لماذا نحب الطغاة؟
لماذا رحب الناس بالقادة المستبدين مرة بعد مرة؟ منذ آلاف السنين، حاول الفلاسفة والمنظرون السياسيون شرح سبب مشاركتنا عن طيب خاطر في اضطهادنا من خلال الخضوع للزعماء المستبدين. واليوم، فإن الصعود المشؤوم للأنظمة الاستبدادية في جميع أنحاء العالم يجعل هذه المسألة مُلِحّة أكثر من أي وقت مضى.
كان أفلاطون من أوائل المفكرين وأكثرهم تأثيرًا في معالجة مشكلة الاستبداد. جادل في كتاب «الجمهورية»، الذي كُتب سنة 380 قبل الميلاد تقريبًا: إن الدول الديمقراطية مقدر لها أن تسقط في الطغيان. لم يكن أفلاطون من المعجبين بالديمقراطية، ربما لأن الديمقراطية الأثينية هي التي حكمت على مُعَلِّمِهِ المحبوب سقراط بالإعدام. كان يعتقد أن الأشكال الديمقراطية للحكم تخلق جماهير فاسدة وغير منضبطة من السهل أن تقع فريسة للسياسيين الذين يتحدثون بسلاسة متذللين لرغباتهم. في «غورغياس»، الذي كتب في الوقت نفسه الذي كُتب فيه «الجمهورية» تقريبًا، يخبرنا أن هؤلاء السياسيين يغرون الجماهير بوعود سقيمة بدلًا من تغذية الصالح العام. «خباز المعجنات وضع قناع الطبيب» يلاحظ أفلاطون ساخرًا «ويتظاهر بمعرفة الأطعمة الأفضل للجسم، بحيث إذا كان على خباز المعجنات والطبيب التنافس أمام الأطفال، أو أمام رجال حمقى كالأطفال، لتحديد أيهما، الطبيب أو خباز المعجنات، لديه معرفة متخصصة بالطعام الجيد والسيئ، سيموت الطبيب من الجوع».
لنتقدم الآن في الزمن ألفي عام ونصف إلى بدايات القرن العشرين وننظر في عمل عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر. طور فيبر، أحد مؤسسي علم الاجتماع، مفهوم «السلطة الكاريزمية»: سمة معينة للشخصية الفردية ينفصل بموجبها عن الرجال العاديين ويُعامَل على أنه يتمتع بما هو خارق للطبيعة أو فوق طاقة البشر، أو على الأقل قوى أو مزايا استثنائية تحديدًا. يُلهَم القادةُ الكاريزماتيون التفانيَ ويَعُدُّهم أتباعُهم أنبياء. عمقت رؤى فيبر قصة أفلاطون السطحية. يتمتع الطاغية الصاعد بهالة خاصة تكاد تكون سحرية. يعتقد أتباعه أنه يستطيع عمل المعجزات وتغيير حياتهم. كيف يحدث هذا؟ ما الذي يدفع الأشخاص العقلانيين لتبني مثل هذه الآراء غير الواقعية على نحو خطير؟ لشرح ذلك، نحتاج إلى التعمق أكثر.
في الوقت ذاته الذي كان فيبر يطور فيه نظريته عن الكاريزما في برلين، كان فرويد يواجه أفكارًا مماثلة في فيينا. بلغ تفكيره ذروته في كتاب «علم نفس الجموع وتحليل الأنا» (1921م). يركز الكتاب على الديناميات النفسية للفرد التابع. إنه، مثل معظم أعمال فرويد، نص معقد، ولكنْ ثمة موضوعان رئيسان يبرزان؛ أولًا- جادل فرويد بأن أولئك الذين ينجذبون إلى القادة الاستبداديين يَعُدُّونهم مثاليين. يُنظَر إلى القائد بوصفه كائنًا نموذجيًّا بُطوليًّا لا يعتوره عيب. ثانيًا- جادل بأن الأتباع يتماهون مع القائد من خلال استبدالهم به ما أسماه فرويد مثال الأنا. مثال الأنا هو تمثيل ذهني لقيم المرء الموجِّهة. وهو يتألف من اعتقادات عن الصواب والخطأ، عما هو مُلزم وما هو مستحيل. إنه بوصلتنا الأخلاقية: إنه أساسًا ضمير المرء ذاته. عندما يحل القائد الاستبدادي محل الأنا المثالية، يصبح ضمير أتباعه، ويصبح صوته صوت ضميرهم. كل ما يشاء القائد، بحكم تعريفه، هو جيد وصائب.
تتوافق أطروحة فرويد جيدًا مع ما حدث في ألمانيا هتلر. لننظر في مثال ألفونس هيك. عندما كان شابًّا، كان هيك عضوًا في شبيبة هتلر. في كتابها «الضمير النازي» (2003م)، كتبت المؤرخة كلوديا كونز أن هيك شاهد الغستابو يجمعون اليهود في قريته من أجل الترحيل، بمن في ذلك أفضل أصدقائه هاينز، لم يقل في نفسه: «كم هو فظيع اعتقال اليهود!». بدلًا من ذلك، بعد أن استوعب المعرفة حول «التهديد اليهودي»، قال: «لسوء حظ هاينز إنه يهودي». كشخص بالغ قال: «قبلتُ الترحيل لأنه عادل».
الأتباع يتماهى بعضهم مع بعض
إن حقيقة أن مجتمع الأتباع لديه هوية مشتركة مع الزعيم الاستبدادي لها نتيجة مهمة أخرى. يتماهى الأتباع بعضهم مع بعض بوصفهم أجزاءً من «حركة»، ويختبرون أنفسهم بوصفهم أعضاء مندمجين في كُلٍّ جماعيّ. هذا الشعور المُسكر بالوحدة، وإخضاع المصلحة الذاتية الشخصية لقضية أكبر، هو عنصر مهم جدًّا في الأنظمة الاستبدادية. وهو موجود في قدر كبير من البلاغة الاستبدادية، كما تجلت في الرايخ الثالث. فكرة أن الفرد الإنساني مهم فقط لكونه أداة للعِرْق أو للشعب، وأن واجب الفرد تجاه هذه الرُّوح العظيمة والمتسامية يتفوق على المصلحة الذاتية الضيقة التي كانت منتشرة في ألمانيا الهتلرية. أوعز إلى الطلاب الألمان للحفاظ على دمائهم نَقِيّة، تجنب تمازج الأجناس. قيل لهم: إن دماءهم ليست ملكهم، بل ملك للعِرق الألماني، في الماضي والحاضر والمستقبل، ومن خلاله سيحصلون على الحياة الأبدية.
للمشاركة في الأنظمة الاستبدادية إيحاءات دينية لا لَبْس فيها. وهي تنطوي على الاستسلام لقوة أعلى والتخلي عن حدود الأنا الفردية لمصلحة النقاء. إنها تستحضر الحياة الأبدية والولادة الجديدة والفداء. وصف المؤرخ لورانس ريس الطبيعة شبه الدينية لصعود هتلر في الكاريزما المظلمة لأدولف هتلر (2012م): حشود الألمان الذين سافروا، تقريبًا كحجاج، للإشادة بهتلر في منزله في بيرشتسغادن؛ آلاف الالتماسات الشخصية المرسلة إلى هتلر في مستشارية الرايخ؛ الأيقونية الدينية الزائفة لحشود نورمبرغ؛ حقيقة أن الأطفال الألمان تعلموا أن هتلر «أُرسل من الله» وأنه «إيمانهم» و«نورهم»، كل هذا يشير إلى حقيقة أن هتلر كان يُنظر إليه على أنه أقل من سياسي عاديّ وأكثر بوصفه نبيًّا مرسلًا من الله.
إذا ما أخذنا ذلك في الحسبان، من المفيد الرجوع إلى دراسة فرويد «مستقبل وهم» (1927م). على الرغم من الاهتمام الكبير بعلم نفس الدين، فإنه من الخطأ تجاهل سياقه السياسي ومحتواه. لا يوجد يهودي في «فيينا الحمراء» في عام 1927م (وهو بالمناسبة العام الذي نُظِّم فيه أول تجمع لهتلر في نورمبرغ) لم يشعر بالقلق من تصاعد معاداة السامية السياسية. أخبر فرويد أحد المحاورين قبل أقل من عام، في عام 1926م: «لغتي هي الألمانية. ثقافتي، إنجازاتي ألمانية. كنت أرى نفسي ألمانيًّا على المستوى الفكري حتى لاحظت نمو العداء للسامية في ألمانيا والنمسا الألمانية. منذ ذلك الوقت، أفضل أن أدعو نفسي يهوديًّا».
أحد الأوهام التي أشار إليها في النص هو الرأي أن العِرْق الآري هو العرق الوحيد القادر على اجتراح الحضارة. في ذلك الوقت، كان الفضاء السياسي النمساوي مقسمًا بين الاشتراكيين المسيحيين اليمينيين (الذين مُوِّلَ قِسْمهم المسلح، Heimwehr، أو «حارس المنزل» من الفاشيين الإيطاليين) والديمقراطيين الاشتراكيين اليساريين مع وحدة مسلحة تُدعى «Schutzbund».
اندلعت التوترات بين المجموعتين في 15 يوليو 1927م، عندما نظم اليساريون مظاهرة احتجاجية ضخمة، بدأت كمحاولة لاحتلال جامعة فيينا، التي كانت على بعد دقائق قليلة فقط سيرًا على الأقدام من شقة فرويد، وبلغت ذروتها أمام قصر العدالة، على بعد قرابة 20 دقيقة سيرًا على الأقدام، حيث اقتحم الحشد المبنى وأضرموا النار فيه. فتحت الشرطة النار على المتظاهرين، وبعد ثلاث ساعات، قُتل 89 منهم وخمسة من رجال الشرطة. ذاك اليوم واليومان التاليان، عُرفوا باسم «أيام الرعب». بالنسبة للمثقفين الفيينيين مثل فرويد، كان خطر السياسات الاستبدادية قريبًا جدًّا من الوطن.
وفقًا لتقليد الفلاسفة الألمان لودفيغ فيورباخ وكارل ماركس، جادل فرويد بأن المعتقدات الدينية محض أوهام، ومع ذلك كان لديه وجهة نظر فريدة: ما يميز الأوهام من غيرها، كما يفترض، ليس مدى صحتها ولا زيفها وإنما كيف تنشأ. الأوهام هي معتقدات نتبناها لأننا نريدها أن تكون صحيحة… المعتقدات الدينية هي أمثلة فرويد الرئيسة عن الأوهام. لقد كتب أنها «تحقيق لأقدم وأقوى وأكثر أمنيات النوع البشري إلحاحًا». يكمن سر قوتها في قوة هذه الرغبات.
تتعلق الرغبات التي يقوم عليها المعتقد الديني بالتحرر من العجز البشري. يعتقد فرويد أننا بتعرفنا إلى عجزنا نعود القهقرى إلى نموذج بدئي طفولي.
يتعامل المتدينون، كما يقترح فرويد، مع شعورهم بالعجز من خلال التشبث بوهم إله قوي حامٍ يمنحهم الحياة الآخرة.
هناك روابط واضحة بين تحليل فرويد للاندفاع الديني والقوى النفسية التي تلعب دورًا في المجال السياسي. السياسة، بشكل صريح، هي استجابة لضعف الإنسان. تخترق أعمق آمالنا ومخاوفنا الساحة السياسية، وهذا يجعلنا عرضة للأوهام السياسية، التي في الأغلب يُتَشَبَّثُ بها بمثل هذا الإصرار العاطفي، والمقاوم جدًّا للمناقشة المنطقية، بحيث تتناسب مع توصيف فرويد للأوهام.
من هذا المنظور، تردد الأنظمة السياسية الاستبدادية صدى الديانات التوحيدية. القائد كالله نفسه، كُلّيّ القدرة كُلّيّ العلم كُلّيّ الوجود. تحدد كلماته آفاق الواقع. يجب الثناء عليه وإرضاؤه، ولا يمكن تحديه أبدًا. أعداؤه، تعريفًا، متحالفون مع قوى الشر.
علم نفس الدعاية
لمعالجة هذا البعد الأكثر سوداوية للذهنية الاستبدادية، أنتقل إلى عمل محلل نفسي آخر أقل شهرة، هو روجر موني كيرل. في عام 1932م، زار موني كيرل برلين لمدة وجيزة بدعوة من صديقه الدبلوماسي آرثر ينكن (الذي قُتل لاحقًا عندما زرع النازيون قنبلة موقوتة في طائرته). أخذه ينكن إلى تجمع للحزب النازي، تحدث فيه كل من جوزيف غوبلز وهتلر. كان موني كيرل مفتونًا ومنزعجًا بما رآه وسمعه، وحاول فهم ما حدث من خلال فحص الخطابات وديناميات الحشد من خلال عدسة التحليل النفسي. وكانت النتيجة مقالة بعنوان: «علم نفس الدعاية» (1941م).
في الوقت الذي زار فيه ألمانيا كان موني كيرل واقعًا بقوة تحت التأثير الفكري للمحللة النفسية الإنجليزية المجرية ميلاني كلاين. رأت كلاين أن جميع البشر تطاردهم مخاوف عميقة ومرعبة وصفتها بـ«القلق الذهاني». اعتقدت أن هذه المخاوف، واستجاباتنا لها، تقود إلى حد كبير السلوك البشري، للخير أو للشر. في التصميم الكلايني «نسبة إلى كلاين»، ثمة نوعان رئيسان من القلق الذهاني: جنون الارتياب الذهاني، وهو عبارة عن الرعب من الاضطهاد من الشر والقوى الأبدية، والقلق الاكتئابي وهو الإحساس بأن المرء مذنب لتدميره ما يُحب ويُقيّم. وصفت كلاين أيضًا ما أسمته «الهوس الدفاعي» وهو إنكار العجز والاعتماد على الآخرين عبر أوهام القوة والعظمة والاكتفاء الذاتي، ويتجسد في مواقف الانتصار والسيطرة والازدراء.
استخدم موني كيرل إطار عمل كلاين لفهم قوة الخطاب النازي. وخلص إلى أن هتلر وغوبلز تَسَبَّبَا في شيء مثل الذهان الجماعي لدى جمهورهما، وشكَّلَاه لغايات سياسية. كتب «لم تكن الخطب نفسها مؤثرة على نحو خاص. لكن الحشد كان لا ينسى. بدا أن الناس يفقدون فرديتهم تدريجيًّا ويصبحون مندمجين في وحش غير ذكي، ولكنه قوي جدًّا… كان ذلك تحت السيطرة الكاملة للشخصية الموجودة على المنصة، التي أثارت أو غيّرت مشاعرها بسهولة كما لو كانت نوتات لأُرغن عملاق».
استنباط الشعور بالعجز
أدت مراقبة هتلر وغوبلز في أثناء العمل إلى دفع موني كيرل إلى فكرة مؤداها أنه لكي تنجح الدعاية السياسية، يجب على الدعاة أن يستنبطوا شعورًا بالعجز في جمهورهم «السم» ثم يقدموا لهم حلًّا سحريًّا «المعجنات». يجعلون الجمهور مكتئبًا أولًا لدفعهم إلى الإحساس بأنهم فقدوا أو دمروا شيئًا جيدًا وقيِّمًا. ها هم جاثون على رُكَبِهم. إنهم أضحوكة. لقد خانوا المصير العظيم للشعب الألماني. يصف موني كيرل الأمر على النحو الآتي: «سمعنا لمدة عشر دقائق عن معاناة ألمانيا منذ الحرب. بدا أن الوحش ينغمس في عربدة من الشفقة على الذات».
الخطوة الثانية هي تحديد أقلية أو مجموعة من الغرباء كجناة متسببين في معاناة المرء. إنها قوى الشر تضطهدنا من الخارج أو تلتهمنا من الداخل. كتب موني كيرل: «ثم في الدقائق العشر التالية جاءت أفظع الاستنكارات ضد اليهود والاشتراكيين الديمقراطيين بوصفهم السبب الوحيد لهذه الآلام. أفسحت الشفقة على الذات مكانًا للكراهية، وبدا أن الوحش على وشك أن يصبح قاتلًا».
الخطوة الثالثة هي تقديم علاج عصابي لأهوال العجز: «الشفقة والكراهية لم يكونا كافيين. كان من الضروري أيضًا طرد الخوف… لذلك تحول المتحدثون من اللوم إلى الثناء على الذات. منذ بداياته الأولى نما الحزب على نحو لا يُقهَر. شعر كل مستمع بجزء من قدرته المطلقة «أي الحزب» داخل نفسه. أُحِيلَ إلى ذُهان جديد. الكآبة المتولدة تطورت إلى بارانويا «جنون الارتياب»، والبارانويا إلى «جنون العظمة».
كان تصعيد هذه المرحلة الهوسية الأخيرة من أداء هتلر نداءً من أجل الوحدة، التي اعتقد موني كيرل أنها حاسمة من أجل نجاح الدعاية الاستبدادية؛ لأنه «إن لم يكن لديه سوى الصواعق فبالكاد كان سيبقى الإله الذي هو عليه». مُختبرًا هذا الوتر القوي والإيجابي في الختام، وعد هتلر بالجنة على الأرض؛ لكن هذه الجنة كانت فقط للألمان الحقيقيين والنازيين الحقيقيين. جميع من في الخارج ظلوا مُضطهدين ومن ثم موضوعًا للكراهية.
على الرغم من أنه مستوحى من ملاحظاته على الخطاب النازي، فإن موني كيرل لم يقصد أن تحليله ينطبق فقط على النازيين. في المدة التي سبقت الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016م، حضرت الصحفية جوين جيلفورد العديد من تجمعات دونالد ترمب، ودوَّنَت ملاحظات من مراقبتها لاختبار أطروحة موني كيرل. كتبت في مقال رائع نُشر في المجلة الإلكترونية كوارتز: «ثمة مجموعة كبيرة من الملاحظات التي كتبتها في الأسفل والتي تعكس مسيرات ترمب. تناسب كل فقرة تقريبًا تسلسل موني كيرل».
سواء كان التشخيص التحليلي النفسي لجاذبية هؤلاء القادة صحيحًا أم لا، فثمة حاجة إلى بعض مثل هذا التحليل للمنابع النفسية للتوق إلى القادة الاستبداديين. فهم جاذبية الأوهام الاستبدادية يمكن أن يُساعد في تحصيننا ضدها، ومن ثَمّ تجنب الوقوع مرة أخرى في الهاوية.
المصدر: https://aeon.co/essays/the-omnipotent-victim-how-tyrants-work-up-a-crowds-devotion