بانوراما في عقل فؤاد زكريا
يبدو العالم العربي اليوم في حاجة إلى مثقفين يمتلكون ضمائر حية، وعقولًا حرة، ليُسهموا في تقديم معرفة عما يحدث اليوم من تشظيات في مناحٍ كثيرة، ومن اتساع الهوة بين الشعوب والأنظمة العربية. وأعتقد أنّ هذه المهمة لا بد أنْ يتضافر معها «مشروع تحديثي» يشمل الحرية الفكرية والسياسية، والإيمان بلغة العلم للدخول في مجال العلوم الطبيعية وتطبيقاتها التكنولوجية. لو حدث هذا، فإنّ الأنظمة العربية تكون قد بدأتِ الخطوة الأولى لاقتحام معطيات ومفردات العصر الحديث.
وللأمانة فإنّ مفكرين كثيرين نادوا في كتبهم بأهمية التحديث. ولعلها مناسبة، أن نتوقف في هذا المقال عند فكر أحد هؤلاء المفكرين، وهو المفكر الراحل فؤاد زكريا (ديسمبر1927- 11 مارس 2010م) الذي عمل أستاذًا ورئيسًا لقسم الفلسفة بجامعة عين شمس، ورأس تحرير مجلتَيِ الفكر المعاصر وتراث الإنسانية المصريتيْنِ، ثـمّ أستاذًا ورئيسًا لقسم الفلسفة بجامعة الكويت، ومستشارًا لشؤون الثقافة والعلوم الإنسانية في اللجنة الوطنية لليونسكو بالقاهرة. وبخلاف مؤلفاته الكثيرة ترجم «العقل والثورة» لماركيوز، و«الفن والمجتمع عبر التاريخ» لهاوزر، و«حكمة الغرب» لرسل في مجلديْنِ. كما كانت له مؤلفات في الموسيقا مثل «التعبير الموسيقي»، و«فاجنر»، و«مع الموسيقا:
ذكريات ودراسات».
كانت بداية تعرفي إليه من خلال كتابه «التفكير العلمي» الصادر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية. ونظرًا لأهمية هذا الكتاب فقد نفدتْ طبعته الأولى والثانية فصدرتْ طبعة ثالثة عام 1988م. في هذا الكتاب ذكر أنّ التراكمية التي يتسم بها العلم هي التي تُـقـدّم لنا مفتاحًا للرد على انتقاد العلم. وهو انتقاد يستغل تطور العلم فيُـتهم العلم بالنقصان. ومن الشائع أنْ يحمل أصحاب العقلية الرجعية على العلم؛ لأنه متغير وأنّ حقائقه محدودة، فإذا قلتَ أنّ العلم متغير، فهذه حقيقة. وإذا اعتبرتَ هذا التغير علامة نقص فإنك تُخطئ؛ إذْ تفترض أنّ العلم لا بد أنْ يكون ثابتًـا، مع أنّ ثبات العلم لا يعني إلا نهايته. ومن ثـمّ فإنّ الثبات في هذا المجال هو الذي ينبغي أنْ يُعد
علامة نقص.
وفي تأكيده دور العقل، طلب زكريا من أعداء العلم النظر في المعرفة البشرية منذ 500 سنة إلى ما هي عليه الآن؛ إذ أجرى بعض العلماء مقارنة بين الحِقَب الزمنية التي كان يستغرقها الوصول من الكشف العلمي النظري إلى التطبيق، فتبيّـن ما يلي: احتاج الإنسان إلى 112 سنة لتطبيق المبدأ النظري للتصوير الفوتوغرافي، و56 سنة لاختراع التليفون، و35 سنة للاتصال اللاسلكي، و15 سنة للرادار، و12 سنة للتليفزيون، و5 سنوات للترانزستور، وسنتيْنِ للدوائر المتكاملة. وترتب على ذلك أن اخترع الإنسان العقلَ الإكتروني، الذي يعود فيساعد العقل البشري لإحراز المزيد من التقدم. وهذا التقدم الجديد يؤدي لتطوير العقول الإلكترونية. وهكذا تستمر مسيرة التقدم.
وردّ على الذين زعموا أنّ العرب في العصور الوسطى سبقوا آينشتاين في نظرية النسبية، فأكدّ أنه زعْم واضح البطلان؛ «لأنّ ظهور نظرية كهذه يحتاج إلى تطور معين في العلم. ولا يمكن تفسيره إلا في ضوء عصر معين،
في حين كان العصر الذي ظهر فيه العلم العربي مختلفًا كل الاختلاف».
أسطورة المعجزة اليونانية
رأى الدكتور فؤاد زكريا أنّ حديث بعض عن المعجزة اليونانية لا يخلو من التحيز، مثل القول بأنّ بناء الأهرام لم يُـكسب المصريين قاعدة علمية نظرية. وذكر أنّ القول «بأنّ هناك شعبًا لم يعرف طوال تاريخه إلا تطبيقات وخبرات عملية، وشعبًا آخر توصل لأول وهلة إلى الأسس النظرية للعلم، فإنه زعم يتنافى مع التجارب الفعلية للبشر». ويشير إلى العلماء الأوربيين الذين أكدوا أنّ الكلام عن معجزة يونانية ليس من العلم في شيء.
كما أنّ أفلاطون شهد بفضل الحضارة المصرية على العلم والفكر اليوناني. وذكر أنّ اليونانيين أطفال بالقياس إلى المصريين، وأنّ كثيرين من الفلاسفة اليونانيين أقاموا في مصر سنوات، وتَعلّموا أصول الفلسفة من الكهنة المصريين، ومن ثم يصعب تصور أنّ أولئك العباقرة الذين بنوا الأهرام بتلك الدقة المذهلة في الحساب، ولم يُخطؤوا إلا بمقدار بوصة واحدة في محيط قاعدة الهرم الأكبر، لا يستحقون وصف (علماء). ومن الظلم أنْ نأبى صفة (العلم) على تلك المعلومات الفلكية الرائعة التي توصل إليها المصريون القدماء، وعلى الكشوف الرياضية المهمة التي كانت ضرورية من أجل الحسابات الفلكية، والمعلومات الكيمائية التي أتاحتْ لهم أنْ يُصبغوا أنسجة ملابسهم وحوائط مبانيهم بألوان ما زالت زاهية حتى اليوم، أو التي مكنتهم من تحنيط جثث ظلتْ سليمة لمدة أربعة آلاف سنة. فهل كل هذا الإنجاز لا يستحق صفة (العلم التجريبي)؟ لذلك فإنّ الحضارة المصرية جمعتْ بين الخبرة العملية والمعلومات النظرية مثل: الطب وصناعة العقاقير والهيدروليكا (الري والسدود والخزانات)؛ إذن لم «تكن نشأة العلم يونانية خالصة، بل إنّ الأرض كانتْ ممهدة لهم في بلاد الشرق».
الصحوة الإسلامية في ميزان العقل
ربط الدكتور زكريا الفكر بالواقع، فعندما شاعتْ مقولة «الصحوة الإسلامية» أصدر كتابه المهم «الصحوة الإسلامية في ميزان العقل»، وفيه ذكر أنّ أميركا من أكثر المهتمين بهذه الظاهرة؛ إذْ بدأتْ موجة عارمة من الاهتمام بالإسلام، تبدو أكاديمية في ظاهرها، ولكنها موجهة لمعرفة ما يدور في عقول المسلمين. وأنفقتْ أميركا الكثير من المال على مشاريع تفصيلية، شارك فيها عرب أو عرب أميركيون. ورأى الأميركيون أنّ «الصحوة الإسلامية» هي البديل من الاشتراكية التي كانت تتبناها التيارات المضادة للإمبريالية الغربية.
وكان من رأي الدكتور فؤاد زكريا أنّ القهر في المجتمعات الإسلامية دفع تلك الجماعات للبحث عن مخرج، وكان الثمن تلطيخ سمعة البدائل الأخرى مثل: الليبرالية، ونظام الأحزاب، واليسار الديمقراطي. وفي ظل غياب العدالة الاجتماعية أعلن شباب الجماعات الإسلامية كفرهم بالأنظمة الدنيوية مقابل النظام الإلهي. وعلى الرغم من ذلك يهتف أعداؤنا «الأميركان» احذروا الصحوة الإسلامية. ولكن لسان حالهم يقول: «مرحبًا بها ما دامتْ لا تُهدّد مصالحنا ومصالح حلفائنا الممسكين بدفة الأمور في العالم الإسلامي». وفي رده على الذين روّجوا لصلاحية النص الديني لكل زمان ومكان ذكر أنّ الواقع الاجتماعي في تغير مستمر، فكيف يكون «الإسلام دينًـا ودنيا إذا كانت (الدنيا) لا تكف عن التغير؟ وإذا كان النص إلهيًّا فإنّ من يُطبّـقه ويُـفسره إنسان. وركز على ألوهية التشريع وبشرية القائمين على تطبيقه… وإذا كان الإسلام مطبقًا… إلخ، فمن أين أتى الاختلاف إنْ لم يكن من البشر؟ إذن العلمانية لا مفر منها حتى في صميم الحكم المرتكز على مصدر ديني. وإنّ الشعائر الشكلية تتستّر على المظالم ومساندة الاستبداد، وبالتالي فإنّ اليقظة الإسلامية هي غفوة فكرية، والصحوة كبوة عقلية. (صدر الكتاب عن دار الفكر المعاصر- القاهرة- ط2- يناير 1987م).
أوربا وكيف انتصر النور على الظلام
عاشتْ أوربا أسوأ أوقات حياتها لعدة قرون، فكيف انتصر التنوير؟ يذكر زكريا أنّ أوربا لم تُحقق نهضتها إلا بعد صراع مرير مع الكنيسة. صراع سقط فيه كثيرون مثل جوردانو برونو الذي أحرق حيًّا. وظلتْ مقاومة الكنيسة حتى القرن 19، ولكن الأمر المؤكد أنّ الكنيسة بدأتْ تنتقل إلى موقف الدفاع منذ عصر التنوير، أي في القرن 18 في حين أنها كانت في القرنيْنِ السابقيْنِ تهاجم الفكر العقلاني بشدة. وبلا رحمة دفاعًا عن مصالحها التي كان معظمها دنيويًّا بغطاء روحي.
وذكر أنّ مارتن لوثر الذي حاز إعجاب كثيرين بحجة إصلاحاته الدينية، ارتكب جريمة بشعة بوقوفه ضد ثورة الفلاحين عام 1626م للمطالبة بأدنى الحقوق الإنسانية. وهذا المصلح الديني وقف مع الكنيسة التي تستنزف عرق الفلاحين. وحرّض الأمراء على سحقهم بلا رحمة. وهذا ما حدث بالفعل في مذبحة من أبشع المذابح في التاريخ الأوربي، إلى أنْ كان الانتصار الأخير على الكهنوت المتحدث باسم الدين، ويزعم أنه يمتلك الحقيقة المطلقة. ويُـكفّـر كل المؤمنين بالسببية والتعددية.
هيكل المقدس في الثقافة السائدة
رفض الدكتور زكريا أنْ يكون نسخة كربونية من الثقافة السائدة، فكما انتقد الدكتور مصطفى محمود، الذي هاجم العلم والعلماء وسفه العقل البشري لصالح الغيبيات، انتقد- كذلك- محمد حسنين هيكل في كتابه «كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي»، الذي أورد فيه بالتحليل الدقيق، حجم التضليل والتناقضات التي وقع فيها هيكل، والعلاقة بين هيكل والإدارة الأميركية. ومن واقع كتابات هيكل نفسه. وبهذا أسهم الدكتور زكريا في إثراء الواقع الثقافي بنقد الرموز المقدسة التي رسّختْ لفاشِسْتِيّة الفكر الواحد، وإقصاء كل مختلف، وعدم الإيمان بحق النقد، وتكفير منهج التسامح الفكري والفلسفي.
وكذلك انتقد الذين روّجوا لمقولة «البطل المُنقذ» أو «الزعيم المُـخلّـص» وأشاعوا هتاف «بالروح والدم نفديك يا فلان» كما فعلوا في الترويج لزعيم العروبة (عبدالناصر) بالرغم من أخطائه الكارثية العديدة.
إنّ كلام الدكتور زكريا عن «عبودية البطل» ذكّـرني بجملة ثاقبة للفيلسوف الألماني (هيغل)، وهي «ملعون الشعب الذي يعبد البطل، حتى لو كانت له بطولات حقيقية».