بواسطة مصطفى العطار - كاتب مغربي | مايو 1, 2022 | مقالات
لقد سعى كيركغارد في فلسفته الإشراقية إلى نحت تجربة دينية متفردة، تدين بالولاء للنفس في غورها المطلق الذي يحتفي بإرادة الذات واختيارها وقدرتها على اكتشاف الحقيقة الإيمانية، التي لا تدرك بإعمال مفهوم التاريخ أو العقل؛ بل على تفسير الوجود تفسيرًا مختلفًا عن التنميطات اللاهوتية التي زعمت تملك الحقيقة داخل تقاليدها الكنسية، وأفرغت الإيمان من حقيقته الذاتية؛ فالإيمان الحقيقي داخلي لا جواني، ذاتي لا موضوعي؛ يتحقق خارج الأنساق التصورية المجتثة من الواقع والمرتبطة بالتوقع.
إنها عملية لاستعادة الذات من الأنساق التي نحتتها وفق قالب جامد، وهي إجراء لإخراج الكينونة الجوانية من هشاشتها، واسترجاع لسلطة الحماسة التي تقود إلى الإيمان الحق؛ فالإيمان لا يمكننا تذوق حلاوته إلا من الداخل. أما محاولة التفسير التي تركن لما هو خارج نسق الذات، فتؤول، لا شك، إلى الفشل في إدراك حقيقة الإيمان؛ ومن ثم العجز عن ترميم الذات وإشباع حاجتها الروحية، وإخراجها من وعيها الشقي. فهل يمكن للإيمان بوصفه تجربة ذاتية أن يصمد أمام أشراط النسق الاعتقادي السائد؟ وهل يمكن للقلق والتعاسة أن يقودا إلى الطمأنينة التي هي غاية الإيمان؟
إن انكماش كيركغارد داخل الذات أفضى به إلى البحث عن المطلق الثاوي فيها، والتماس أنواره من القلق الوجودي الذي يقوده إلى العذاب الأبدي؛ لأنه يتصور الإيمان صراعًا مع المطلق، ويعد الدين مرتعًا للمأساة الداخلية التي تستوجب الصبر والمكابدة لمواجهة الخطيئة بالإصرار والتحدي؛ لا للتخفيف من الألم الداخلي، ولا لالتماس السعادة، ولكن لتأبيد الانهمام واللايقين في علاقة الإنسان بربه؛ إذ كلما كان المؤمن منشغلًا بتعاسته الأنطولوجية المتولدة عن فقدان اليقين، كان ثمة إيمان صادق نابع من المغايرة الموجودة بين المتناهي واللامتناهي. هذه المغايرة تحركها الخطيئة والشعور بالذنب اللذين تتحقق معهما التضحية؛ لأن الفداء لا يكون حقيقيًّا إلا إذا كان نابعًا من الذات الممزقة في ألمها المتجدد، وفي وعيها بأن السعادة تكمن في التعاسة، والبرء من الألم يتبدى في الألم ذاته. كل شيء يقوم على اللعب على المفارقات الغريبة؛ فكلما ضحى المرء بكل شيء ظفر بكل شيء، وكان فردًا منفردًا لا تتحكم فيه العواطف والأهواء. ولقد ضحى كيركغارد بحبه لروجينا ليبرهن على قوة إيمانه الداخلي القائم على عبادة الألم واليقين في الحب الروحي الذي يتسامى على كل ما هو مادي، ويفرّد صاحبه حتى يتجاوز صفة العادي المبتذل.
المحبة المطلقة، بين التضحية والتهكم
يعد كيركغارد المحبة الفانية لحظية آنية، بينما يعتبر المحبة المطلقة سرمدية أبدية. وما كان لهذه المحبة أن ترقى إلى هذا المستوى النوراني إلا بتخلصها من الذات المغرقة في أنانيتها، وتجملها بالتضحية من أجل الإحساس الحقيقي بلذة الحب الصوفي الذي ينكر النفس ويجردها من لذاتها الحسية ليرفعها إلى مراقي الحقيقة التي تكون فيها الذات صافية شفافة، ليتسنى لها الغوص في كنه الوجود وتذوق حقيقة الإيمان بصفتها غاية الغايات ومناط التفكير.
سورن كيركغارد
إن تشتيت النظر الواحد وتشظية التفكير في متاهات خارجية يفقد الذات شفافيتها المطلقة، ويجردها من تركيزها الباطني الذي يخول لها الانطلاق لإدراك المطلق إدراكًا يقينيًّا ينكشف معه حجاب الوجود، فتتراءى حقيقة الذات. دين الحب هذا دين للمفارقة؛ حيث تهب الذات نفسها للمطلق دون قيد أو شرط، وتحدث تلك المفارقة الفريدة مع العالم في صورته المعقولية؛ أن تحب ولا تحب، وترغب ولا ترغب، وتتوق ولا تتوق؛ تخرج من سلطان الحب الأرضي لتعود إليه في صبغته الروحية.
لقد امتزجت هذه العناصر كلها لتعمل على تشكيل شخصية قدرها القلق الوجودي والاغتراب الذاتي، ومصيرها الحتمي هو تسليم النفس للنداء الداخلي ذي الجاذبية الأقوى، وفي ذاك الاستسلام تكمن الرغبة في ملامسة المطلق المفقود في العالم الخارجي والمكنون في العالم الجواني، المطلق الذي لن يكون مستقره ومثواه الأبدي؛ وإنما هي تجربة تتجاوز هذا المفهوم ليعود إلى الذات بأنوار الإيمان، التي ستكشف له حقيقة الوجود ومعنى الأنا والأنت. ولكن السعادة الآتية من اللامتناهي تقتضي ضرورة الاحتفاء بالألم وتمجيد القلق بوصفه القائد إلى إدراك حلاوة الإيمان وحقيقة الصلة بالله، والوصول إلى اللامتناهي بالمتناهي.
يقول في «اليوميات»: «الطريق الذي علينا أن نسير فيه: أن نعبر جسر التنهدات حتى نصل إلى الأبدية.. فالطريق إلى الله مليء بالأشواك والعذاب والدموع. وبمقدار تحملك للآلام، تكون علاقتك بالله.. إنني آمل بفضل العذاب الذي أتحمله بصبر أن أكون شوكة في جنب هذا العالم»(١). إن الوصول إلى الأبدية دونه الشقاء والعذاب والصبر على الآلام لاستحقاق العلاقة بالحقيقة المتعالية، التي تتحقق بالكشف والإغراق في الاستبطان وأعمال المحبة. وفي هذه المجاهدة التي لا يقدر عليها العامة تكمن حقيقة الإيمان التي تنبع من الداخل؛ أي من كوامن النفس التي استبدت بها الحرقة واللهفة لملامسة الحقيقة، وهي المشاعر المنهكة للجسم والمفنية للطاقة؛ إذ في تلك الحركة والاضطراب ثمة صراع في عمق اللاشعور حول ماهية الإنسان في عالم يضيق بالإنسان ولا يعترف بوجوده الحقيقي؛ لتنطلق محاولة البحث عن الحرية لاسترداد هذا الوجود المسلوب.
تقاطع الإيمان والتجربة الذاتية
ولما كانت دراستنا تنحو نحو محاولة البحث عن التقاطع بين الإيمان والتجربة الذاتية، كان مذهب كيركغارد في نفي الذات وإثباتها يحيل على مذهب صوفي يطلق عليه (الملامتية)(٢)، يقوم على إذلال النفس والانتقاص من شأنها والإمعان في اتهامها بالخطيئة، تضحية وإيثارًا وإخلاصًا في العبادة، مع إنكار كل ما يمكن أن يدل ظاهرًا على أحوال النفس، تجنبًا للرياء وتحاشيًا للإعلان عن هذه الحال. هذا هو الوجود الحقيقي الذي يكون فيه كيركغارد متصلًا بالحق وحده اتصالًا جوانيًّا لا مظاهر فيه للرياء؛ وإنما تقوده المحبة الخالصة لله، بعيدًا من التلهية التي من شأنها تشتيت هذه المحبة والتأثير فيها.
ولقد كان كيركغارد (ملامتيًّا) عندما اختار التخلي عن روجينا استجلابًا للوم الناس وتعرضًا لأذيتهم، وتذليلًا للنفس، وحرمانها مما تألفه وتسكن إليه، حتى لا ينكشف السر اللدني الذي حظي به من السماء، واحتفظ به لنفسه لغزًا من ألغاز الفرد المتفرد، وحتى يجسد بحق معنى التضحية في صورتها الإبراهيمية العميقة؛ إذ يكفيه الإيمان وحده، ولا يحب أن يطلع أحد على أعماله. لذلك؛ يستوي عنده المدح والذم، وقد يبدي الشر للناس ويضمر الخير الذي هو الأصل في الروح المتصلة بالله دون واسطة، المنفصلة عن اللاهوت، الشاهدة على نزاع العقل والإيمان بين فلسفة عقلية تنتزع الإنسان من هويته وبين فلسفة وجودية تعلي من شأن الذات.
القلق الوجودي أو لاهوت الخطيئة
يعدّ القلق أكبر المشاعر الإنسانية في المجال التداولي الوجودي؛ حيث إنه مفهوم تعاور مختلف مؤلفات كيركغارد، وأفرد له كتابًا خاصًّا موسومًا بـ«مفهوم القلق»؛ «فالقلق مقولة وجودية، وهو الشعور الأساسي للوجود في العالم، ينبثق من شعور الآنية أنها ملقاة هناك في العالم، ومرغمة على الاختيار، ويفترض وجود خطر يتهددنا، ويكشف الموجود لذاته، ويعرض عليه (أنا) ليحققها، ويضع الإنسان وجهًا لوجه أمام نفسه باعتباره لم يوجد بعد، وإنما سيوجد بواسطة الاختيار، والاختيار حرية ومخاطرة»(٣).
إنه إحساس بالفقد وصدمة الميلاد، وشعور باللاتوافق مع مجتمع غريب، لا معنى له وعديم الجدوى، واستسلام للشك وانفصال عن كل شيء، وخوف من حتمية الموت الذي لا نعرف وقت تنفيذه. ومن ثم؛ يكون القلق عند كيركغارد متساوقًا مع الرغبة في المخاطرة ومواجهة العدم المهدد للحضور الوجودي، والتخلص من الخمول الذي لا يتوافق عادة مع القلق، كما ربط كيركغارد هذا المفهوم بلاهوت الخطيئة وبالضعف والتحديث(٤).
إن القلق الوجودي وسيلة لتحقيق الحرية وتوسيع دائرة الجدل، لا في شكلها الهيغلي المجرد؛ ولكن في صورتها الذاتية الوجدانية؛ أي القلق الأنطولوجي الذي مردّه إلى بنية الذات وتكوينها اللامتجانس والمركب من الأضداد، من المتناهي واللامتناهي، من الحرية والضرورة، كما أن الوجود الإنساني هو قبل كل شيء وجود في الزمن؛ لأن الإنسان يولد ويعيش مدة، ثم يموت. ولكي يصل إلى الديمومة، عليه أن يربط علاقة بالدائم (الله). وعندما يختار الإنسان ذاته، فإنه يختار موقفه تجاه الله؛ فإما أن يُقبل عليه، وإما أن يُعرض عنه. وفي خضم الصراع والتدافع بين الأضداد أو الاختيارات المرتبطة بالموقف من الله، ينشأ القلق الأنطولوجي بين الزماني (المتناهي) والأبدي (الله)(٥).
إنه حوار مع الذات في تناقضاتها وتأملاتها، وفيما يختلج فيها من مشاعر متوترة وأحاسيس قلقة، وفي صراع الجسد العليل العاجز مع الروح النزقة المتوثبة؛ لأن الجسد المقيد بكل أنواع الإعاقة المادية والنفسية لا يسع تلك الروح المنطلقة وذاك الخيال الجامح الذي يتجاوز به نطاق الحيز البدني. وفي ظل هذا التناقض بين المتناهي واللامتناهي، تتعزز الآلام ويتفاقم القلق في التركيبة الإنسانية المشكلة من الجسد والروح، والحس والعقل؛ مما ينسجم وخصائص العبقرية التي تحتاج إلى قدح زناد تلك الجذوة الخامدة في الذات لتتوهج من جديد، وتنفث شرارتها لتكشف عن الإنسان الحقيقي فينا، وتفضح كل مظاهر الزيف والخداع التي تتسيد المجتمع بأطيافه وتلاوينه؛ «فلم يعد هناك شيء اسمه الفرد المتميز، وإنما هناك الشخصية المهلهلة غير المستقرة التي يسهل أن تسير مع القطيع فتحكم فيها الطغاة الذين هم الجماهير مرة، والكنيسة مرة أخرى، والمنظرون من الفلاسفة الهيغليين… فأمامنا، إذن، معارك هائلة سوف نخوض فيها صراعًا حتى الموت»(٦).
تبنى الذات وتتخلق تبعًا لعلاقتها بالقلق الذي هو ترجمة للوعي بالحاضر وإمكان مواجهة المستقبل بكل تحرر واندفاع نحو أفقه الأرحب. وفي مقابل ذلك؛ فراغ الذات من القلق يعني اللاوعي الذي ينفلت منه الحاضر، وينتفي فيه المستقبل بانتفاء فكرة الحرية التي يغذيها القلق. وفي هذا الحضور والانتفاء لمسألة القلق توليد لثنائية الوجود والعدم؛ أن توجد، يعني أن تكون قلقًا، وأن تحيا العدم، معناه أن تعيش بلا قلق. القلق خصيصة إنسانية ومنهج حياة يوجه مسارات الواقع الوجهة السوية ويجعلها متحررة من قيود المادة، «القلق، إذن، هو أساسًا قلق الروح. ومن ثم؛ إذا قل وجود الروح، قل وجود القلق، وإذا غاب وجود الروح؛ (أي الحرية) انعدم وجود القلق، كما هو الحال في الحيوانات»(٧).
هكذا تصبح الروح معادلًا موضوعيًّا لفكرة الحرية عند كيركغارد، ويصبح حضورها أو غيابها مؤشرًا على النزعة الإنسانية التي تقابلها النزعة الحيوانية. ولا شك أن الإنسانية نزعة لاحقة على الميلاد؛ لأن الإنسان لا يولد إنسانًا، أو أنه يولد من دون وعي، ولكنه يسعى إلى تشكيل وعيه الأخلاقي الذي ينماز به عن الوعي البيولوجي، بما يشبه التعالي أو العبور إلى الوعي الديني؛ ليكون السؤال الذي حاول كيركغارد الإجابة عنه معيدًا من خلاله التصور الهيغلي حول النشاط العقلي الذي ينتج الوعي الذاتي: كيف يمكن للإنسان أن يتحول إلى ذات أصيلة؟ بمعنى: كيف يمكن للإنسان أن يصل إلى حالة الوعي التي يسقط فيها التعارض
بين الذاتي والموضوعي؟
التجاذب بين النهائي واللانهائي
ولئن كان هيغل قد تحدث عن الوجود في كليته، فإن كيركغارد ركز على الوجود الفردي للذات، مع عدم إغفاله الخلفية الهيغلية في تفسيره، كما اقترح علاجًا روحيًّا لانتشال الذات من يأسها وقلقها، بإغماسها في اليأس من جديد؛ وهو ما يعبر عنه بالمرض حتى الموت(8). فالذات عند كيركغارد تتشكل أنطولوجيًّا من مركب المتناهي واللامتناهي، ومن النفس والجسد، ومن الواقع والمثال، ومن الضرورة والإمكان، ومن الزماني والأزلي(9).
وسنركز، ههنا، على المركب بين المتناهي واللامتناهي؛ فالأول يبين أن الذات محدودة وقائعيًّا، وهو المعطى القبلي الذي تأتي به إلى الوجود. ونقصد بالوقائعية، وفق تعبير كيركغارد، الجانب العيني للذات بما هي جسد، وجنس، وصفات وراثية، وذكاء، ولون، ومزاج، ومواهب وقدرات، والبيئة الثقافية والسياسية والاجتماعية التي يمكن أن توجد فيها الذات. والذات، طبقًا لهذه العوامل، تجد نفسها منغمسة -اضطرارًا لا اختيارًا- في هذه المتغيرات التي تشكل وجودها وتتحكم فيها، وتحتم عليها الامتثال لشروط الطبيعة المادية. أما الجزء الثاني من التركيبة هو (اللامتناهي)؛ ويعني به كيركغارد قدرة الذات على التمدد والاتساع عن طريق الخيال الذي يحلق بها في مديات ممتدة. ولإدراك اللامتناهي يتعين على الفرد المتدين أن يعيش حالة مستمرة من التعب والمشقة والجهد الجهيد حتى يصل إلى المطلق ويحيا شغف اللانهائي(١٠)، تاركًا الجزئي لصالح الكلي. وفقا لهذا التركيب؛ يكون الفرد تجاذبًا بين النهائي الذي تمثله المادة قبل المرحلة الدينية، واللانهائي الذي يعكسه المطلق. وبلوغ هذه المرتبة، يعني أن يكون الفرد وجهًا لوجه أمام الله. نستنتج مما سبق؛ أن التخلص من الخطيئة وتجسيد الإيمان مدارهما على القلق والخوف. تلكم صوفية وجودية، أو وجودية إيمانية أعادت للذات الجوانية مثلها الحقيقية التي كانت قد تخطفتها الحياة البرانية، وارتقت بالإنسان إلى المستوى الأخلاقي المرغوب؛ فالإنسان يولد بلا وعي بشري قبل أن يعمل على استعادته بالإيمان والانفصال عن الطبيعة الحسية في نظر كيركغارد؛ ولكن ما جدوى الإيمان إذا كان يورث في صاحبه تعاسة وقلقًا دائمين؟ وهو ما يتعارض مع جوهر الإيمان في القرآن الكريم الذي هو تحقيق الطمأنينة. يقول الله تعالى: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} الجن/13. فما قيمة الإيمان إذا كان سيغرق صاحبه في مستنقع التعاسة الأبدية.
هوامش:
(١) كيركغارد، أعمال المحبة، ضمن كتاب، نصوص مختارة من التراث الصوفي، ص 29.
(٢) ظهرت في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري بمدينة نيسابور بخراسان، فرقة من فرق الصوفية أطلق عليها الملامتية أو الملامية، أسسها رجال من أصدق رجال الطريق في ذلك القرن الذي امتاز في تاريخ التصوف الإسلامي بالورع والتقوى الحقيقيين، كما امتاز بقوة العاطفة الدينية وجهاد النفس العنيف ومحاربتها ومحاسبتها على كل ما فرط منها وما يحتمل أن يفرط منها… مسلك الملامتية مسلك عملي من أوله إلى آخره، ومجموعة من الآداب يقصد بها إلى مجاهدة النفس ورياضتها مجاهدة ورياضة تؤديان بالسالك إلى إنكار الذات ومحو علائم الغرور الإنساني، وإطفاء جذوة الرياء في القلب، أكثر من تأديتهما إلى أحوال الجذب والمحو والفناء… من مقدمة كتاب: الملامتية والصوفية وأهل الفتوة، أبو العلا عفيفي، منشورات الجمل بيروت-بغداد، ط 2015م، ص 5.
(٣) الحفني عبدالمنعم، المعجم الفلسفي، الدار الشرقية، مصر، ط 1، 1990م، ص 264.
(4) Kierkegaard Soren، Traité du désespoir, Traduit du Danoit par Knud Perlov et Jean-J.Gateau, La maladie mortelle. P 68 “Le péché est ainsi faiblesse ou défi, portés à la supreme puissance, le péché est donc un condenstation déssepoir”.
(٥) حنفي محمود علي، جدل العقل والوجود، دراسة في فلسفة هيغل وكيركغور، تقديم علي عبدالمعطي محمد، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1985م، ص 360.
(٦) إمام عبدالفتاح معين، كيركغارد رائد الوجودية، ص 153.
(٧) إمام عبدالفتاح إمام، كيركغارد رائد الوجودية، الجزء الثاني (فلسفته)، ص 347.
(8) Kierkegaard (1941), The sikness unto the death, Princeton University Press, Princeton, New Jersey, p 2.
(9) Ibid, “Man is a synthesis of the infinite and the finite, of the temporal and the iternal, of freedom and necessity, in short this is a synthesis. A synthesis is a relation between two factors” p 9.
(١٠) للتوسع في مفهوم الوجود البشري الحقيقي المركب من المتناهي واللامتناهي؛ ينظر: إمام عبدالفتاح إمام، كيركغارد رائد الوجودية (فلسفته)، مرجع سابق، ص 85 وما بعدها.
وينظر أيضًا: Kierkegaard, The sickness unto death, p 68.
بواسطة مصطفى العطار - كاتب مغربي | نوفمبر 1, 2020 | مقالات
بعد قرون من الزمن لا يزال صوت النفري الرؤيوي صداحًا، ولا تزال إشراقاته التأملية العميقة حاضرة بطيفها في كتابات شذرية جديدة تحتفي بغموض أصحابها؛ كحال كتاب: «اللاطمأنينة» لفِرناندو بيسوا، هذا المؤلف الذي هو عبارة عن مخطوط تتناثر فيه الشذرات من دون أن تخضع لتسلسل منهجي يسهم في رتق المعنى المتفلت. وبعد ردح من الزمن ستظهر للقارئ ترجمات مختلفة، تجتهد في إعادة إخراج هذا المخطوط في حلة جديدة تربط بين هذه الشذرات شكلًا ومضمونًا، كما تكمل البياضات التي تؤثثها ببعض المعاني التي قد لا تلامس عمق الفكرة وتوقد البصيرة عند مؤلفها. فالقارئ لكتابات بيسوا أشبه بمتلقي النفري؛ لأن كليهما يحفر بعمق قبل استقطار الفكرة؛ ليكون محصلة ذلك توهم المعنى الذي يضيق مجراه كلما اتسعت الرؤية.
يؤمن بيسوا بدين العزلة، ويشكك في كل شيء… فكان التفكير والإحساس في ظل هذا الواقع المأساوي خارجًا عن أشراط المنطق، وكان اللاتفكير هو القائد نحو الانحدار إلى عوالم السواد والاندحار إلى حيث الخواء. مدح الخواء هو اعتراف باللامعنى، وانعكاس للنفس المشروخة التي اتخذت لها أندادًا أو أشباه أنداد؛ هو مسار معوج نحو اللاكون حيث يقبع الهباء الذي يجعل من الإنسان غير قابل للتجسد. أما النور الذي ينبجس من باطن هذا الهباء ليضيء الكون بومضة خاطفة ليس سوى سواد لم يستطع الكشف عن السماء التي يقبع العالم تحت سديمها.
لا أحدية بيسوا في هذا الفراغ المنذور للهاوية جعلت منه كائنًا فاقدًا للإحساس وغير قادر على معرفة كيف السبيل إلى التفكير بلغة المنطق. وشتان بين فراغ يقود إلى الهاوية ولا يعرف صاحبه كيف ينفلت من كونه المجوف ليلامس شخصيته الهاربة من ذاتها، وبين فراغ النفري الذي أوقفه على تخوم العالم النوراني، فارتوى بالحق حتى امتلأ، وعرج منه مشبعًا بروح مؤمنة ليصبح فارغًا من الكون على حد تعبير ابن عربي. جاء في «موقف الكشف والبهوت»: «وقال لي: عبدي، كل عبدي، هو الفارغ من كل شيء. فإذا آتيته من كل شيء أخذ إليه باليد التي أمرته أن يأخذ بها ورد إلي باليد التي أمرته أن يرد»(١). الفراغ من كل شيء هو المؤذن بالمجاورة، وهو جهل محمود لا مكان فيه للعلم والمعرفة والإحساس. لكن العبد الفارغ، سيتحول إلى العبد الحاوي عندما يقيم في رحاب الوقفة، لتتلاشى الضدية من جديد؛ فراغ قبل الوقفة، وامتلاء بعدها. الفارغ من كل شي هو مالك لكل شيء؛ لأن مساحة الفراغ في تجاويف الروح ستمتلئ بكل شيء فضلًا من الله ومنة منه لجليسه.
هذا الاستحقاق هو ما يعدمه بيسوا؛ لأن فراغه من الإحساس والمعرفة المنطقية ينطوي على ديمومة وتأبيد للسقوط حيث لا نهوض لإكمال المسير والبحث عن الأنا أو عن ذلك الأحد الذي انفلت من ذاته، فجعلها فارغة من القوة التي تسمح لها بإكمال المغامرة، من الإحساس بكونه جوهرًا مفردًا لا يقبل التجزيء، ومن الشعور بأنه مركز العالم وكل الكون؛ لكنه يستفيق من حلمه مدركًا أنه لن يكون كذلك، وأن الفداحة تكمن في هذا الانتهاك لقدرة الله. يقول في «يبقى الحلم»: «فادح جدًّا هذا الانتهاك المقترف ضد الله. فادح جدًّا هذا الانتهاك لقدرة الله في أن أكون الكل. يا للمتعة التي ستتيح لي خلق يسوعية خاصة بالإحساسات!»(٢). اكتشاف جسامة الجرم المرتكب في حق قدرة الله المستأثر بالكلية، هو تعطيل للحلم وللروح الكاملة، وشعور بالهم والغم والعجز عن تحويل الحلم إلى حقيقة لرؤية الذات بوضوح، هذه الذات التي تهدمت وفسحت المجال لشخصيات أخرى لتواصل التشبث بالأحلام بعد أن صار صاحب الحلم فارغًا من لذة الحلم. يبقى الحلم شيئًا لا معقولًا ولا شيء متحققًا عند بيسوا. لنستنتج مما سبق؛ أن فراغ النفري قوة وامتلاء وتجدد، وفراغ بيسوا ضعف وهباء وتشتت: «الحياة خاوية، الروح خاوية، العالم خاوٍ. كل الآلهة يموتون بموت أكبر من الموت. الكل فارغ أكثر من الفراغ ذاته. الكل عبارة عن عماء اللاشيء»(٣). لعل هذه العبارة تفسر فلسفة بيسوا في الحياة بما هي مديح للخواء المستبد بكل شيء، حتى بالآلهة؛ فاللاشيء عماء مخيم على الوجود، والسواد هو الحقيقة المطلقة التي تحمل معنى. ومن هذا السواد ندرك الفرق بين الرؤية المتحققة والحلم الزائف؛ الأول ظفر بالكل حتى صار معنى الكون كله، وفق تعبيره، والثاني لم يكن كله سوى حلم تهاوى فوق صخرة الواقع البئيس، ضيع معه الذات والعالم معًا، وصار يحيا قلقًا ميتافيزيقيًّا متنكرًا، وخيبة أمل كبيرة مجهولة، وتفكيرًا بدون تفكير، مفطورًا على الضجر في وضع روحي بين بين، تنعدم فيه الرغبة في الحياة وفي غيرها، ويعاني بدون معاناة -على حد تعبيره- كما لو كان ممسوسًا من شيطان سلبي، أو مسحورًا من لا شيء(٤).
قيمة الحرية في مخيال بيسوا
ولما فشل بيسوا في تحقيق تفرده الذي بقي قابعًا في الحلم، ولم يستطع أن يتشكل معه موقف أخلاقي يعترف بحقوقه خارج أشراط المجتمع؛ كانت النتيجة الحتمية لذلك، فقدان الفردانية أيضًا بوصفها نزعة تتساوق مع فكرة الحرية، وترفض الإكراه القسري الذي تفرضه إلزامات النسق الاجتماعي السائد. يفرض هذا الحاصل التساؤل حول قيمة الحرية في مخيال بيسوا؛ تلك القيمة الوهمية التي اعتقد أنها كانت حليفة لشخصيته التواقة إلى الانعتاق من المؤسسة الاجتماعية، قبل أن يكتشف أن فلسفته الأخلاقية لم يكن بمقدورها الانفلات من إكراهات الآخر الذي تغشاه حتى في عزلته الوجودية إلى حد الذوبان. الفراغ الروحي المطلق كان من الممكن أن يتحول امتلاءً إذا وجهه اتصال بين الأنا والحق المطلق؛ كاتصال النفري بالله اتصالًا روحيًّا. لكن بيسوا لم يكن فرديًّا تحقق معه مفهوم الإنسان الأعلى، ولا جماعيًّا تشرب القيم الأخلاقية في اللاوعي الجمعي؛ وإنما كان فوضويًّا عبثيًّا؛ لكونه بقي غارقًا في بركة اللاطمانينة الآسِنة التي غابت عنها المحبة الإلهية.
هذه الوجودية المؤمنة هي ما آمن به نيقولاي بيرديائيف(٥)، الذي دعا إلى إثبات شخصية الأنا وإقرار تفردها عبر الخوض الروحي في اجتراح قيم إنسانية قدسية من شأنها إنقاذ المجتمع، والتخلي عن الاغتراب السلبي والانكفاء على الذات وتمجيد نزعة التيئيس، مع خلق نوع من التوازن بين الإنسي والإلهي؛ أي بين الأنثروبولوجي والثيولوجي، وهو جوهر التجربة الدينية التي تحتفي بالحقيقة الإلهية لإنقاذ الإنسان من ذئبيته وإعادة النظر في الإيتيقا التي سترد للإنسان ما سلب منه من حرية وخير من جهة، وتطلق العنان لطاقته الإبداعية لاستنبات قيم جديدة يسهم بها في صياغة الوعي الجمعي صياغة تتقوَّم بالفضيلة والعدل والحق والخير والجمال، من أجل تخليق الحياة العامة والتصالح مع إلزاماتها، وربط الوعي الذاتي للأنا بالمجموع، وتحقيق الإنسان الإلهي الذي نادت به الروحية المسيحية.
غير أن هذه الرؤية الصوفية التي أقر بها بيرديائيف توازيها رؤية صوفية مغايرة، تمتح من العدم وترى أن «غياب الله، هو الله بحد ذاته… لا أومن بالله لأني لم أره أبدًا…تؤرقني فكرة أن الحقيقة، ربما هي في الواقع، في التيوصوفية… ألا يكون هناك رب، فهذا رب بدوره»(٦). فكيف يمكن لبيسوا أن ينتصر على عزلته إذا كان فارغًا من الله، ممتلئًا بصوفية عدمية وبنزعة إشراقية خاصة لا تتحد بالرب، كما هو في العقيدة المسيحية؟ إن غياب الاتصال الروحي هو بمنزلة عملية طرد من الوجود المقدس القائم على قيم الأُخُوَّة والغيرية. وهذا الاتصال معناه اتحاد الأنا في الأنا الأخرى، أو في المجموع؛ وهو ما لم يكن متجليًّا في نظرة بيسوا إلى الإنسان والوجود؛ تلك النظرة المبنية على الازدراء والإفراغ من المعنى، والمتأسسة على الانفصال بدل الاتصال.
وفي هذا النطاق؛ تندثر القيم الإنسانية الداعية إلى المحبة والاعتراف بالآخر، وتنمحي صورة الإنسان الجمعي المنسجم وتعوضها صورة الإنسان الفرد الذي يجعل المحبة عبئًا ثقيلًا على القلب المتوحد؛ «أن تبقى وحيدا؛ يعني أن تبقى طاهرًا وصادقًا في رُوحك. الإنسان- هذا الكائن الجماعي- كائن فاسد»(٧). إعادة تشكيل مفاهيم الوحدة والطهر والصدق، مسعى يتغيّا منه، بيسوا، تحصين وحدته من فساد الجمع. وهي تعميق للسؤال الإشكالي: من أين تستمد القيم؟ مصدر القيم عند بيسوا مسترفد من الذات الواحدية التي تتسم بالطهر والصدق ما لم يدنسها الآخر. لكن جدلية الأنا والأنت لا يمكن أن نعدمها من شخصيته الإنسانية المعقدة في تكوينها النفسي والأخلاقي. ثم إن الطهارة الروحية لا تُحَصَّل إلا بالمحبة، والقلب الناقم على الأغيار، لا شك، أنه قلب فارغ من المحبة التي تكسب صاحبها الطمأنينة، ومجوف من الحرية التي تسمح له بالانطلاق نحو الأفق الرحيب، ومقيد بالحلم الكاذب الذي لا بديل منه سوى الموت. ولتجاوز هذا الخوف الغريزي من الموت، يستسلم بيسوا للحلم متخذًا إياه إلهًا يدين له بالعبودية والاعتراف بقدرته على الخلاص.
ورغم هذا الاستغراق في الفردانية التي تنكر فيها بيسوا للاوعيه الجمعي؛ إذ يقول: «علينا الانطلاق من الكائن الفرد دائمًا، حتى وإن توجب أن نهجره فيما بعد»(٨)؛ هناك إقرار بالانتماء إلى الوطن اللغوي (البرتغالية)، هذا الحيز الكبير الذي يرافقه شعور عالٍ بالوجود في أحضانه خارج هواجس السياسة والاجتماع الإنساني. (وطني هو اللغة البرتغالية) تصور عميق يختزن في طياته فلسفة هايدغر ومنظوره للكينونة والوجود؛ إذ يقول: «إن الكلام ينبغي أيضًا أن تكون له من حيث ماهيته طريقة كينونة متصلة بالعالم على نحو مخصوص. إن مفهومية الكينونة –في العالم- وفق وجدانٍ ما إنما تفصح عن نفسها من حيث هي كلام»(٩). فاللغة هي مأوى الوجود، والكلام كينونة محايثة للعالم، وتعبير بيسوا عن الكينونة يتم عبر اللغة. وعليه؛ تكون حدود لغته هي بمنزلة حدود عالمه -كما عبَّر عن ذلك الفيلسوف اللغوي فتغنشتاين في مرحلته المبكرة- ذلك أن أغلبية القضايا والأسئلة الفلسفية إنما تنشأ عن سوء فهم منطق اللغة. ومن المرجح أن يكون بيسوا تأثر بمقولات فتغنشتاين في (رسالته المنطقية الفلسفية) بأسلوبها التجريدي الصارم.
يتعاظم جنون الارتياب في نفسية بيسوا ليزيد الشعور بالإنهاك أو الوهن النفسي؛ هو حال من الاحتراق النفسي التي يعبر عنها في علم النفس بالنوراستانيا(١٠)؛ التي هي فتور وفراغ وانخفاض في الأداء الوظيفي للعقل. ولعل السبب في هذه الحالة العصابية كامن في الضغط النفسي الرهيب الذي يستبد بالإنسان، وما يصاحبه من شعور بالقلق والخوف وانعدام حال الإشباع النفسي والروحي والجنسي والعاطفي؛ وهو ما ينجر عنه توقف القدرة على المواجهة والتوافق الاجتماعي: «أشعر بتعب شديد؛ لأنني وجدت بأنني لم أجد شيئًا… الحياة، تعب حقًّا!»(١١).
تأبيد التفكير في استعادة الآخر
إنه اغتراب مشوب بالقسوة والرغبة في قتل هذا الخواء المفرد جناحيه على كل شيء. يقول بيسوا، وقد أرهقه التفكير في صناعة عالم للآخر يختلف عما هو محيط به: «لم تفارق مخيلتي أبدًا هذه الرغبة في أن أدع عالمًا آخر يحيا حولي ويشبه هذا العالم الذي نعيش فيه، لكنه عالم مأهول بأناس آخرين»(١٢). تأبيد التفكير في استعادة الآخر استعادة تتوافق مع الصورة المثالية التي نحتها في مخيلته، يزيد من تجذير الهشاشة النفسية التي يغذيها النهم في تملك كل شيء على حساب كل شيء؛ مما يسقط بيسوا في نوع من الاكتئاب العصابي الذي يرفده الشعور بالذنب ورؤية الأحلام الكبيرة تسقط صريعة في واقع مغاير تمامًا لما هو منشود. عالم بيسوا عالم فارغ وإن امتلأ؛ لأن الذي يحيا فيه أشباح بلا ملامح أو هوية تتماهى مع ما رسمته الأحلام الوردية من كائنات فوقية. ولكنه يعترف بوجود عالم آخر يستوطنه أفراد روحانيون، يتقربون إلى عالم أسمى؛ «أومن بوجود عوالم أعلى من عالمنا يسكنها أناس، يحيون بمستويات مختلفة من الروحانية، يرتقون فيها لغاية كائن أسمى، يبدو فعلًا أنه خلق هذا العالم»(١٣).
إن الإيمان بالعالم الآخر لا يوازيه طموح للارتقاء إليه والتخلص من العالم السفلي، وسيظل الخواء الروحي هو وقود حالة الاحتراق الذاتي التي تعمل على استنزاف الطاقة الداخلية وإعطاب قدرتها على الانطلاق نحو الحلم الممكن. وإذا كان النفري قد وظف طاقة الفراغ للاندفاع بقوة نحو المطلق وعيش تجربة الوقفة، فإن بيسوا لم تكن لديه تلك الطاقة الروحانية الدافعة نحو المطلق الذي ظل حبيس أحلامه واستيهاماته الذهنية، وبقي البحث عن العظمة جنونًا استفرغ قوته العقلية ونخر جسده العليل، وحفر في عوالمه ثقبًا أسود أوقعه في هاوية الفراغ. يعبر بيسوا عن هذا الوهن النفسي: «من وجهة نظر نفسية؛ أنا نوراستاني- هيستيري، لكن ولحسن الحظ، إن ذهاني العصبي ضعيف؛ يهيمن العنصر النوراستاني على العنصر الهيستيري»(١٤). ولكن العيش في انتظار كودو هو دوران في دوامة الخوف من استبداد الجنون، يغذي حالته العصابية ويذكي ألمه الروحي الذي خلفه الثقب الهائل في الذات المجوفة. لا يفكر بيسوا ليكون موجودًا؛ وإنما يفكر ليحس. والإحساس المفرط تجاه الذات والآخر هو سبب المأساة الوجودية التي تتفاقم في النهار محولة كل شيء إلى عدم وفراغ. أما الامتلاء الذاتي؛ فهو إحساس فريد لا يعتمل في دواخله إلا ليلًا حيث الإنصات إلى الموسيقا لإعادة خلق التوازن. يموت بيسوا نهارًا ليحيا ليلًا حياة مصنوعة من الحلم الطفولي.
ولأن بيسوا كائن مرهف الإحساس، رقيق المشاعر، شفيف الروح، فإن ذلك يورثه الهشاشة تجاه الآخر؛ فينزوي في منطقة الظل والنسيان، بعيدا من عالم الناس. ومن هذه الوساوس تبرز الشخصية المتصارعة مع الذات والوجود، التي لا تشتم في الواقع غير رائحة الموت تملأ الكون الذي يستحيل هباءً تذروه الرياح. ووسط اللامعنى، يشتد القنوط واليأس واستبداد الخوف وتوعك الروح؛ «ما أهول هذا القنط! ما أهول هذا الرعب! رعب الوجود على قيد الحياة، إنني لا أستطيع تصور الشيء الذي يمكن أن يحوله إلى مسكن، أو ترياق، أو بلسم، أو نسيان. النوم يرعبني مثل كل شيء. كذلك الموت. المشي والتوقف في الآن نفسه يمثلان الاستحالة نفسها. أن تنظر ولا تؤمن بشيء هو المرادف للبرود والرماد. إنني عبارة عن رف مملوء بقوارير فارغة… لا أعرف ما أريد أو ما لا أريد. لقد تخليت عن معرفة ما يراد. عن معرفة كيف تراد الأشياء. عن معرفة الأحاسيس أو الأفكار التي بواسطتها نعرف أننا نريد. أو نرغب في أن نريد. لا أعرف من أنا ولا ما أنا إياه. مثل شخص مدفون تحت سور منهار، أرقد تحت الخواء الراقد للكون بتمامه. وهكذا أمضي، عبر أثري أنا بذاتي، حتى يحل المساء»(١٥).
يحتاج بيسوا إلى تحرير الذات من سطوة الأنا، بالانتقال من التفكير الأنطولوجي إلى التفكير الإيتيقي الذي لا يحاكم الآخر بوصفه وحشًا يهدد الذات ويسلبها حقها في الحياة؛ وهي النزعة الأنطولوجية الاحتقارية للغير، التي هيمنت على تاريخ الفلسفة الغربية. لم يكن بيسوا ليشذ عن هذه النزعة التخويفية من الآخر، فرغب في تطويعه والتغلب عليه بإقصائه من حيز الوجود والانتصار للذات في صراعها الهوياتي مع الآخر؛ مما زاد من عزلتها وفردانيتها، بدل ما ينبغي أن تتحلى به من التزام أخلاقي للدفاع عن الآخر بوصفه جزءًا من الكينونة. نستحضر، ههنا، إيمانويل ليفيناس Levinas.E(١٦) في فلسفته الأخلاقية التي تقوم على مقولة الوجه بوصفها ترتبط بالآخر؛ إذ يكون الوجه وجهًا للآخر الذي يتفاعل معه ضمن علاقة حوارية تعترف به إنسانًا لا ذئبًا. ألم يقل توماس هوبز: «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان» وسايره سارتر في عَدِّ الآخر هو الجحيم؟!
ذئبية الإنسان
التهذيب الأخلاقي لذئبية الإنسان هذه وجد تفسيره في مفهوم المواجهة أو التواجه؛ فعندما يكون وجه الآخر هو وجهي، فذلك يفرض عليَّ التزامًا أخلاقيًّا بضرورة الحفاظ عليه. الحرية كامنة في هذه المواجهة الإيتيقية بين الأنا والأنت. لكننا نجد بيسوا غير قادر على الوفاء بهذا الالتزام؛ «ماذا يهمني أن أعرف عن الشمس أو المطر، عن الجسد أو الروح، أنا الذي كذلك سأمضي؟ لا شيء، ما عدا الأمل في أن يكون الكل لا شيء. وإذن، كل شيء هو لا شيء»(١٧). لا شيئية الكون هي أشبه بجحيمية الآخر وذئبية الإنسان؛ في حين ينبغي أن يكون وجه الكل هو شرط إثبات الأنا عبر الحوار لا الإقصاء، وبإعلان الحياة لا التهديد بالموت، وبهجران الذات والولاء للآخر. فالطريق الوحيد إلى الله، وفق ليفانيس، هو الآخر الذي يعيش تحت مسؤوليتنا، وقداسة الوجه الإنساني ترجمة لتجلي الإلهي في الحسي.
التغني بالمأساة وبالنهاية الوشيكة هو إيذان بعبور سريع من عالم الناس إلى الموت والذكرى. لكن عبور النفري، الذي جاز به المسافات عبر الكون اللامحدود، هو عبور نحو الحقيقة لاسترفاد القوة منها، حتى إذا عاد إلى نقطة الانطلاق، عاود الكرة بشرط التخلص من الأغيار تخلصًا بالعبادة الوجهية التي تختلف عن وجهية ليفيناس؛ لأن وجهية النفري مع الله لا مع الآخر، ومسؤوليته الأخلاقية تجاه الحق تقتضي أن يعبده حق عبادته (العبادة الوجهية)، إضافة إلى أن الحوار يتجاوز أفقه الإنساني إلى مظهره الرباني. «وقال لي: أهل العبادة الوجهية أهل الصبر الذي لا يهرم وأهل الفهم الذي لا يعقم… وقال لي: أهل العبادة الوجهية أهلي، أهل خلتي، أهل الشفاعة إلي، أهل زيارتي»(١٨).
لكن الرؤية الانهزامية لبيسوا تجعله مستسلمًا، يتنازل عن أشيائه كلها ويرضى فقط بما يصنعه الحظ أو المصادفة، متخلِّيًا عن كينونته؛ «كائنًا ما أكون، أتخلى عما أكون، أتخلى للإله أو الآلهة الموجودين، عما أنا إياه، راضيًا بما يقسمه الحظ وما تصنعه المصادفة، وفيًّا لتعهد منسي»(١٩). فقدان الإرادة هو فقدان للصبر، والتخلية بلا تحلية تقود إلى المأساة واليأس؛ فالنفري عندما تخلى عن السوى الذي يملأ الكون كله، تحلى بالصبر ومنح ذاته أقصى ما يمكن من المجاهدة للتخلص من السوى الحاضر في كل شيء؛ فكان أن وجد الطمأنينة. أما بيسوا تخلى عن أناه، ولكنه لم يتحلَّ بما يمكنه من استردادها؛ فكان أن سقط في غياهب اللاطمأنينة والإفراط في القلق اللامعقول من حياة طلب منها القليل فرفضت منحه هذا الفتات، شأنه في ذلك شأن سيوران.
الحلم عند بيسوا منه البدء وإليه المنتهى؛ فكانت حياته مقتطعة من الوهم والسراب، غدا فيها كل شيء فاقدًا لطبيعته الحقيقية. ومن أحاسيسه المنذورة للألم والتعاسة، استطاع بيسوا أن يكتب برهافة فنان يرسم لوحته بألوان الفراغ، وبعمق صوفي تجرد من كل شيء للتأمل في كل شيء. إنه وعي مزيف، وهو أيضًا وعي شقي متولد عن إيمان بيسوا بمعتقدات ذاتية مفارقة لما هو موجود في الواقع. وأمام هذا التباعد الأنطولوجي، يجد الإنسان نفسه في مواجهة العزلة والاغتراب أو في مجابهة الموت الذي يحياه. كل من النفري وبيسوا يواجه مصيره المحتوم بالدين أو بالعدمية؛ فإما أن يحتمي المرء بإرادة منداحة تتقد جذوتها في تجاويف الروح ليرتقي إلى عالم الطهر والقداسة. وإما أن يترك لمواجهة الموت الرمزي؛ لا دين له يخلصه من اغترابه الميتافيزيقي، ولا دنيا ينعم فيها بالسعادة والأمن النفسي. حضور الدين هو حضور للانسجام والتآلف مع العالم، وغيابه إيذان بالشقاء والعزلة والانفصال عن الأشياء.
هوامش:
١. المواقف والمخاطبات، ص 108.
٢. بيسوا، كتاب اللاطمأنينة، ص 67.
٣. بيسوا، كتاب اللاطمأنينة، ص 321-322.
٤. بيسوا، اللاطمأنينة، ص 329-330.
٥. نيقولاي ألكسندروفيتش بيرديائيف، (1874- 1948م) فيلسوف ديني وسياسي روسي، من مؤسسي الفلسفة الوجودية المسيحية التي تقوم على النزعة الصوفية والتجربة الروحية، والرؤية الحدسية.
٦. بيسوا، لست ذا شأن، ص 54-55– 79.
٧. بيسوا، لست ذا شأن، ص 98.
٨. بيسوا، لست ذا شأن، ص 78.
٩. هايدغر مارتن، الوجود والزمان، ترجمة وتقديم وتعليق فتحي المسكيني، مراجعة إسماعيل المصدق، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط 1، ص 312.
١٠. النورستانيا حالة جسدية ونفسية تتميز بالتعب الشديد، وهبوط الفاعلية، وتدني القدرة على الاستجابة، وهي عناء فكري صارم يهيمن على المصاب بالإعياء النفسي، يجعله صريع شعور موهوم بالعجز والتعب، مع ما ينتابه من وساوس تفقده الاستقرار، وتضعف من قدرة إرادته على السيطرة على تصرفاته وأعماله. انظر: عاقل فاخر، معجم العلوم النفسية، ط 1، دار شعاع للنشر والعلوم، حلب سوريا، ص 173. وانظر أيضًا: نشأت أكرم، علم النفس الجنائي، ط 2، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ص 180.
١١. بيسوا، لست ذا شأن، شذرات اختارها وترجمها وقدم لها إسكندر حبش، منشورات الجمل، بغداد، بيروت، الطبعة الأولى 2015، ص 83.
١٢. بيسوا، لست ذا شأن، ، ص 32.
١٣. المرجع نفسه، ص 35.
١٤. بيسوا، لست ذا شأن، ص 39.
١٥. بيسوا، اللاطمأنينة، ص 233-334.
١٦. إيمانويل ليفيناسن فيلسوف يهودي لتواني الأصل فرنسي الجنسية، ولد سنة 1906م، وتوفي سنة 1995م، صاحب كتاب: (إيتيقا الغيرية). في مؤلفه (الكلية واللاتناهي) رأى أن حضور وجه الآخر ليس بالضرورة قائمًا على العلاقة الصراعية؛ بل على العكس من ذلك هي علاقة قبول واعتراف، منتقدًا نزعة الانطواء والأنانية التي سقط فيها الكائن الإنساني بإلغائه للغيرية. لمزيد من الاطلاع: راجع مؤلفات ليفيناس، وانظر أيضًا، رشيد بوطيب (نقد الحرية، مدخل إلى فلسفة إيمانويل ليفيناس)، بيروت، منشورات ضفاف، الجزائر منشورات الاختلاف الجزائرية، 2018م.
١٧. بيسوا، كتاب اللاطمأنينة، ص 215.
١٨. المواقف، ص 134-135.
١٩. بيسوا، اللاطمأنينة، ص 99.