بواسطة بهاء إيعالي - شاعر لبناني | سبتمبر 1, 2021 | كتب
ليس بالأمر الجديد استحضار الشاعر لمكانه الأثير في شعره لدرجة تجعله يفرد كتابًا كاملًا له، أكان موضع طفولته ونشأته أو حتى موضع إقامته، وهذا ما رأيناه في «باريس» بودلير، أو «جيكور» السيّاب، أو حتى في «صور» عباس بيضون و«نيويورك» لوركا، وما هذا الاستحضار الذي يأتي بلغة البراءة الطفولية لدرجة تُظهره للقارئ مركبًا لدرجة التعقيد، إلا نوعًا من الفرار من وجه العالم وقسوته ومشاقه، ليغدو هذا المكان بمنزلة الحديقة الخلفية التي يستريح فيها الشاعر ويحاولُ استذكار ماضيه فيه.
علي محمود خضيّر
من هذه النقطة ينطلق على محمود خضيّر في عمله الشعري الرابع «كتاب باذبين» (دار الرافدين- بيروت 2021م)، فهو يبدأ من باذبين وينتهي بها (أو المنصورة- علي الغربي- تل البيادر حسبما ترد في النصوص)، فتتكامل النصوص لتشكّل ما يشبه بالدائرة السيَرية للشاعر وعالمه معًا، هذا العالم الذي لا ينزاح عن الطفولة والبراءة المفقودين لصاحب «سليل الغيمة»، وكأنه يود لو يمسح الغبار عنهما ويعيد إنتاجهما في مخيلته، متّخذًا من مفردات محكيّته العراقية الدارجة (الأمّاية، الطابوق، الطرطيع، الطارمة، …) حقلًا معجميًّا غنيًّا لعالمه، وركيزةً جميلةً في إضفاء الحيوية على النص العربي الفصيح.
وباذبين هذه هي التسمية القديمة لبلدة «علي الغربي» الحالية، وقد ورد ذكرها في مصنّف ياقوت الحموي «معجم البلدان» كالآتي: «باذبين بكسر الباء الموحدة، وياءٌ ساكنةٌ ونون، قرية كبيرة كالبلدة تحت واسط على ضفّة دجلة، منها جماعة من التجار المثرين، ومنها جماعة من رواة العلم، منهم: أبو الرضا أحمد بن مسعود بن الزقطرّ الباذبيني…». وقد سمّيت بالمنصورة في العصور الإسلامية الأولى أيام الحجاج بن يوسف الثقفي، أما تسميتها بعلي الغربي فتعود لقائد ثورة الزنج أيام المتوكل العباسي الذي عرف أيضًا بالغرابي.
عالم غني بالاختلاط
ولعل العالم الغني لهذه البلدة، الذي عرف تخالطًا عظيمًا لساكنيها على مر العصور من يهود ومندائيين وأكراد وعرب، هو عالم الشاعر وسرّ سيرته الشعرية هذه، وما استحضاره لاسمها السومري القديم (باذبين هي عبارة سومرية مركّبة من كلمتين «باذ» و«بين» وتعني تل البيادر) إلا شيئًا من البحث عن هوية المكان والزمان الفائت لإعادة الطفلِ إلى نفس الشاعر، هذا المكان الذي يعترف الشاعر في نص «كتاب أبي» أنه مفتاح هذا الكتاب الذي لم يكن ليأتي لولا استقرار والده فيه، فيقول: «فلولا مجيئه لباذبين وقراره الزواج والإقامة فيها ما كنتُ لأقطع هذا الطريق، وما كان للكتاب أن يجمع علاماته».
هذا ويكرّس خضيّر تفكيره الطفولي من خلال كوننة بلدته، لدرجة نكاد نشعر أن نهاية هذا العالم مسدودةٌ بجدرانٍ عاليةٍ، وهنا أمام هذا المسار يلجُ في عوالم البلدة المتعددة ليجعلها خاصة به وحده، فيبدأ بمنزله والحياة الهادئة داخله في قصيدة «بيتٌ تحرسه سدرتان»، مارًّا بغرفة والده المظلمة، أو مخزن ورشته الذي كان جزءًا محرّمًا عليه، وكذلك أحلام طفولته البريئة التي ربما يخالها الآن نقمةً بعد أن كبر، وأيضًا عن الإيمان الفطري لأهل البلدة في ذكره المعتقدات الخاصة بمرقد علي الغرابي في قصيدة «الطريقُ إلى علي الغرابي» حين يقول: «الأكفّ المحنّاة تركت على الجدران في الخارج حزامًا عقيقيًّا يسوّر المرقد بشهيق الناذرين ونار انتظارهم. تعضّده، بين ركوعٍ وسجودٍ، أذكار المصلّين وهمهمات المسبّحين ورجاء الداعين في الأركان والأروقة…».
بورتريه موحد
أو حتى ذكره لخرافة «عبد الشط» التي تزرعها الأمهات في رؤوس أطفالهم العصاة قائلًا: «طويلٌ، بأصابع ناحلة/ بابتسامةٍ نصف ميّتةٍ وشعرٍ أشقر/ عارٍ، أو يكاد/ يسحبُ الأطفال العصاة إلى النهر ويغيب». غير أن الشاعر يحاولُ في بعض الأحيان أن يصنع من عالمه الفريد بورتريهًا موحّدًا للبلدات والقرى العراقية من خلال العديد من القواسم المشتركة، فيبدأ بتطرّقه لحصار العراق الذي كان له آثاره النفسيّة في الشاعر والشعب على حدّ سواء في نص «سوقٌ في التسعينيات»، وكذلك الأجواء العاشورائيّة الكربلائيّة في بلدات العراق، متحدّثًا عن عادات وتقاليد أهلها في نص «المهباشة»، بل يتخذ موقفًا واضحًا تجاه المعاملة التي يلقاها الغجر أو «الكولية» كما يسمّون بالدارجة العراقية ويعنون نصّه عنهم، فيعمل على تجميل صورتهم التي قبّحتها تيارات الإسلام السياسي جراء عملهم في الرقص.
تتوزّع قصائد المجموعة الممتدّة على 103 صفحات من القطع المتوسط بين شقين شعريين، وإن لم يأتِ ترتيبٌ واضح لهذين الشقين، وهما الشعر الحرّ الذي عدَّه شقًّا مأزومًا ومتوتّرًا، والنثر الذي عدَّه تأويليًّا ومنبسطًا. ولعل جنوحه نحو النثر من شأنه أن يفسّر مقدرة شكل الشعر الحر على رصد التصويرات المختلفة في نصه، فكان النص أقرب إلى ما يمكن لقصيدة النثر بشكلها الفرنسي الخالص.
وهذا النثر بدوره مفرطٌ في السرد حتى يكاد يشبه السرد القصصي، غير أنه يعطي تداخلًا معقّدًا بين مقدرة خضيّر على السرد وقدرة هذا السرد على إعطاء النص شاعريته، كما في «أحزان باريس» لبودلير، و«جنّي الليل» لبرتران. غير أنّه حتى في قصائده التي تحاكي شكل الشعر الحر قد بدت ملامح السردية واضحة معطية للنصوص نفسًا نثريًّا طريًّا. وهنا نستذكر مقولة أبي حيان التوحيدي في «الإمتاع والمؤانسة» حين يقول: «أحسنُ الكلام ما… قامت صورته بين نظمٍ كأنه نثر، ونثرٍ كأنه نظم»، ولعل خضيّر عن غير قصدٍ قد جعل من مجموعته الشعرية هذه مثالًا دقيقًا لمقولة التوحيدي هذه.
يمكن القول: إن تجربة علي محمود خضيّر هذه هي الحديث التاريخي الخفيّ عن الحواضر الصغرى شعرًا، فلعل إغراق المكتبات بالمؤلفات التاريخية المكرّسة للحديث عن مدن وبلداتِ الأطراف في أيّ بلدٍ من شأنه أن ينفض الغبار عن بعض ما يختزله المكان من الزمن من دون أن يفصح عما تقوله سريرته، ليكون الشعر هو الحيّز الذي يفرّغ فيه ما لا يرغب في قوله على الدوام، ويكون الشاعر هو لسان هذا المكان وجسده، كضربٍ من التناسخ الذي من الممكن أن يتجسّد بعد أعوامٍ طويلةٍ بشاعرٍ آخر يقول ما لم يدركه سابقوه.
بواسطة بهاء إيعالي - شاعر لبناني | يناير 1, 2021 | تحقيقات
في 15 آب/ أغسطس 1947م صدر عدد مجلة «السمير» المهجرية متحدثًا عن أواخر عمر ناشرها الشاعر إيليا أبي ماضي، بحيث كان وقتها قد زهد في الدنيا طالبًا الرحمة والصحة والهدوء، فعملَ على ملء أوقات فراغه منصرفًا للعبته المفضلة «التويست»، بل إن من قرأ ديوانه الأخير «تبر وتراب» الصادر بعد وفاته عام 1960م يلحظ كيف أن قريحة أبي ماضي قد ضمرت وشاخت ولم تعد نفسها تلك التي كانت عند صدور ديوانيه الأهم «الجداول-1927م» و«الخمائل-1940م» فباتت تجود عليه بشعر أقل جودة مما كان عليه في السابق.
قد يكون هذا التحول في حياة صاحب قصيدة «الطلاسم» سببه هو التعب الذي كان يثقل كاهليه من الشعر، فجميعنا يتذكر كيف تعرض لمضايقاتٍ كثيرةٍ في مصر قبل سفره إلى نيويورك عام 1912م؛ بسبب كتاباته الشعرية الوطنية والسياسية، أو حتى مضايقات رجال ضيعته المحيدثة بفعل انتقاده لهم، فكان قد عزم بعد سفره إلى الولايات المتحدة على هجر الشعر وطلاقه، غير أنه ما إن وصل إلى مدخل ميناء نيويورك واقعًا نظره على تمثال الحرية حتى هتف قائلًا:
نفسي اخلدي ودعي الحنين فإنما
جهلٌ بُعَيْدَ اليوم أن نتشوَّقا
أصبحتُ حيث النفسُ لا تخشى أذًى
أبدًا وحيث الفكرُ يغدو مطلَقا
قد يكون الشعرُ عبئًا كبيرًا على الشاعر، بل إن الصفة التي تلصق به جراء كتابته قد تصبحُ لعنةً عليه، فكم من الشعراء من لم يتمكنوا من الاستمرار، فوجدوا أنفسهم قد أخذوا مساراتٍ جديدة في الكتابةِ بجانب الشعر، أو توقفوا عن كتابته مكرسين جهودهم لاختياراتهم الأخرى، أو منقطعين عن الكتابة كليًّا، نذكر رامبو الذي توقف عن كتابة الشعر في عشرينياته متجهًا لخوض غمار السفر والترحال، أو إدغار آلان بو الذي فضَّل القصة القصيرة في النهاية وعمل عليها بجد، وأيضًا بول أوستر صاحب «ثلاثية نيويورك» الذي اتجه بمسارٍ روائي خالص. وعربيًّا نتذكر إبراهيم نصر الله الذي اختار العمل على الرواية إلى جانب الشعر، بل عُرفَ روائيًّا أكثر مما عرف شاعرًا، وأيضًا خزعل الماجدي الذي كرس حياته باحثًا في أديان ومعتقدات الشعوب القديمة تاركًا الشعر متنفسًا له وعائدًا إليه بين فينة وأخرى. وهناك أيضًا الشاعر عباس بيضون الذي راح يصدر الرواية تلو الأخرى، وحين فاز بجائزة الشيخ زايد للكتاب، فاز بها بصفته روائيًّا، وليس شاعرًا.
مسألة عبء الشعر قادتنا للتو نحوه مباشرة، نحو شعراء من أجيالٍ عدة وبقاع وأنحاء متفرقة، غامروا وتورطوا في لصق تسمية الشاعر بهم، حاولنا الخروج من نمطية الأسئلة المعلبة فتركنا لهم الكلام بكامله ليسيروه كما يرغبون، وأن يحكوا علاقتهم الجدلية بالشعر وكيف يشعرون إزاءه، وبِمَ يبددون ثقل هذه العلاقة حال شعروا بها.
عباس بيضون: الشعر يتجاوز الشاعر وهذا ما يجعله عبئًا
لا أعرف إن كان الشعر في حد ذاته عبئًا، أعرف أنه ككل ما يشبهه، أي مجالات التفكير، يمكن أن ينقلب في لحظة ما إلى عبءٍ أو على الأقل إلى حيرة. نحن لا نملك مثالًا للشعر سوى نماذجه وهذه ليست، نظريًّا على الأقل، معيارًا له، فليس للشعر معيارٌ بل فقط نماذج وهي ما يجب على الشاعر الجديد أن يخالفها أو يستقل عنها، بمعنى أن ثمة نموذجًا جديدًا لا ضمانة له سوى إرادة صاحبه التي لا يسعه أن يعول عليها.
هناك إذن السؤال عما إذا كان ما ينظمه الشاعر يسمى شعرًا، هذا سؤال شبه ميتافيزيقي وهو إذ يطرح ماهية الشعر فهو ككل سؤالٍ عن الماهية قد يصل إلى إلحادٍ كامل. هنا لا نتأكد من وجود الشعر ولا دليل عندنا على وجوده فيغدو عدمًا، وهو على كل حال يبقى قريبًا من العدم، شاخصًا إليه. يمكن للشعر هكذا أن يغدو عبئًا كما هو الوجود كله، لكن للشعر بين فنون الكتابة ميزات أقربها أنه، رغم كل الكلام عن الذاتية، لا شخصي، أي أن الشاعر لا يعرف كيف يضع نفسه فيه ليصح ذلك الادعاء أنه قال نفسه.
الشعر يسبق الشاعر ويتجاوزه وهذا ما يجعله عبئًا حقيقيًّا؛ إذ إن الشاعر لا يعلم إن كان الشعر أو اللغة إذا استعرنا هايدغر، هو أو هي ما يتكلم فيه، هنا لا يفعل الشاعر سوى الخروج من ذاته في حين أنه يبحث عنها. إن استبداد اللغة لدرجة ابتلاعها للشخص يجعل من الشعر سحرًا أو إلهامًا أو شيئًا يشبه التنزيل، ربما كان هذا وراء كل التعريف السحري للشعر. يبقى أن هذا الاستبداد يعني أن اللغة بكل حملها تتكلم في الشعر بحيث يبدو الشاعر وسيطًا فحسب في حين أن الشعر يبقى نوعًا من تظاهر اللغة بالحقيقة أو ما تحتها. هذا اللعب مع الحقيقة هو أيضا عبءٌ وصِلة الشعر بالفكر هي أيضًا محنة. الشعر الذي قد يكون نوعًا من الفكرِ يعاني إنتاج فكره الخاص الذي هو صورة واضطرام ودمغة، وهذا بطبيعة الحال ميزة بقدر ما هو ثقل على الشعر الذي يحاول بصعوبة أن يزاوج بين الخفة والكثافة.
لا أعرفُ متى يواتيني الشعر فذلك يحصل من تلقائه. أبقى طويلًا خارج الشعرِ، ثم يخرج من شرارة غير محسوبة، ولا ينتظر منها أن تنقلبَ إلى قصيدة. غالبًا ما يحمل هذا معه لغة كاملة أستمر في إظهارها إلى أن يغدو عملًا كاملًا بإيقاعٍ خاص، وهذا ما عانيته وأظن أنه لعبتي الخاصة وليس قاعدةً ولا نموذجًا عامًّا.
هاتف جنابي: لم أتمكن من هجر الشعر لأن أحدنا تلبَّس الآخر
الشعر! آه، على الشعر ومنه! أهو هِبةٌ تصير عبئًا بين الفينة والأخرى؟ الشعر كباقي الفنون الإبداعية يتطلب مهارات فنية، فكرية، ثقافية، ولا تكتمل رسالته بدون الموهبة. إذًا، فهو رسالة أيضًا، ومن هنا فهو هم كذلك نظرًا لثقل المَهَمة. العبءُ لا يعود إلى طبيعة الشعر فحسب، بله إلى همه الفني ومشروعية القلق من النجاح أو الفشل. لنتفقْ على أن الشعر هم ومتعة إبداعية تدفع للتأمل والتخيل والتفكير وهو عبء لما ينوء به من تحد في اتجاهين رئيسين: داخلي، في مُعتمل العملية الإبداعية، وخارجي.
مطلع سبعينيات القرن الماضي حينما كنتُ طالبًا جامعيًّا وشاعرًا فتيًّا ومتمردًا قلت مرارًا: سأهجر الشعر إذا أحسستُ بالعجز عن مواصلة الكتابة. نُشرَ رأيي في حوار لصحيفة عراقية صادرة آنذاك. لماذا راودتني هذه الفكرة؟ دواعيها كثيرة، منها ما تعلق بالطموح الشخصي لاجتراح تجربة مغايرة وهذا بحد ذاته يشكل عبئًا هائلًا على المرء، ومنها ما هو ناجم عن قراءة واقع الشعر المرير وتسيد التقليدية والعمى الإبداعي والفكري من جهة والادعاء من جهة أخرى. اتضح لي فيما بعد، أن إنجاز المشروع الإبداعي أيًّا كانت طبيعته يحتاج إلى وقت وجهد ومثابرة ومعاناة على الأصعدة كافة.
لم أتمكن من هجر الشعر لأن أحدنا تلبَّس الآخر، ولأنه أنقذني مرارًا من الموت والنسيان. كل ممارسة أقوم بها خارج الشعر تحمل همومه وهي ليستْ أقل منه همًّا ومسؤولية. الشعر علمني الصمود والتضحية والجدية في العمل والانضباط في الكتابة رغم ما يشاع من أن الشعر يعلم الكسل.
شاعر ومترجم عراقي
محمود خير الله: الشاعر في حاجةٍ دائمًا إلى الشعر
أغلب أعباء الشعر محببة إلى نفس الشاعر، ما دام قادرًا على المجاهدة والصبر في التأمل، ما دام قادرًا على الملاحظة والعيش زاهدًا فيما ينبهر به الآخرون، حتى من المبدعين، أعتقد أن أكبر عبء على الشاعر أن يعيش ويبدع وينتج كتبًا ويستطيع أن يصل إلى الآخر ويعبر إلى لغات أخرى، من دون أن يحصل على تكريم أو تقدير ملائم في لغته وفي بلده بالأحرى، تلك هي أهم التحديات التي تواجه الشعراء، وبخاصة الذين يكتبون قصيدة النثر في الوطن العربي، فمنهم الكثيرون الذين تُرجموا إلى لغات أخرى واستطاعوا الوصول إلى جمهور غربي لا يعرف لغتهم، لكن قصائدهم حين ترجمت لهذا الجمهور تركت أثرًا بالغًا فيه، وهو الأمر الذي يمثل أسوأ عبء على الشاعر، أن يشعر أنه: «لا كرامة لشاعر في وطنه».
الشعر فعل وحدة في الأساس، وقد لا يكون الشعرُ عبئًا على الشاعر إلا حينما يتوقف عن الكتابة، ويكون عليه أن يحصي مرارات هذه التوقف، الذي قد يصبح لعنة تطارده، إلى أن تقضي حتى عليه، وقد عرفنا في تاريخ الشعر الإنساني حالات انتحار لشعراء كبار بعد توقفهم عن كتابة الشعر، أعتقد أن عمل الشاعر الفرنسي آرثر رامبو في تجارة العبيد في قارة إفريقيا مثلًا، كان نوعًا من الانتحار الناتج أصلًا عن عبء التوقف عن الكتابة.
عن نفسي لم أفكر في الابتعاد من الشعر، فأنا أراه ملاذًا ألوذ به، أراه ذراعًا إضافية أحرك بها العالم المفزع الذي نعيش فيه، حتى إذا كان العالم بلا طائرات فأنا أستطيع بالقصيدة أن أطير طائرتي، وأن أحمل السحب على متن هذه الطائرة الورقية الصغيرة، وإذا الليل أتى أستطيع أن أرص فوقها النجوم، تمامًا مثل أي ساحر.
شاعر مصري
عبدالفتاح بن حمودة: كثيرٌ من نصوصي كان يجبُ محوه
لم أشعر يومًا أن الشعر كان عبئًا علي، بل كنت كلما أحسست أنني صرت عبئًا على الشعر أقومُ بعزل نفسي منهمكًا في القراءة كلما جفَّت الينابيع، هذه القراءات التي لا يمكن لي حصرها بل أتركها منوعةً بين الشعر والقصة والنقد والرواية والمسرح. وأيضًا كنت أهرب إلى الفنون البصرية السينما والمسرح والفن التشكيلي والغرافيتي والكاريكاتور حتى الغناء والموسيقا والبرامج الوثائقية عن الطبيعة، فكل هذه الأشياء عناصر ملهمة لكل كاتب في العالم.
ربما يفترضُ أن نوجه أسئلة من قبيل كيف يكون الشعراء عبئًا على الشعر؟ سأقول ساخرًا: إن مئات الشعراء الذين أدركوا أنهم كانوا عبئًا على الشعر ذهبوا إلى الرواية؛ لأنها تحصد أموالًا وفيرة، وكلمة أموال وفيرة ينبغي التركيز عليها.
أما أنا، ففي الأوقات التي أحسست فيها أنني عبءٌ على الشعر كنت أذهب للقراءة وترميم البناءات المتهدمة، وأحضّ القلم على كتابة مقالات للصحف وتأملات وشذرات ويوميات؛ حتى كتابتي الشعرية أشتغلُ كثيرًا عليها، فعادةً ما أكتب نصًّا شعريًّا واحدًا في الشهر في أسطر قليلة، وهذا كثيرٌ حقًّا ومزعجٌ فأمحو عديد الأسطر، أحلم أن أكتب ثلاثة أو أربعة نصوص شعرية في السنة، وأن يكتب لبعض نصوصي الحياة، فكثير منها كان يجب محوه.
شاعر تونسي
نجيب مبارك: كثير من الشعراء يتمنون لو اختاروا «هواية» أخرى
لا أتصور فنًّا حقيقيًّا لا يكون عبئًا على صاحبه طوال الوقت، نفسيًّا على الأقل، أو يفرض عليه تحمل أصناف من الشقاء والانتظار والإحساس بعدم الجدوى، والملل واليأس أحيانًا. ربما هنا مكمن سحر أي فن من الفنون، وفي مقدمها الشعر، خصوصًا حين ينجح في تعويض الفنان عن كل هذا العبء من خلال عملٍ فني جميلٍ وأصيل، أو لنكن واقعيين أكثر، عمل يحظى ببعض الرضا والثقة النسبية ليُنشر بين الناس. حين قال ألبير كامو: «يجب أن نتخيل سيزيف سعيدًا» لم يبتعد كثيرًا من هذا المنظور، وإن كان يقصد الشرط الإنساني على العموم، وليس وضعية الشاعر فقط.
ولا يخفى أن كثيرًا من الشعراء يتمنون لو أنهم اختاروا «حرفة» أو «هواية» أخرى غير الشعر، مثل الرسم أو الموسيقا مثلًا؛ لأنهما الأقرب لروح الشعر. تتعدد أسباب الإحساس بهذا العبء، خصوصًا مع تراجع فوران السنوات الأولى التي طغى عليها التمرد والثورة على كل شيء، ومنها أسباب موضوعية وأخرى ذاتية، ومنها ما يرتبط بوضعية النشر والقراءة، وبمستويات التلقي والنقد عامة، حيث نلحظ أن الشعر صار شبه مهجور من الدارسين والباحثين، وبنسبة أقل من القراء الحقيقيين.
كل هذا يسهم في زيادة العبء على الشاعر يومًا بعد يوم، وتصبح مهمة كتابة قصيدة جديدة مثل مجازفة خطرة أو قفزة مع شلالٍ هادرٍ من النصوص، لا يمكن التمييز فيه بين الجيد والرديء وبين الأصيل والمزيف. ربما لمثل هذه الأسباب اخترت التوقفَ عن كتابةِ الشعر مدة طويلة في مراحل مختلفةٍ من حياتي، دون أن أتوقف عن قراءته وترجمته.
وأظن أن «عزرا باوند» كان على صواب حين نصح الشاعر الذي يرزح تحت الصمت والشكوك وغياب الإلهام أن يلجأ إلى تمرين الترجمة، خصوصًا ترجمة نصوص الشعراء الكبار والمجهولين؛ لأن ذلك يسمح للشاعر بأن يكتب «شعرًا حقيقيًّا» بشكل من الأشكال، ويبقيه قريبًا من هذا الفن الصعب، في انتظار أن تتغير شروط حمل هذا العبء نحو الأفضل، وتطرق بابه أخيرًا تلك القصيدة التي طال انتظارها.
شاعر مغربي
مهيب البرغوثي: الخطيئة خلقت الشاعر داخليًّا
قد لا يمكنني الإطالة في الحديث عن الشعر؛ لأنه مهما تكلمت عنه سأبقى مقصرًا، غير أنني لا أستوعبُ فكرة أن يكون الشعر –أو الأدب ككل– عبئًا عليَّ، كيف تكون وسيلة التنفس، أو وسيلة النظر، أو وسيلة الاستماع، أو أي وسيلة مرتبطة بحواسي الخمس عبئًا عليَّ؟ الشعر عندي هو المتنفَّس، الرؤية والاستماع، ومن يقول: إن الشعر عبء عليه، أجيبه تلقائيًّا: أنت العبء عليه وعلى المشروع الثقافي الذي يحمله، فيما لم ينجح بتصوير حقيقة ما يريد أو لم يكن لديه قضية يعملُ لأجلها.
سنتفق معًا على أن الأدب عبء على صاحبه، لكن ما يستفزني صراحةً قول بعضهم: إن أفضل وسيلةٍ للتخلص من هذا الثقل هو التخلي عنه، سأقول: إن ابتعادي من الأدب لن يحملَ يومًا معنى التخلي؛ لأنه متى دخلت في حلبته تورطت به، وحتمًا الكتابة تورطٌ جميلٌ بحق لا تكاد تشعرُ بانغماسك فيها، حتى ترفض كل أشكال الخروج من مأزقها. ذات يوم اعترفتُ بأن الخطيئة خلقت الشاعر داخليًّا، واليوم لا أتردد في تكرار هذه العبارة، فأنا بعد تجربةٍ طويلةٍ محملةٍ بالتعب أعترف اليوم أن الشعر أعطاني منذ البداية مفهوم الحياة اليومية والجدل الدائر بيني وبين الأشياء، سواء أكانت هذه الأشياء ورقة، أو كتابًا، أو شجرة، أو حتى ضوء الشمس… هذه العلاقة الجدلية التي أشعرتني أنني جزءٌ مما يتكون المجموع ككل، أيًّا كان هذا الجزء الذي أمثله أنا لكنه جزءٌ في النهاية.
سأبتعدُ من الشعر في حالةٍ واحدةٍ فقط، وهي حين أبدأ في رؤية الشعراء عبئًا على الشعر، وابتعادي هنا نوع من الانكفاء كلما ازدادت مسافته ارتفع صوتنا، نحن الشعراء.
أكرم القطريب: كتابة الشعر تشبه المشي في الضباب
هربتُ دائمًا من فكرة تفسير غاية الكتابة؛ كتابة الشعر خاصة. العلاقة مع الكلمات تجعل الهروب ممكنًا خارج دائرة الأمر الواقع وحطام العيش. فالفن يذكرنا بتفرد الأشياء وخصوصيتها، والشعر يبدو في كثير من الأحيان مكان الحياة الحقيقي، الحياة الوحيدة التي تنقذ وجودنا اليومي. الكتابة نوع من السعي الحثيث ومحاكاة دائمة لليوتوبيا المتخيلة، حيث لا تزال إمكانية المعاناة التي يُستبدَل الفنُّ بها، وجعلها ذات معنى، أمرًا حيويًّا. لكن ما ينبغي التسليم به أن الشعر لا يمكنه تغيير أي شيء، أو الحفاظ على العالم أو حتى إنقاذ أحدٍ من الغرق، بيد أنه تجسيدٌ لتلك الإرادة الضرورية لدافع الإنقاذ.
يشرح روبن وليامز في أحد مشاهد فِلْم «مجتمع الشعراء الميتين» لتلاميذه سبب قراءة الشعر وكتابته، نقلًا من قصيدة «أوراق العشب» لوالت ويتمان. وهو لطالما ارتبط بالكثافة العاطفية، وهنا جوهر أزمته، وقد تكون فكرة تخليه عن المفاهيم الرومانسية وتعامله مع التفاصيل التقنية، ما يمنحنا جميعًا القدرة على تحسين شعرنا.
ربما يعود الشعر إلى إنسان الكهف الأول الذي أرَّخ الأحداث من خلال الرسوم والرموز حتى الأغاني، لتؤرخ حقبة الصيد وخصائص الأرض التي نجا منها. ومع تطور اللغة سافر رواة القصص من مكان إلى آخر من أجل تلاوة الأساطير. لكن صيغة الابتعاد منه لا تضعنا في جوهر معناه، وقد وصفه بول سيلان بـ«اليد الممدودة»، أو «حارس الحياة» بلغة وليم فولكنر. في العشرينيات اعتقدتُ أن ما كتبته كان جيدًا، فيما بعد غيرتُ رأيي، وتركتُ كتابة الشعر مرات عدة، ثم صرتُ أقرأ بنهم شديد، حتى العلامات التجارية على زجاجات زيت الزيتون والنبيذ، ما يريحني أكثر هو كتابة اليوميات، غالبًا مكتوبة بلغة يبدو أنه لا فكاك منها، فكتابة الشعر تشبه المشي في الضباب.
شاعر سوري
خالد بن صالح: نكتب لنجعل العالم أقل بشاعة
الكتابةُ، بالنسبة لي، خيارٌ. تُشبه الحالةُ هذهِ، تمامًا، ذلك المشهد العظيم في قصيدة روبرت فروست وهو يقف أمام مفترقِ طرقٍ في غابة؛ لأنني بعد سنواتٍ من الرسم، ساعدتني مصادفةٌ ما، على الالتقاء بكاتبٍ داخلي، كان يختفي وراء آلاف الصفحات التي قرأتُها، واللوحات التي أنجزتُها؛ وما بينهما من أحلامٍ وأوهام. فأطلقتُ سراحَ خطواتهِ ليمشي في طريقٍ أخرى. كانت منذ البداية مدعاةً للتجريب والمغامرة، وأصبحت لاحقًا خيارًا نهائيًّا كمسار حياة. عليه، فإنه ما من أعباءٍ إلا ما تعلق بالشعر وكتابتهِ، منها هُموم الحياةِ اليومية، التزامات الوظيفة، وكل ما يجعلني أبتعد منهُ مسافةً تصبحُ هي بذاتِها عبئًا، وقلقًا يستمر أحيانًا أشهرًا طويلة وربما سنوات.
القراءةُ والموسيقا والسينما، ثلاثي ضروري في حياتي الضيقة، أفردُ له وقتًا مَهْمَا توالتِ الضغوط والإكراهات. وفي هذه الفُسحَة الزمنية الخاصة، حتى إن لم أكتُبْ، يظل الشعرُ حاضرًا، يتخذ أشكالًا عدة وصورًا لا حصر لها؛ مقالات شذرات وغيرها. الدفاترُ لا تُفارقني، وكذلك الجملُ المعجونةُ باليومي وما يطيلُ ساعات الليل ويحرك مياه السائد الراكدة بالسؤال والجَسَد والأفكار. لم أفكر في الابتعاد يومًا مما أصبح بعد الانطلاق في المشي طريقي! أعتقد أن الأعباء الحقيقية تتجاوزُ المتداول والمتوقع إلى ما هو جوهري وعميق؛ حيرةُ الكتابة وقلقُ الشعري، بهذا المعنى، أنا مدينٌ لهذه الغرابة والاختلاف من أجلِ كسر طوق الزمن الكرونولوجي للأشياء، ضد تحنيط صورة الشاعر! الجمالُ عبء، وغيابه عبء، وربما نحن نكتب لنجعل العالم أقل بشاعة مما هو عليه. هناك لحظةُ انشقاقٍ وتصدع، لكن ما من ابتعاد ولا فراق، هناك لحظةُ مللٍ ولا مبالاة، لكن ما من زمنٍ متكلس. القراءةُ مثلًا، لنص جيدٍ والكتابة عنه أو التعليق عليه، هي استمرارٌ في الكتابة والحياة.
شاعر جزائري
زكي الصدير: النص الحقيقي يخرج من اللغة ليسكن في اللغة
عبء الشعر؟ هو، باعتقادي، ليس غرضًا مناسباتيًّا يقدم على موائد التخمة وليس تدريبًا رياضيًّا يُجبَر عليه رياضي ما، وإنما هو لغة العالم الذي قدر للشاعر أن يكون لسان قبيلة الجوعى؛ جوعى الحياة، والسعادة، والأمل، والحرية. فإذا لم يكن الشعر يمتلك هذه الرسالة فعلى الشعراء التنازل عن لغتهم وعن صورهم وعن كلماتهم لصالح فنٍّ آخر قادرٍ على تكوين القصيدة الحقيقية النقية التي تصرخ في وجه قبح العالم. طبعًا ليس خطأً أن يشكل الشاعر من يومياته نصه الخاص، فكل ما هو متاح للتأمل هو متاح لمساءلته باللغة، وهو بوصفه رائيًا يرى الأشياء من زاويته المختلفة ويصفها من وجهة نظر خاصة، فيكسبه دهشةً وكأنه
يُشاهده للمرة الأولى.
لا توجد طقوس سرية، أو خاصة، أو مختلفة للشعر، ولست ممن يغريهم هذا الجنون الأسطوري الذي يتوهمه أو يمارسه بعض المبدعين، من خلع الملابس، والتقلب على الظهور والبطون، أو معاقرة الشراب، أو حبوب الهلوسة ليل نهار بشكل انتحاري… لا يغريني كل ذلك. أعتقد أن لحظة الكتابة هي لحظة خاصة جدًّا ليس على المبدع أن يلاحقها، فقط عليه انتظارها وهي ستأتيه ولو تأخرت.
كسر رولان بارت زجاجة اللغة التقليدية، وتفرد بمقولة «موت المؤلف» مستعينًا بأطروحة نيتشه حول «السوبرمان»، تلك الأطروحة التي قدمت النص بصفته جزءًا من الإنسان ككل لا من المؤلف فحسب. في محاولة لخلق قطيعة فلسفية بين اللغة بشكليها التقليدي والجديد. أُومِنُ بأن النص الحقيقي هو ذلك الذي يخرج من اللغة «الذات» ليسكن في اللغة «الآخرين». ووفق ذلك أرى أن الشاعر هو الفنان القادر على اختزال وجدان العالم في نفسه، ثم إعادة تشكيله وصناعته وخلقه وفق ما يراه مناسبًا عبر كائن اللغة. ولعلي بهذه المقاربة أكون قريبًا جدًّا من رؤية الشاعر الفرنسي آرثر رامبو للشعر، حين استوجب على الشاعر أن يكون رائيًا يعيش بين الخاطئين والمستقيمين، والمجرمين والبريئين، والخائفين والمطمئنين، والفقراء والأغنياء، ليسرق وجدانهم المشتت، ويصبه في قالب اللغة التي ستتحول ذات يوم إلى لغة كونية، ستعرف طريقها للمتلقي من دون قيد، مثلها مثل الموسيقا والرقص والإشارة. لهذا فالشعر رؤية للكون، والشاعر الرائي.
شاعر سعودي
إسلام نوار: لم يحاول الإنسان التوقف عن الشعر حتى الآن
الحياة وجودٌ بين عدمين/ الاستمتاع بالوجود أو العبء بين عدمين، الشعر هذا الشيء الذي يمكن أن يكون مرتبطًا ارتباطًا شرطيًّا بالحياة، حتى قيل: إن الإنسان بعدما نطق نطق شعرًا، وإن الشعر أسبق في وجوده على النثر، فكأنه صوت الإنسان كزقزقة العصافير وصياح الديكة وخوار الثيران، ومن هنا يمكننا أن نتحدث عن العبء، عن متى يمكن أن يكون النطق في حد ذاته عبئًا؟
انتخب الوجود الإنسانَ كي يكون له المنظومة (الحنجرة وتجويف الفم واللسان) الأكثر تعقيدًا بين الكائنات ما مكنه من نطق لغة متعددة الأصوات، وانتخب الإنسانُ الشعراءَ كي يكون الشعر صوته البدائي الوحشي السائر بين الأزمان، بينما أنا كشاعر يمكن أن يُعقد لساني، تَعقد لساني السلطةُ، والحاجة، يعقده الفراغ أو الامتلاء، يعقد لساني ذاته.
لم يحاول الإنسان التوقف عن الشعر حتى الآن، هذا الشيء معقود على حمضه النووي، والشاعر الفرد العابئ بالحياة أو غير العابئ بها، الشاعر الفرد الذي ينتهي إلى عدمٍ بدأ منه، يمكن أن يتحول صوته أو هو ذاته إلى عدمٍ في حياته، لا يوجد في الشعر محددات أو أهداف نهائية، ولا مسار ثابت، الشعر عبء الكلام أو راحته، ولا أعرف ماذا أفعل مع لساني إذ يُعقد؟ بول أوستر الذي انقطع عن الشعرِ بعد خمسة دواوين وكتب الرواية حصرًا بعد ذلك، هل انقطع عن الشعر؟ الكاتب الإنجليزي بول بيلي الذي كتب الرواية والنقد، ثم جاء في الثمانين من عمره ليكتب ديوانه الأول؟ متى يمكنك أن تقرر التوقف عن كتابة الشعر أو متى تبدؤه أو تعود عليه أو كيف تكون دورة حياتك فيه؟ آه من يملك الإجابة عن أي شيء.
شاعر مصري
فيروز العوكلي: الشعر أن تأوي للحظة كأنها تعاشُ لأول مرة
لطالما شعرت أن ثقلًا ما يلاحقُني ويلاحقُ حياتي اليومية بل يتأبط ذراعها ويمشيا معًا.. إنه الثقل الذي يترنح به الشعر في نومي ويقظتي وما بينهما.. صحيح أنه ثقلٌ لكنه محمول حين يكون نابعًا من داخلي وحينما يكون ضرورةً لا ممارسة.. على الشعر أن يتوجس في داخلك أولًا.. عندما يخفت التجائي لداخلي وألتفت للخارج كثيرًا لا أستطيعُ أن أكتب الشعر.. فعلت ذلك مراتٍ عدة، وعندها فقط كان الشعر عبئًا غير محمول.. إن الخارج الذي نلتجئ إليه لنكتب شعرًا ما هو إلا استفزازٌ لما يتكون بداخلنا ممزوجًا بذاكرتنا.
لم أفكر مرةً في ترك الشعر وذلك لشدة وطأةِ إلحاحه حتى في أكثر أيامه فتورًا.. ما إن تحاصرني قصيدة ما حتى أغرق في توترٍ وتخبطٍ ونوم متقطعٍ حتى ألفظها فأغدو شفافة جدًّا. كثيرًا ما أروض عدم رغبتي في كتابةِ الشعر بالنوم.. وهنا أقول: «عدم رغبتي» وليس «عدم قدرتي»؛ لأن الشعر حينما يعرف طريقه إليك سوف تمشي صوبه دائمًا حتى إن زعمت أنك لست شاعرًا، ولكن عدم الرغبة هي حالة المقت الغريبة التي تصيبني فجأةً إزاء الشعرِ كفعل كتابةٍ وفق قواعد لغوية ونحوية معينة.
إذن أنام وألجأ لداخلي كثيرًا ولذاكرتي هذه المثقلة بالحياة في شكل مشاهد وأي مشاهد للحياة هي شعر إن عشتها أكثر مما ينبغي بقليل، ربما هذا الثقل الذي يرزح تحته الشاعر أنه يعيش حياته برمتها بانطباعاته وتوجسه وهواجسه ومسراته وحنقه أكثر مما ينبغي.. في النوم تتكثف وتستفرد بي الأفكار التي أحاول أن أستفرد بها خلال اليوم لكن ضجيج أعباء اليوم يحول دون ذلك. وعندما أستيقظ يكون شيئًا منها قد علق وأبدأ بتلقفه وبنفض النعاس والخارج عنه. إنني أسمح للشعر بأن ينمو داخلي ولا أستعجله. ليس الشعر بأن تتجاوز اللحظة والزمن والمكان وإنما أن تأوي إليها كأنها تعاش لأول مرة.
شاعرة ليبية
محمد اللوزي: أخاف من شكلي وأنا عاجزٌ عن كتابة قصيدة
الشعور بعبء الشعر أمرٌ لا أكاد أحسه، فما أكتبهُ هو نص متخففٌ من متطلبات الرغبة العارمة لدى كثيرين ممن ما زالوا يقرؤون الشعر، أي المعروف بالدارج «ما يطلبه الجمهور» سواء أكان شكلانيًّا عبر قوالب متعارفٌ عليها وبعضهم ما زال يراها أساس الشعر، أو مضمونيًّا من خلال ثيماتٍ محددة قد تجد مكانتها لدى القارئ. هذه أشياء تخففت من ثقلها مما أشعرني بجمال الشعر وبهجة العيش في عالمه الذي لا يسعني إنكار الأعباء المترتبة على الشاعر جراء تورطه فيه، يكفي أن ينصاع لما ذكرته آنفًا ليسقط في فخاخه العديدة، كما ينبغي لي ذكر عالم فيسبوك وتأثيره في الحركة الشعرية الراهنة، فهو اليوم المنصة الأكثر رواجًا وقابلية لاحتواء الشعر ونشره، ولما يصبح هاجس الشاعر حصد المشاهدات واللايكات والتعليقات ينساق من دون قصدٍ نحو تلبيةِ ما هو مقروءٌ بالنسبة لجمهور الفيسبوك فينزلق في الفخ.
قد أصلُ ليومٍ أشعرُ فيه بثقلٍ كبيرٍ جراء الشعر، سأسأل نفسي: ماذا كان بإمكاني فعله وقتها، قد يخطرُ لي أن أتوجه نحو جنسِ كتابةٍ جديد، الرواية مثلًا، أو القصة، أو المسرح، وقد أتوقف عن الكتابةِ تمامًا، بيد أنني لا أخفي خوفي من هذه الفكرة لدرجة خفت من شكلي وأنا عاجزٌ عن كتابة قصيدة؛ لذا لا أفكر سوى باستمراريتي في الكتابة حتى النهاية. ذات يومٍ وقع بين يدي كتاب باللغة الإنجليزية تحت عنوان: «قصائد الموت اليابانية»، وهو عبارة عن آخر قصيدةٍ أو مقطوعةٍ كتبها كتاب الزن وشعراء الهايكو قبل موتهم، وبها كان الشاعر يلخص تجربته، غير أن باشو لما سُئل عن قصيدة موته أجاب: إن أي واحدةٍ من مقطوعاته قد تكون قصيدة موته.
يمكنني القول: إنني أتخفف من الشعر بالشعر، ولو أنني أستشعر فشلًا في بعض الأحيان من هذه التجارب لكنني أحاول عبر هذا الفشل التقاط خيطان الراحة.