المسلمين في عصره؟ هو ذا سرّ بحث ابن خلدون عن تفسير للتاريخ متحرّر من التفسير الديني، وقد حداه الأمر على اكتشاف دور العوامل الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية (العمرانية) في تحديد مجرى التاريخ البشري. ومن هذه العوامل «العصبية» التي رأى فيها عاملًا أساسيًّا في تأمين صلابة القوة العسكرية، مفسِّرًا تغلُّب الجماعات القبَلية الآتية من البادية على الجماعات الحضرية بكون عصبية الأولى أقوى من عصبية الثانية (وينسحب هذا التفسير نفسه على تغلّب المغول على الحضارة العبّاسية). وبينما رأى ابن خلدون في الدين عصبية تتميّز بنطاقها الأوسع بكثير من نطاق العصبية القبَلية، عصبية قادرة على صهر قبائل كثيرة ومختلفة في بوتقة قوة قتالية واحدة، لم يفته أن شتى الأديان لعبت مثل هذا الدور الذي لم يكن حكرًا للإسلام أو حتى لديانات أهل الكتاب، وقد لحظ ذلك في مقدمته الشهيرة.
العلمنة وتحرر الدين
في أوربا، استكمل الفكر العلمي الحديث سيادته في مختلف المجالات، سواء أكان في علوم الطبيعة أم في العلوم الاجتماعية، بالترافق مع ما أسمي بعصر التنوير الذي قام على التحرّر من سلطة الدين وتغليب العقل على الإيمان في المجال السياسي كما في مجال المعرفة الوضعية. وقد تقدّمت الثورة العلمية لدى الأوربيين بدءًا من عصر النهضة لديهم، أي بدءًا من القرن السادس عشر الميلادي، بالتوازي مع النقد الديمقراطي للحكم الملَكي المطلق الذي كان يدّعي الاستناد إلى حقّ إلهي. ومع أن العَلمَنة انتصرت على امتداد القارة الأوربية ومستعمراتها الاستيطانية، لم يختفِ الدين في تلك المناطق، بل استمرّ في شكل إيمان حرّ طوعي حلّ محلّ التديّن القسري الذي كان سائدًا من قبل. ليس هذا فحسب، بل إن تحرّر المجتمع والدولة والعلوم والتعليم من هيمنة الدين قد وجد نظيرًا له في تحرّر الدين ذاته من هيمنة الدولة، بعد أن كان الحكم الملَكي في كل دولة من دول أوربا العظمى قد فرض هيمنته على المؤسسة الدينية (الكنيسة) وحوَّلها إلى أداة سياسية من أدوات سلطته.
وفي هذا الصدد نذكر أن جماعات تستخدم راية الإسلام استخدامًا سياسيًّا كانت قد رفعت صوتها في مصر، خلال انتفاضة «الربيع العربي» التحرّرية في عام 2011م، تطالب باستقلال مؤسسة الأزهر عن الدولة. وقد قرأنا حينها أخبارًا كالتالي: «أكد الشيخ خالد فياض – الأمين العام لنقابة العاملين بالأوقاف وإمام وخطيب المسجد الفارسي بالأنفوشي – أنه لا بد من استقلال الأزهر ماليًّا وإداريًّا ليؤدي دوره الحقيقي في المجتمع المصري والعربي والعالمي» («أمل الأمة»، 25 يونيو 2011م). والمفارقة أن الذين رفعوا هذا المطلب هم أعداء للعلمانية بالرغم من أنه، من حيث لا يدركون، جزءٌ لا يتجزّأ من مبادئ العلمانية؛ إذ يندرج في فصل الدين عن الدولة. ولا يسع أي نصير للعلمانية بمعناها الصحيح سوى أن يثني على كلام الشيخ المقتبس أعلاه، ويؤيد مطلبه. أما الذين يريدون أن يجمعوا بين تحرير الدين من الدولة وتقييد الدولة بالدين، فهم يدافعون في الحقيقة عن دولة يسيّرها رجال الدين حتى لو ادّعى بعضهم أنه من أنصار الدولة المدنية، والحال أن لا دولة مدنية ولا ديمقراطية حقيقيتين بلا علمانية.