الاحتجاجات التونسية 2021: قراءة من منظور مختلف محاولة للتحديق في الهوامش المتحركة
ينكبّ أهل الإعلام وأهل السياسية والمحلّلون والمتابعون للشأن العامّ والباحثون على قراءة الاحتجاجات التونسية الأخيرة (يناير 2021م) معتمدين في ذلك على تجاربهم الشخصية أو التراكمات المعرفية التي تجمعّت لديهم، أو الدراسات الميدانية التي أنجزت، أو الانطباعات أو الشهادات. ويظهر من خلال متابعة هذه الخطابات أنّ مداخل القراءة تعكس توجّهات أصحابها الفكرية والأيديولوجية ومواقعهم وامتيازاتهم، وتثبت في الوقت ذاته، مدى هيمنة المقاربة السوسيولوجية على غيرها من المقاربات.
وعادة ما يُبرّر هذا الاختيار المنهجيّ باندراج الاحتجاجات الشبابية ضمن الحركات الاجتماعية إلا أنّ هذا الاختيار يواجه اليوم، بانتقادات اكتست مقدارًا من المشروعيّة. فقد رأى عدد كبير من الباحثين أنّ تحليل الاحتجاجات يقتضي الإقرار بتعدّد الاختصاصات وتقاطعها؛ إذ لا تفهم دوافع الاحتجاجات مثلًا من دون الرجوع إلى التحليل التاريخيّ والأنثروبولوجيّ والاقتصاديّ والنفسيّ.
وتتّخذ هذه الانتقادات بعدًا أكثر تعقيدًا مع الباحثات/ين المهتمات بالدارسات النسائية أو النسوية أو الجندرية أو الكويرية Queer Studies ولا سيما بعد استمرار الإعلاميين والدارسين في ممارسة التحيّز الجندريّ واستبعاد الهويات غير المعياريّة. فقد كثر الحديث عن «الاحتجاجات الشبابيّة»، و«أشكال تعبير الشبّان»، و«خطابات الشبّان»، و«الموقوفين من الشبّان»، ووجّهت الدعوات إلى الشبّان لتقديم شهاداتهم، والحال أنّ حضور الشابّات يعدّ لافتًا للانتباه وحافزًا إلى مزيد التعمّق في أشكال حضورهنّ وعلاقاتهنّ، ورؤيتهنّ للفعل الاحتجاجيّ.
وانطلاقا من وعينا بتعدّد طرائق بناء السرديات، واختلاف زوايا النظر، وتنوّع المقاربات رأينا أنّه من المفيد استعمال عدسة مغايرة لقراءة احتجاجات يناير، وهي عدسة لا تهتمّ برصد أصناف الاحتجاجات أو دوافعها أو طرائق التعامل معها، بل تحاول التحديق في الهوامش المتحرّكة بسرعة، وفي هوية الفاعلين/ت المتعدّدين المطالبين بحقوقهم الأساسية (شغل، حريّة، كرامة وطنية) والمصمّمين على فرض وجودهم/نّ وانتزاع الاعتراف. فالنتائج المترتّبة على المنوال الاقتصادي والعولمة والسياسات الفاشلة لم تتسبّب في حرمان الناس من تلبية احتياجاتهم الأساسية وتجويعهم فقط، بل أثّرت أيضًا في رؤيتهم لذواتهم، وشعورهم بالقيمة الذاتية وتشكيل هوياتهم وتصوّرهم للأنوثة/الذكورة.
فمن حُرِمَ حقّه في العمل فَقَدَ قوامته المادية والرمزية في مجتمع بطريكيّ يقرن الرجولة بالإنفاق والمراقبة والقدرة على ممارسة الهيمنة، ويجعل كرامة الرجل مرتبطة حتمًا بامتلاك السلطة. وليس رصدُ بنية العلاقات ومسار تفاعل الذكورات والأنوثات مع الأحداث في زمن الاحتجاجات، في نظرنا؛ ترفًا فكريًّا بل هو مدخل هامّ يساعد على فهم ردود الأفعال وأشكال التعبير وبروز مشاعر الغضب والنقمة والسخط…
فضاء لتجلّي المواطنية والدمج
إنّ شارع الحبيب بورقيبة (في العاصمة) ليس فضاءً للتعبير عن مشاعرِ الحَنَقِ والغضب والإحساس بالقهر المتعدّد والمطالبة بالحقوق، بقدر ما هو فضاء مُثقَل بحمولة رمزية تثبت مدى تجسّد قيم دولة الاستقلال التي راهنت على مجانية التعليم للجنسين، وعلى تحرير النساء من القيود التي تمنعهن من إثبات الذات ونحت الكيان. وبناءً على ذلك لم يكن حضور الشابّات والنساء إلى جانب الشبّان والكهول غريبًا أو مستهجنًا في العاصمة والمدن الكبرى، بل تناغمت الهتافات ورُفِعَت الشعارات التي تعكس حرية كلّ محتجّ أو محتجّة في التعبير عن المطالب المشروعة وتلاصقت الأجساد «التفّت الساق بالساق». ولعلّ ما يسترعي الانتباه في هذه الاحتجاجات الأخيرة، وعي الفاعلين والفاعلات بأهمية التنسيق والتشبيك والمناصرة والعمل المشترك، وهو وعي يجعلهم يتنازلون في الأغلب، عن الرغبة في عرض الذات ويرفضون التعلّق بفكرة الزعامة؛ إذ إنّ غاية ما يطمحون إليه تحقيق المصلحة العامّة وتكريس دولة المواطنة.
يدرك الشبّان والرجال أنّ الاحتجاجات المستمرّة تُعَدّ مناسبة لاختبار مدى قدرة الفاعلين على إثبات استيعابهم الحقيقيّ لقيم المساواة وإدراكهم مضامين الحرّيات الفرديّة؛ لذا فإنّه لا مجال لاحتكار سلطة القرار وبناء علاقات مع الشابّات والنساء على أساس الهيمنة، أو السعي إلى ممارسة الرقابة والضبط الاجتماعيّ عليهنّ أو التحكّم في خطاباتهن. ونلمس لدى المدافعين عن الثقافة الحقوقية الكونية والقيم الإنسانية أنّ العنف ضدّ المرأة لم يعد يمثّل في نظرهم، مكوّنًا أساسيًّا من مكوّنات تشكيل الهوية الذكوريّة.
وبالرجوع إلى خطابات الشابّات والنساء وتدويناتهن وشعاراتهن نتبيّن أنّ وعيهنّ قد نما على امتداد العشرية الأخيرة؛ إذ تمكّنّ من اكتساب وعي جندريّ جعلهن يتّعظن من الماضي، ويتعلّمن من الأخطاء. فما حدث في تحرّكات الجماعات السلفية سنة 2011م من إصرار على تحويل النساء إلى موضوع للاحتجاج، والتعامل معهنّ بوصفهنّ أجسادًا يجب أن تُسْتَرَ والمطالبة بتطبيق الشريعة لإحكام السيطرة عليهنّ، وإعادتهن إلى البيوت وإلزامهن بالخضوع؛ لا يمكن أن يتكرّر في احتجاجات سنة 2021م.
فالشابّات والنساء يبرهن كلّ يوم، أنّهنّ ذوات فاعلة في الواقع من أجل تغييره، ومستقلّات ومتمسكات بحقّهنّ في الاختيار والتعبير والحياة. والجموع إذ تلتقي للدفاع عن قضايا العدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد والحقّ في الصحّة وغيرها من المطالب، تبرهن على أنّ المشاركة في الاحتجاجات حقّ من الحقوق التي ضمنها دستور 2014م لكلّ التونسيين والتونسيات، ومن ثمّة لا يمكن لأي فرد أن يفرض الوصاية على بقية الأفراد، أو أن يلجأ إلى استعمال أساليب متنوّعة لاستبعاد من يراهم غير جديرين بالمشاركة في الاحتجاجات.
ولا يقتصر الإيمان بما ورد في الدستور من مواد تضمن حقوق الجميع على قاعدة المواطنيّة، على الإقرار بحقّ الشابات والنساء في الفاعلية، بل يتجاوز ذلك إلى محاولة دمج جميع الفاعلين حتى إن كانوا لا يعكسون الهويات المعياريّة. ونلمس ذلك في سعي بعض المشرفين/ات على تأطير الاحتجاجات إلى تعديل الشعارات والهتافات التي تتضمّن إيحاء بمعاداة المثليين وغيرهم، أو حرصًا على تأنيث الرجال من خلال الشتائم. إضافة إلى ذلك تسعى فئات عديدة إلى اعتماد لغة شمولية لا تلغي المغايرين.
فضاء لاختبار الرجولة
لئن تجلى الإيمان بقيم المساواة والحرية والكرامة والعدالة الجندرية في طريقة تصرّف عدد من الناشطين الحقوقيين والشبّان المناصرين للنسوية وفي أشكال تواصلهم مع الشابّات والنساء في بعض الأفضية، فإنّ أحياء أخرى شهدت حضورًا مكثّفًا «للرجال» يُخبر عن إرادة احتكار الفضاء العام، والرغبة في فرض شروط المشاركة في الاحتجاجات. وتتجلّى هذه الرغبة في ممارسة السلطة على الشابّات والنساء في الشعارات المرفوعة وعناوين البيانات ولغة التواصل وغيرها كحَفْز المجموعات العضويّة: «أولاد الحومة» و«أولاد الحيّ» إلى الخروج، والصدام، ومواجهة رجال الشرطة كأنّهم الأعداء.
أمّا مبرّرات استبعاد الشابّات والنساء من الاحتجاجات فإنّها ترجع إلى حرص «الرجال» على اختلاف أعمارهم، على حمايتهنّ من العنف والمخاطر، ولا سيما إذا كانت الاحتجاجات ليلية وغير سلمية تغلب عليها محاولات النهب والسرقة وحرق المحلّات وغيرها من الممارسات. ونجد إلى جانب هذا التبرير الاجتماعيّ الذي ينمّ عن تمثّل المرأة ضمن الفئات الهشّة، تبريرًا ذا بعد أخلاقيّ ودينيّ؛ إذ لا يجوز للشابّات الاختلاط بالشبّان الغرباء، والخروج عن طاعة أولي الأمر، وتعريض أسرهنّ للإحراج إذ تبقى المرأة، في نظر المجتمع المحافظ، تابعةً للأب والأخ والزوج والعمّ ورمزًا دالًّا على شرف العائلة والعشيرة. والمحتجّة إن لم تمتثل للسلطة الأبوية والمنظومة القيمية تعاقب بالتأديب أو الوصم. وعلى الرغم من وعي الشابّات والنساء في مدن مختلفة وأحياء متعدّدة بأهمية المشاركة في الاحتجاجات للتعبير عن معاناتهن أشكالًا من القمع وحقهنّ في تغيير الواقع؛ فإنّهنّ رضخْنَ في الأغلب، إلى أوامر الاستبعادت، وتَحَمّلْنَ الوصاية الذكورية، وقَبِلْنَ إصرار الرجال على الحديث نيابةً عنهنّ.
ويفسّر اختيار الليل زمنًا للخروج واستعمال العنف وسيلة للمواجهة مع القوات الأمنية في نظرنا، بحرص المجتمع الذكوريّ على الدفاع عن مصالحه من جهة، وبتمثّل المراهقين والشبّان وغيرهم للفضاء العموميّ على أنّه ركح لاختبار الرجولة، من جهة أخرى إذ كثيرًا ما يعبّر أنصار الفرق الرياضية (Ultras) مثلًا عن رغبتهم في التموقع والاستمتاع بكونهم مرئيين، وممارسة طقوسهم المعتادة والاحتفاء برجولتهم. وكلّما كانت الشابّات مغيّبات عن الركح الاجتماعيّ وغير منظورات اطمأنت قلوب الرجال على رجولتهم الصلبة.
أمّا اعتماد المحتجّين أسلوب الكرّ والفرّ، والرشق بالحجارة والمناورة والاستفزاز، فإنّه يعدّ في نظرهم، خير وسيلة لإثبات «رجولتهم» التي تعني القوّة والفاعلية والقدرة على تحدّي الأمنيين. وفق هذا التصوّر يُمارس العنف على المثليين والعابرين الجنسيين في الشارع، ويُهمّش أصحاب الاحتياجات الخاصّة والمرضى وأصحاب البنية الجسدية الضعيفة الذين لا يستطيعون أداء أدوار تعكس القدرة على التحمّل، والمناورة، والهجوم… وتعبّر في الوقت نفسه عن الرجولة المعياريّة.
ونظرًا إلى أنّ المنتمين إلى جهاز الشرطة يرمزون إلى أنماط من الذكورة المتسلّطة/ المهيمنة/ المفرطة في استعمال القوّة/… تلك التي تبطش بالشبّان وتتعمّد إذلالهم، وكسر نواقض رجولتهم أو ممارسة الخصاء الرمزيّ عليهم بدعوى مخالفتهم للقانون وإلحاقهم الأذى بالآخرين وتهديدهم الأمن القوميّ، فإنّ الاحتجاجات تصبح مناسبة للثأر وردّ الاعتبار إلى الذات المجروحة، وفي الوقت ذاته، فضاءً للاختبار والصراع وإعادة إنتاج نمط من الرجولة المنشودة وتسييج أنماط أخرى في دائرة النبذ.
وتفضي المواجهة بين المحتجّين والأمنيين إلى الفرز بين الحاضرين، وبناء تراتبية جديدة تحدّد من له الحقّ في الحضور في الفضاء العموميّ والمشاركة في الاحتجاجات، ومن يستحقّ الوصم والإفراد: «إفراد البعير الأجرب». ويترتّب على كلّ ذلك اصطفاء فئة من الرجال المتمكّنين من الأداء على الركح الاجتماعيّ بوصفهم أصحاب الرجولة الكاملة في مقابل إقصاء «أشباه الرجال»، كالمخنثين والمثليين وغيرهم من أصحاب الهويات غير المعياريّة.
وتظهر تبعًا لذلك الممارسات التمييزية بين الرجال والنساء، وبين الرجال وأصحاب الهويات الغيريّة، ويتجلّى كره النساء في مجموعة من المممارسات والخطابات متجاورًا مع كره غير المنضبطين للأنموذج المعياريّ للرجولة، ويُضاف إلى كلّ أشكال القمع المعروفة قمع آخر يمارسه هذه المرّة، عدد من المحتجّين على من يفترض أنّهم يحلمون بتحقيق المطالب نفسها: شغل، حرية، كرامة، عدالة اجتماعية وإسقاط الأنظمة القهريّة.
فضاء لمقاومة الإقصاء والتهميش والاستبعاد
إنّ التنظيم المشترك للاحتجاجات، وتوزيع المهام بين الجنسين بإنصاف، والتضامن الذي يتجاوز الحدود الجندرية والأيديولوجية والطبقية والعمرية وغيرها؛ لا يمكن أن يحجب عنّا ما يُلاحظ أحيانًا على أرض الميدان من مظاهر وممارسات توضّح توتّرًا في مستوى بناء العلاقات أو حدوث شجار بسبب اتّخاذ الشبّان بعض القرارات الفوريّة، من دون اللجوء إلى أخذ رأي الشابّات، وبخاصّة بعد تحوّل المسيرات السلمية إلى مواجهات مع الشرطة؛ إذ ترفضُ هؤلاء الممارساتُ التمييزيةَ وسياسةَ القطيع، وعلاقات الهيمنة، فينطلقن في ممارسة انتقاد كلّ أنظمة القهر، ومجادلة كلّ المحتجّين الرافضين فاعليتهنّ، موظفات أساليب مختلفة من المقاومة. ولا غرابة في ذلك ما دمت الشابّات واعيات بأنّ الحقوق تؤخذ غِلَابًا، وأنّ «الرجلة» (جاء في المعاجم «امْرَأَةٌ رَجُلَةٌ»: تَشَبَّهَتْ بِالرِّجالِ في الرَّأْيِ والْمَعْرِفَةِ») استحقاق يتساوى فيه الجميع بعد خوض النضال على أرض الميدان.
وهكذا تبدو العلاقات بين الجنسين عاكسة لنمط العلاقات المبنية على التسلّط حينًا، ومتكافئة ومراعية لضوابط العمل المشترك من مشاورة وتوزيع للأدوار، حينًا آخر. وإضافة إلى ما سبق نلاحظ أنّ دمج الشابّات والعابرين جنسيًّا والعابرات وغيرهم/ن، يتجاور مع السعي إلى استبعادهم/نّ؛ إذ تخبر ردود أفعال أغلبهم عن صعوبة الإقرار بالمساواة بين الجميع وتعدّد الهويات، إضافة إلى عسر ترسيخ قيم الحرّية والتعددية والمساواة وغيرها إن كان على مستوى الوعي أو الممارسة.
ولعلّ ما يسترعي الانتباه في كلّ هذه الديناميكية اتّساع الهامش ودلالات القهر، وتعدّد هوية المقهورين؛ إذ نجد من يحتجّون من موقع المهيمن عليهم، والمقهورين الذين يندّدون بالدولة «البوليسية القمعيّة» التي حرمتهم من حقّهم في العمل والصحّة والكرامة والتعبير… ونعثر على من يشكو من تبعات مختلف الأنظمة القهريّة، ويفضح تقاطع العنف الاقتصاديّ مع العنف الاجتماعيّ مع العنف السياسيّ، ولكن لا يجد هؤلاء حرجًا في قمع النساء أو إلحاق الأذى بمن يتمسّكون بغيرتهم. وبذلك يتحوّل المقموع والمهيمن عليه إلى مهيمن لا يتوانى في ممارسة كلّ أشكال العنف على «المستضعفات» والمغايرين. ولعلّنا لا نبالغ إن رأينا أنّ الاحتجاجات الأخيرة وفّرت مادّة لا يستهان بها، تسمح لنا بتعرية أقنعة الذكوريات المعيارية والمحافظة والمتسلّطة…، وإبراز دوافعها من وراء احتكار الفضاء والاستئثار بالأدوار التي تزعم أنّها استحقاقات «طبيعيّة» وقوامة شرعيّة.
ولا يمكن أن نتغاضى عن الاختبارات العسيرة التي يخوضها بعضٌ في سبيل التزحزح عن المركزية وتغيير الموقع والتصوّرات. فأن تكون رجلًا لا يعني أنّك تمثّل «الإنسان» والمعيار الشامل والأنموذج؛ لذا يتحتّم عليك أن تعيد صياغة تصوّرك للرجولة، وأن تعيد بناء علاقاتك مع مختلف الفاعلين/ات وفق أطر مفاهيمية جديدة.
وعلى الرغم من كلّ هذه المصاعب، فإنّ احتجاجات يناير 2021م تقيم الدليل على أنّ الفئات التي ظلّت طيلة سنوات غير مسموعة، نجحت فعلًا في امتلاك الصوت وفرضت تصوّراتها، وانتزعت موقعها بفضل اكتسابها مهارات جديدة في الضغط والتفاوض مع مختلف السلط كالسلطة الأبويّة، والسلطة الأمنيّة، والسلطة السياسيّة، والسلطة الإعلامية؛ إذ حاولت أغلبية وسائل الإعلام بناء سردية حول المحتجّين فأظهرتهم في صورة سلبيّة.
وليست المقاومة وابتكار أشكال من الحضور والتعبيرات الجمالية التي تجسّدت في الأغاني، والعناية برمزية ألوان بعض الملابس، والتدقيق في الشعارات إلا دليلًا على تمسّك من هُمّشت حقوقهنّ/هم بضرورة الخروج من السلبية والسكون واللامبالاة إلى الفاعلية والحركة وإثبات الوجود. وفي خضم هذه المعارك التي تُخاض على أكثر من واجهة، تلوح مسارات أخرى لاكتساب الوعي بعيدًا من المنمّطات والبناء الثنائي المضادّ: ذكورة/أنوثة، يسار/يمين، قوّة/ضعف، غنيّ/فقير، أبيض/أسود…
على سبيل الخاتمة
ترتفع الأصوات مطالبة بالحقّ في العمل والكرامة والاعتراف. ولكن تبرز في ثنايا هذه المطالب مطالب أخرى تتعلّق باحترام الحرّيات الفردية والتعددية الهوويّة. وتسمح لنا مقاربة الاحتجاجات المستمرّة من منظور يرصد تبدّل أحوال الشابات والشبّان بالوقوف عند دور التجارب في الفضاء العامّ في اختبار مدى ترسّخ منظومة القيم والمبادئ، ومعاينة الانزياحات والتحيّز، والثوابت والتحوّلات، وإدراك مسارات اكتساب الوعي فضلًا عن رصد بنية العلاقات بين الشابات والشبان، والشباب والكهول، والمواطنين/ات والدولة.
لقد سعت الجموع إلى المطالبة بالتغيير والإصلاح وانتزاع حقّها في امتلاك الفضاء وتحويله إلى مكان للاحتفاء بالحياة، ولكن لا يكفي أن نحرّر الفضاء العامّ من قبضة السلطة التي تحتكره وتميل إلى عسكرته في زمن الأزمات، بل علينا أن نعمل على تغيير العلاقة بين من هم في مواقع سلطة القرار ويملكون الامتيازات، وغيرهم من المواطنين، وعلينا أن نصرّ كذلك على دمقرطة الفضاء العامّ حتى يغدو فضاءً يمكّن الجميع من الحضور والتعبير والعيش معًا بقطع النظر عن الجنس والعرق والدين وغيرها من المحدّدات، التي تُستخدم للفرز ووضع الحدود بين المواطنين/ات وبناء التراتبيات.