بواسطة يوسف ضمرة - كاتب أردني | مايو 1, 2021 | كتب
تبتعد سلمى الخضراء الجيوسي والشاعر شوقي عبدالأمير من أسرار الشعر التي يبحث عنها الشعراء في العادة. يتناولان موضوعات تتعلق بالشعر وبغيره. علي العامري، في كتابه «رقيم الحبر: شعراء يتحدثون عن الطفولة والحب والمنفى» (الدار الأهلية للنشر)، يدرك أن كلًّا من سلمى الخضراء الجيوسي وشوقي عبدالأمير لم يتركا بصمات بارزة في مسيرة الشعر العربي، لكن كلًّا منهما انهمك في مشروعات ثقافية عربية على تماسّ مباشر بالشعر، وهذا ما جعل العامري يوجه بوصلته نحو تلك المشروعات الثقافية «بروتا» و«شرق. غرب» لسلمى الخضراء الجيوسي، و«كتاب في جريدة» لشوقي عبدالأمير بالتعاون مع اليونيسكو وباشتراك أكثر من مئة صحيفة عربية.
ولذلك لم يكن مستغربًا أن ينصب الحوار ويتمحور حول هذه المشروعات؛ والأهداف والبدايات والعوائق والتطور والأثر والمآزق اللاحقة كتوقف كثير من الصحف، والقراءة في الإنترنت مباشرة من دون الحصول على ورق وتكديسه، والمعاناة أحيانًا في التخلص منه، لكن الجيوسي الشاعرة وعبدالأمير الشاعر لم يغردا خارج السرب فيما يتعلق بالشعر، حيث كابد الاثنان ما كابده بقية الشعراء في الكتاب، وبخاصة المنافي والتشرد والغربة والمعاناة التي يتسبب فيها الحنين إلى الوطن أينما ذهب المرء وحيثما استقر.
لكن المشكلات الأكثر تعقيدًا تتعين في حوارات الشعراء الخمسة الآخرين «عبدالوهاب البياتي، ومحمد القيسي، وعز الدين المناصرة، والمالطية ماريا غريك غانادو، والفلسطينية جذرًا ناتالي حنظل». تشي الحوارات بأهمية قيم معينة للشعر، ومن أهمها الطفولة والمنفى والهوية، وهي قيم تبدو القاسم المشترك الأعظم في هذا الكتاب. وإذا ما قلنا الهوية فإن اللغة تبرز كملمح رئيس من ملامح هذه الهوية، وهو ما نلمسه ونشعر به في آراء الشاعرتين المالطية ماريا غريك غانادو، والفلسطينية الأنتيلية الأميركية نتالي حنظل التلحمية قبل مئة عام.
يبرز الفقد كأحد العناصر أو العوامل الأساسية، ولا نحب ترداد ما قاله السابقون في هذا الشأن من قبل، وهو أن المرأة تعني الأم/ الحبيبة/ الأرض/ الوطن. فحمدة والدة الشاعر محمد القيسي التي أرضعته في فلسطين وحملته على كتفها وفي حضنها عبر حدود وجغرافيات عدة، تظل هي المرأة الإنسان الذي قاسى وعانى وذاق مرارة المنافي وقسوة الحنين إلى الديار أكثر من الشاعر نفسه. لكنها في بؤسها ومراراتها وندبها اليومي تنقل الوطن إلى ابنها من دون أن يقصد أحدهما ذلك. يقول القيسي: إنه كان عاقًّا لأمه، لكنه حين وجد نفسه بعد أكثر من خمسين عامًا مجردًا من تلك «اللطميات» وخطوط المنافي على وجه أمه، أدرك فداحة الخسارة التي أصابته.
كسر الحنين
لكن المنفى لشاعر مثل عز الدين المناصرة شكل حالًا مختلفة، فقد اكتشف أنه لكي يظل فلسطينيًّا، كان عليه أن يكسر الحنين في داخله. وهو حين يخاطب عنب الخليل في ديوانه الذي يحمل عنوان «يا عنب الخليل» لا يناديه كمنفيّ، وإنما كإنسان يعيش مأساة الاحتلال، وهو ما ينطبق على الجغرافيا في شعره؛ إنها بمنزلة توكيد الارتباط بالشعب وبالوطن، فهو ينادي عنب «الخليل» ويكتب الخروج من «البحر الميت» الذي يذكره صغيرًا مع أهل قريته الذاهبين لإحضار الملح بعد أن تتبخر المياه عن الصخور. ويكتب «قمر جرش كان حزينًا» وهو هنا يشير إلى أحد أهم مواقع المقاومة الفلسطينية قبل ترحيلها إلى لبنان وسوريا. ثم يعود إلى «كنعان» وأرض كنعان في «كنعانياذا» ليؤكد ارتباطه الجذري بفلسطين، وليؤكد ثانية أنها ليست أرضًا موعودة لأحد سوى الكنعانيين، حيث سرق الاحتلال منذ نشأته المفردات الكنعانية من رقص وغناء وملابس وطعام، بوصفها إرثًا يهوديًّا.
لقد لعبت الطفولة عند الشعراء المحاوَرين دورًا أساسيًّا في تشكيل التجارب الشعرية وصقلها. وهي غالبًا هنا مقترنة بالمنفى، كما هي الحال مع الشعراء عبدالوهاب البياتي وعز الدين المناصرة ومحمد القيسي. فهؤلاء جميعًا اقتُلِعُوا من أوطانهم بعد طفولة منقوصة، وخبروا المنافي بكل وحشتها وبعدها الفيزيائي عن الوطن. والملحوظة التي لا تكاد تذكر من قبل الشعراء أنفسهم، هي أنهم أُجبِروا على مغادرة الوطن؛ ليقاسوا حياة لا تقلّ قساوةً عن الاحتلال الأجنبي حينًا، والاحتلال المحليّ حينًا آخر.
علي العامري
فالشعر ليس مرغوبًا من جانب السلطة الحاكمة؛ لأنه يستثير المشاعر الإنسانية في مواجهة الاحتلالات المختلفة والدكتاتوريات المشابهة. وهو ما جعل الاحتلال الإسرائيلي يسجن العديد من الشعراء كمحمود درويش ويطرد آخرين. وهو ما فعلته بعض السلطات العربية الحاكمة في كثير من أقطارها. وعلى الرغم من الحريات التي تمتع بها بعض المنفيين من الشعراء، فإن الحرية تظل هنا منقوصة، تمامًا كما يكون الوطن حاضرًا ولكن بلا حرية؛ إنهما توأمان من الصعب الفصل بينهما أو التمييز أو التوكؤ على أحدهما؛ لأن الاختلال مصير حتمي.
ترتبط الطفولة ارتباطًا وثيقًا بالتملك، وهو الأمر الذي لم يشر إليه الشعراء. فحين كان البياتي يلعب على ضفاف دجلة، ويلقي بالزوارق الورقية في الماء، كان يشعر في أعماقه أن النهر والضفاف والزوارق الورقية له، وما يعزز هذا الشعور هو قدرته وتمكنه من ممارسة الفعل نفسه وقتما شاء، ومن دون قمع فوقي. وعليه يكون المنفى محتفظًا في داخله بملكيات كبيرة تخصه تمامًا. فدجلة في المنفى لا يعود مجرد نهر في بغداد، بل ملكية خاصة فقدها البياتي. والحال تنطبق على المناصرة الذي فقد عنب الخليل خاصته، حيث كان الصغير يدخل أي كرم ويتناول أي عنقود من دون حواجز، وعليه يصبح في المنفى فاقدًا ملكًا شخصيًّا كالطفل الذي فقد ألعابه، أو شاهد من يمزقها واحتفظ بالمشهد حتى آخر عمره.
تظل في الحوارات شاعرتان على الحدود العربية والغربية جغرافيًّا وثقافيًّا. فمالطا جغرافيًّا تنتمي إلى الشواطئ العربية؛ أقصد الحدود الثقافية واللغوية. ومن المعروف أن مالطا جاءها العرب من صقلية، وجاؤوا معهم باللغة العربية والعادات والتراث كالغناء والرقص. ثم جاء البريطانيون وجعلوا اللغة الإنجليزية هي الرسمية. ثم استقلت مالطا، والتحقت بعد عشر سنوات بالاتحاد الأوربي.
وجدت الشاعرة ماريا غريك غانادو نفسها أمام ثلاث لغات أساسية، هي العربية والإنجليزية والإيطالية، من دون أن ننسى بقايا اللغة المالطية المحلية التي كانت سائرة إلى الانقراض. وبمقدار ما قد يشكل هذا التنوع ثراء ثقافيًّا، فإنه يقلص من خصوصية الجزيرة وأرخبيلها. فكل شخص في الكون يعتز بلغته ويعدّها جزءًا منه في مواجهة الآخر، وملمحًا من ملامح هويته، وهذا ما عانته الشاعرة المالطية ماريا غريك غانادو، التي تكتب بالإنجليزية، وتحكي المالطية العامية، وتعرف العربية والإيطالية. تضاف إلى هذا كله معاناتها من مرض «الاضطراب ثنائي القطب» المتعلق باختلال المزاج.
وهي تخبرنا أن الشعر ساعدها كثيرًا في مواجهة هذا المرض المزمن الذي يؤدي إلى اضطراب الشخصية وأعراض أخرى كالبارانويا والفصام. لقد أخذت مالطا تستقر تدريجيًّا، وربما ساعدها وجودها في الاتحاد الأوربي على ذلك، ولم يعد الشعر معيبًا للنساء المتزوجات مثلها كما كان من قبل، وأظنه إرثًا عربيًّا إلى حد كبير.
جرح المنفى
أما شاعرتنا الثانية المولودة والمقيمة على الحدود ثقافيًّا وجغرافيًّا، فلها جذور تمتد عبر الأرض البعيدة والمتعاكسة. لقد ولدت في هاييتي، وتحديدًا في جزيرة «هيسبانيالو» الجبلية في أرخبيل الأنتيل، التي تجمع على أرضها توأمين بلغتين مختلفتين، هما هاييتي والدومينيكان. نشأت بين الحدود، وتشكلت سيرتها في الأرخبيل الكاريبي وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة والوطن العربي وعموم آسيا والشرق. وعلى الرغم من أنها لم تعرف فلسطين طفلة أو شابة، فإنها لا تنسى أن أجدادها هجروا بيت لحم الفلسطينية في عشرينيات القرن الماضي، وهي تعرف وتتابع مآسي شعبها، وتعدّ نفسها شخصًا منفيًّا تسبب له المنفى في جرح لا يتوقف عن النزف. تكتب بالإنجليزية، وقد اختيرت إحدى قصائدها ضمن مشروع الشعر المتحرك، حيث تعلق بعض القصائد في عربات المترو، ويقرؤها يوميًّا قرابة سبعين مليون شخص. تقول نتالي: إنها كانت تضطر للمزج بين أكثر من لغة للتعبير عن نفسها، وتظل شاخصة إلى أرض آبائها فلسطين، حيث ذهبت إلى بيت لحم والقدس، وشعرت بالرباط القوي الخفي الذي لا يزال قائمًا بينها وبين تلك الثقافة والهوية.
أخيرًا كنت أود لو نشر الشاعر علي العامري مؤلف الكتاب قصائد ولو قليلة لهاتين الشاعرتين، حتى يتمكن القارئ من الاطلاع على معاناتهما شعريًّا، ومدى تأثير الولادة والإقامة في الحدود وعليها. لكنه في النهاية كتاب ثريّ بكثير من المواقف والآراء، وقد اضطررنا إلى القفز على بعضها بسبب المساحة، خصوصًا ما يتعلق بنقد الشعر وقصيدة النثر التي لا اختلاف كبيرًا يُذكر حولها، باستثناء التسمية عند الشاعرين محمد القيسي وعز الدين المناصرة اللذين يُعَدّان من شعراء قصيدة النثر، رغم ارتباطهما الوثيق بقصيدة التفعيلة وبالغنائية الشعرية.
بواسطة يوسف ضمرة - كاتب أردني | يناير 1, 2021 | كتب
كنت قرأت لهذا الروائي الفرنسي الشاب رواية بعنوان «الصبية والليل»، وقد فوجئت به يكتب رواية بوليسية «موضوعًا وحبكة» وبخيال بعيد المدى. وحين قرأت روايته هذه «شقة في باريس» تحقق ما فكرت فيه، من حيث كونها رواية بوليسية كذلك. ولا أخفي إعجابي الكبير بهذه التقنية المشوقة والممتعة، التي تقوم على مفاجآت تحملها تفاصيل صغيرة ربما يستخف بها القارئ في البداية.
غيوم ميسو
يخالف غيوم ميسو منذ البداية توقعاتنا في روايات كهذه؛ فأن يلتقي شاب وشابة في الأربعين، في شقة «أصبحت لهما لأيام» بعد استئجارها، يتوقع أن تتبدد سحب النفور الأولى ليتحول مسار الرواية إلى قصة حب، لا نعرف كيف تنتهي، وبخاصة أننا نتحدث عن خمس مئة صفحة! المفارقة الأولى تتعين في استئجار الشقة في وقت واحد من جانب اثنين، وهو ما يتبين على الفور أنه خطأ في الإعلان على الشبكة العنكبوتية. فما إن يدخل الكاتب المسرحي الشاب «غاسبار» إحدى قاعات المنزل، حتى يفاجأ بامرأة شبه عارية بعد خروجها من الحمام، فتصيبه صدمة عنيفة. وحين يسألها عن سبب وجودها في منزله، تجيبه أن هذا هو السؤال الذي توجهه هي إليه.
ثمة أسباب عدة للنفور، فكلاهما استأجر الشقة في ضاحية شبه ريفية، لأن كلًّا منهما لديه أسبابه الخاصة؛ فهو كاتب مسرحي شهير تعرض مسرحياته على أكثر من خشبة حول العالم، إلى الحد الذي يجعلنا نقول: إنه شاب ثري. هي عملت مدة طويلة محققة جنائية في بريطانيا قبل أن تصاب بانتكاسة بسبب ارتكابها خطأً في إحدى القضايا، وهو ما أدى إلى فصلها، ليتبين لاحقًا أنها كانت محقة ويعاد لها الاعتبار، لكنها تختار العمل في نيويورك ضمن القضايا الجامدة أو المجمدة التي تثير الملل، فتقرر الانسحاب. تجمع ثروة صغيرة تؤهلها لحياة مريحة.
يستأجر غاسبار المنزل ليتفرغ لكتابة عمل مسرحي جديد، ومادلين تستأجره محطة ترتاح فيها قبل عملية جراحية تنتظرها في مدريد، لتعود لقضاء نقاهة في المنزل بعد العملية. هذه هي القاعدة التي تبدأ الرواية معمارها فوقها، من دون إغفال لتفاصيل تخص شخصية كل منهما. هو بالطبع لا يستطيع الكتابة طالما هنالك شخص آخر في المنزل، وهي لا تستطيع الحصول على الراحة المطلوبة لا قبل العملية ولا بعدها.
يتحرك الفضول الإنساني لاكتشاف المنزل. يعرف كلاهما أنه ما تبقى من ثروة رسام شهير يدعى شون لورينز، ولا يوجد أحد مهتم بالثقافة والفنون إلا وعرفه وقرأ عنه وشاهد لوحاته، سواء على نحو مباشر أم غير مباشر. يتأملان أثاث المنزل واللوحات والصور الفوتوغرافية، ويعرفان من الوصي على تركة لورينز أن الرسام فقدَ ابنه الصغير على أيدي عصابة مجهولة. تتناول الرواية (صدرت عن المركز الثقافي العربي 2020م، ترجمة حسين عمر) مرحلة الثمانينيات في نيويورك حيث معدلات الجريمة العالية والفوضى والمخدرات، إلى الحد الذي أصبحت فيه نيويورك مدينة مخيفة. فالسرقات لا توقف بل تزيد نسبتها، والجرائم تتنوع، والخوف يخيم على المدينة، وهي المرحلة التي شهدت تغوّل وول ستريت على المدينة، بل على البلاد كلها تقريبًا.
الرسام الراحل شابًّا
تنشأ علاقة ودية بين الوصي ومادلين، فيبدأ في كشف بعض المعلومات عن الرسام الراحل شابًّا، بينما يُقلّب غاسبار في أوراق لورينز في المنزل ويعثر على بعض المعلومات. وفي النهاية تبرز بعض المعطيات التي تختفي وراءها أكثر من جريمة، بما فيها مقتل الطفل ابن الرسام لورينز. وهنا سيكون علينا الانتباه إلى مسألتين: الأولى أن حالة من التوافق والود نشأت بين مادلين وغاسبار، والثانية هي بروز شخصية الرسام الغريبة التي تقفز لتصبح الشخصية الأساسية في الرواية. ولكن اللافت هو أن الاثنين يبديان الاهتمام نفسه في الكشف عن بعض الغموض الذي يلف حياة الرسام واختطاف ابنه وقتله، ويتجاهل كل منهما السبب الرئيس الذي جاءا لأجله إلى باريس.
هذه التقنية الروائية الفريدة، تجعل من الرواية البوليسية أكثر من مجرد متابعة قاتل غامض، فهنالك حياة ثرية وإنسانية يطلعنا عليها الروائي تدريجيًّا، بحيث نتعاطف أحيانًا مع بعض القتلة من دون أن ندرك ذلك. ونود لو تأخذ الرواية منحًى يلامس عاطفتنا، لكنها لا تفعل ذلك دائمًا. نعرف من الوصي أن شون لورينز توقَّف عن الرسم تمامًا بعد اختطاف ابنه وقتله. ثم نكتشف أن هنالك ثلاث لوحات رسمها لورينز بعد هذه الحادثة، وهي مفقودة تمامًا.
نتذكر على الفور رواية هاروكي موراكامي «مقتل الكومانداتور» حيث يقيم رسام البورتريه في منزل رسام ياباني شهير، ويكتشف مصادفةً أن هنالك لوحة مغلفة للرسام الشهير لم يرَها أحد، ما يوجه اهتمام رسام البورتريه إلى هذه اللوحة التي لا يعرف بها أحد حتى ابن الرسام الشهير نفسه. هنا يبدأ غاسبار الكاتب والمحققة السابقة مادلين في البحث عن هذه اللوحات الثلاث، حيث تدرك مادلين أن كل تفصيل مهما كان دقيقًا ربما يكون مفيدًا أو علامة على طريق الكشف.
وهو ما يفعله رسام البورتريه في مقتل الكومانداتور، حيث يتابع ضربة فرشاة أو درجة لون أو تكوينًا أو توازنًا هنا وخللًا هناك؛ ليعرف في النهاية المعنى الذي أراد الرسام الشهير تضمينه في تلك اللوحة. ولكن هنا يبرز سؤال لا بد منه، وهو: كيف أصبح شون لورينز رسامًا؟ وكيف اكتسب هذه الشهرة؟ وهل لطفولته علاقة بالأمر؟
دائرة الأسهم النارية
يكتشف غاسبار ورفيقته مادلين أن شون لورينز كان في مراهقته في نيويورك مشاغبًا، وفي أواخر الثمانينيات كان يُشكّل مع اثنين آخرين عصابةً أو مجموعةً أطلقت على نفسها دائرة الأسهم النارية. لقد سرق سرقات بسيطة، لكن الأهم هو اهتداؤه إلى فن الغرافيتي، حيث كان يُرى دائمًا وفي يده علبة الألوان، وكانت رسوماته أخذت تتكاثر على عربات المترو وزجاج المحلات وجدران البنايات ولوحات الشوارع. هكذا اكتُشف رسام سيصبح بعد وقت قصير عَلَمًا من أعلام الفن التشكيلي في أميركا، وترتفع أسعار لوحاته شيئًا فشيئًا إلى أن أصبح فنانًا ثريًّا. لكنه ظل انطوائيًّا ولم يكن يحب الظهور في وسائل الإعلام، وهو ما رأت فيه وكيلة أعماله كارن حافزًا لمزيد من الشهرة.
هل ثمة شيء من التوافق بين الكاتب المسرحي غاسبار والرسام لورينز؟ يخبرنا الروائي أن الكاتب المسرحي معروف بعزلته وبُغضه الناس وعدم اختلاطه بأحد، وهو يعيش قرابة ستة أشهر سنويًّا في أرخبيل الجزر اليونانية حيث يمتلك شقة وقاربًا، ويغادر الأرخبيل في موسم السياحة اليوناني، فيعود إلى نيويورك. وإذا ما عرفنا أن الرسام لورينز تزوج وأنجب طفلًا ثم انفصل عن زوجته، أدركنا حجم التشابه في الشخصيتين. كلاهما مبدع، وكلاهما من أبناء العزلة، وكلاهما لا يقيمان علاقات شخصية بأحد، حتى إن الكاتب المسرحي غاسبار لا يستخدم وسائل التقنية الحديثة، لا للكتابة والقراءة، ولا للتواصل مع أحد، لدرجة أنه لا يحمل هاتفًا ولا يجيد استخدامه. وكلاهما معروف على نطاق البلاد. وربما لولا هذه التشابهات ما كان الكاتب غاسبار لينخرط في موضوع الرسام وما حدث معه وله ولابنه. بمعنى أن الكاتب كان يبحث من خلال متابعته قضية الرسام وحكايته عن شيء آخر غير المجرمين أو المصاير الغامضة.
كانت الحياة للكاتب غاسبار، عبثية وبلا جدوى، ولا تستحق أي عناء، وكان يرى في العلاقات مجرد استعراضات وديكورات هامشية لا معنى لها. لكن اختطاف طفل وقتله ذبحًا أيقظ فيه كثيرًا من المشاعر، خصوصًا حين يعرف تداعيات هذا الفعل الإجرامي على حياة الرسام شون. شيء ما في داخله أنساه المسرحية التي جاء لكتابتها وتبع مشاعره الكامنة بوصفه إنسانًا. لقد تمكنت حادثة واحدة عرفها من قرب، أن تجعله يخاطر أحيانًا بحياته وهو يلاحق التفاصيل والأخبار والأسماء والأماكن الخطرة والمجرمين القتلة. لقد أجرى الرسام لورينز عمليتين في القلب، لكنه توفي بعد عملية خطف ابنه ومقتله، وكان هو في طريقه إلى مكتب مادلين التي كانت تخلَّت عن عملها في ذلك الوقت. كانت تلك مأساة حقيقية، خصوصًا أن الرسام كان بلا قريب أو صديق، إذا استثنينا ضابط شرطة يدعى أدريانو سوتوماير، كان يشكل معه وفتاة تشيلية مجموعة الأسهم النارية. لكن سوتوماير يُقتل قرب المكتب، لنكتشف أن شون لورينز كان ذاهبًا لمقابلته لا لمقابلة مادلين. لقد تخلَّت مادلين عن عمليتها التي كانت تتضمن تلقيح إحدى بويضاتها لتنجب طفلًا، وتخلى غاسبار عن مسرحيته ليتفرغا معًا لمتابعة مأساة شون لورينز وابنه.
بياض يغطي مساحة اللوحة
كان الكاتب غاسبار يكتشف في كل خطوة يخطوها أنه يزداد تصميمًا على معرفة ما حدث. ولذلك أخذته الصدمة حين عُثِر على اللوحات الثلاث المفقودة لشون لورينز. كان يحدق غير مصدق هذا البياض الممتدّ الذي يغطي مساحة اللوحة. لكن ما جذبه أكثر هي تلك اللوحة التي رسمها شون، كترجمة لونية لإحدى حكايات الأطفال. كانت مكونات الحكاية التي كان يحكيها ليليًّا لابنه، موجودة في اللوحة، لكن لورينز أضاف الحمار الوحشي غير الموجود أصلًا في الحكاية، وهو الأمر الذي أثار مخيلتي غاسبار ومادلين. ماذا كانت تعني تلك الخطوط السوداء والبيضاء؟ وبعد جهد جهيد يتمكن الاثنان من تركيب بعض الحروف من خلال تلك الخطوط، ليكتشفا جملة تقول: «جوليان حي»! وجوليان هو ابن الرسام لورينز.
كان هذا أحد ألغاز الرواية؛ فقد صُوِّرت عملية طعن جوليان وشاهدها الجميع، وهو ما جعل مادلين وغاسبار يحاران في الأمر؛ فهما قد شاهدا عملية القتل، كما أنهما لا يعرفان كيف تمكن الرسام لورينز من تأكيد مقولته، وهو ما جعله يحاول إيصالها لعدد ممن هم قادرون على إنقاذ ابنه!
لقد تمكن الاثنان أخيرًا من العثور على الطفل، ليعود بنا الكاتب إلى بداية الرواية؛ فحين جاءت مادلين لاستئجار المنزل كان ثمة طفل يلعب بطائرة صغيرة، ويقول بصوت عال: «إنها تطير يا ماما». ويقول الجملة نفسها قرب غاسبار: «… يا بابا». لقد اكتشف غاسبار ذاته المفقودة؛ ذاته التي نخرها العبث في عزلته وفي بُغضه الآخرين. كان يبتعد من الآخرين لأنه ربما يخشاهم ويخشى ما يترتب على علاقاته بهم.
لا أستطيع تلخيص الرواية المليئة بالتفاصيل، ولكنني أشدد على أن الجريمة أو المأساة كانت سبيلًا لإيقاظ روح إنسان كان يدرك في أعماقه أنه ليس حيًّا تمامًا، على الرغم من ثرائه والامتيازات التي يحظى بها. وكما انفصل شون لورينز عن زوجته عارضة الأزياء، ينفصل غاسبار عن ماضيه العبثي، وتقلع مادلين عن فكرة الإنجاب بالتلقيح الخارجي؛ لأن الاثنين نراهما وجوليان ابن الرسام معًا في المنزل.
كان لورينز مقبلًا على الحياة محبًّا لها، لكنه أصيب بعطب في قلبه سلبه حياته واستمتاعه بابنه بعد حياة الفقر والبؤس التي عاشها صبيًّا ومراهقًا مطارَدًا. بينما غاسبار كان يدير ظهره للحياة لأنه لا يراها، إلى أن اكتشفها في شغف لورينز بالرسم وفي حبه ابنه الطفل، حتى في حبه زوجته بينيلوب التي يرسمها أكثر من عشرين مرة. لقد اكتشفت بينيلوب أن فن لورينز يعيش على حياة الناس كما قالت لغاسبار، حيث تزداد لوحاته التي استلهمها منها جمالًا، بينما هي تتقدم في العمر وتذوي. إنها رواية بليغة عن الحياة، في جوانبها المختلفة كلها.