«ممر حدودي» سيرة ذاتية الثقافة الذكورية القمعية تدفع ليلى أحمد للانخراط في الحركة النسوية

«ممر حدودي» سيرة ذاتية

الثقافة الذكورية القمعية تدفع ليلى أحمد للانخراط في الحركة النسوية

تفتتح الأكاديمية والباحثة المصرية الأميركية ليلى أحمد مذكراتها التي جاءت بعنوان: «ممر حدودي: من القاهرة إلى أميركا» (Farrar, Straus and Giroux, 1999)، بوصف لطفولتها في منزل العائلة بضواحي القاهرة، وتخبرنا كيف أنها تخلَّت عن هذه الحياة المثالية؛ حتى تتمكن من الحديث بحُرّية عن العوامل التي عكرت صفو هاته الحياة. وكيف أن هذا التخلي هو الذي أوصلها لما أصبحت عليه. وتتحدث عن ديمقراطية البلاد قبل ثورة 1952م، وعن ترسيخ الاشتراكية وتصعيد الخطاب المناهض للغرب، وحاجة المجتمع إلى هذا التغيير، ومعاناة مصر في أزمة الكساد الأعظم، ولجوء بعض المحتاجين المصريين إلى الإخوان المسلمين طلبًا للمساعدة. ثم تنتقل للحديث عما رأته والدتها من فظائع ارتكبتها ألمانيا وقوى الحلفاء، وكيف أنها ظلّت مسالمة رغم كل ما رأته، بل إنها جعلت أبناءها يقسمون على ألا يشاركوا في أية حروب.

وتتحدث ليلى أحمد أيضًا عن مفهوم القومية العربية الذي أصبح شائعًا آنذاك، وعن الثورة التي زعزعت الموقف الاجتماعي السياسي بعد إعادة توزيع ممتلكات الأغنياء على من تربطهم علاقات ودية مع الحكومة، وكيف أن عائلتها قد تأثرت بهذا النظام بطريقة مفجعة. ثم تدرك أن البشر ما هم إلا نتاج أحداث وثقافات مختلفة، وتقرر بذلك ألا تتوقف عن محاولة فهم ماضيها وفهم الأشخاص من حولها. علمت ليلى أحمد حينها جيدًا أن مستقبلها في القاهرة غير مُبشر، وازداد قلقها بعد انتحار عمتها وخالتها، فأصبحت خائفة من أن يأخذ اليأس حياتها أيضًا. ولكنها تجد أخيرًا من يساعدها للخروج من مصر.

في الفصل الثاني من الكتاب تتوقف عند بعض التطورات المهمة في تاريخ مصر الحديث، التي أثرت على نحو خطير في أسرتها، مثل أزمة السويس عام 1956م. تقول ليلى أحمد: إن الشباب، بمن فيهم هي، بدؤوا بتحليل حياة الأفراد الأكبر سنًّا في عائلاتهم، وأدركوا أنه بالرغم من توق العديد من المواطنين في البلدان المستعمرة إلى الاستقلال، إلا أنهم أعجبوا بثقافات المستعمرين. ثم تؤكد بالأدلة أن مصر لم تكن أمة متخلفة من دون البريطانيين؛ فقد كانت في القرن التاسع عشر دولة متحضرة. وتخبرنا الكاتبة كيف أن والدها قد خسر وظيفته وغادر البلاد مضطرًّا بعد رفضه إحدى ألاعيب الملك فاروق، وتشير إلى أنه عانى أيضًا على يد البريطانيين، فهم عاقوا تحقيق شغفه بدراسة الهندسة خوفًا من منح المصريين الإمكانات التي تؤهلهم للاستقلال.

وتنتقل الكاتبة في الفصل الثالث لتحدثنا عن بعض الأصوات التي كانت سمعتها في القاهرة، وتصفها بـ«الأصوات المرعبة». كما تذكر تفاصيل كثيرة عن مربيتها «ناني»، التي كانت تمضي معظم أوقاتها معها، ومع ذلك كانت تشعر دائمًا بوحدة شديدة؛ لأنها كانت تُترك مع المربية، في حين كان الأطفال الأكبر سنًّا يحتفلون مع الكبار. وتعترف الكاتبة بأنها عاشت طفولتها في رعب خوفًا من موت مربيتها؛ ذلك أنها كانت تحبها كثيرًا، وتعلقت بها حتى إنها بعد موتها كانت تتخيل صوت أنفاسها في منتصف الليل، لتطمئن نفسها أنها لا تزال على قيد الحياة. وفي إحدى هذه الليالي، رأت ليلى أحمد ملاكها الحارس «ناني» لأول مرة. ثم تنهي الكاتبة هذا الفصل بتجربتها الثانية مع الملائكة؛ إذ تصعد هي وجدتها إلى سطح المنزل في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان بعد أن أخبرتها جدتُها أنها ليلة لها خصوصيتها؛ ذلك أن الله يسمح لملائكته بالنزول إلى الأرض.

ليلى أحمد

أمها التي أرادتها أن تموت

ثم تحدثنا في الفصل الرابع عن حب والدتها للقراءة، وتقول: إن والدتها قد طلبت منها ذات مرة أن تساعدها في كتابة قصة حياتها، ولكن ليلى نظرت إليها نظرة تحمل شيئًا من الاستنكار، ولكنها الآن حين تسترجع هذا الذكرى تتمنى لو أنها وافقت. لكنها أيضًا ستتكلم عن علاقتها المتوترة بوالدتها، فتقول: إنها عندما أصيبت بالتهاب رئوي بعد عودتها من إنجلترا، شعرت أن والدتها تريدها أن تموت. ثم تكتشف الابنة فيما بعد أن والدتها أرادت قتلها حتى عندما كانت جنينًا. وتدرك الكاتبة لاحقًا أن اكتئابها لم يكن وراثيًّا، فكما سبق أن ذكرت فعمتها وخالتها انتحرتا، بل كان نابعًا من شعورها برغبة والدتها في موتها، ولطالما أحست بهذا الشعور، وقد طرحت هذه المسألة في أكثر من موضع في الكتاب. وهي تقول: إنها لم تستطع قط مسامحة والدتها على ما سببته لها من شعور بالحزن والارتباك، وبخاصة بعد علمها أن لوالدتها يدًا في موت أختها الرضيعة.

الإسلام بصفته طريقة للعيش

أما في الفصل الخامس فتتطرق إلى تدهور أوضاع عائلتها، وإلى أحوال المرأة والتقدم الذي أحرزته، مستشهدة بتولي هدى شعراوي قيادة الحركة النسائية الباكرة في مصر. وتسرد ذكرياتها الرائعة في منزل جدتها. ثم تأتي على الإسلام الذي تعلمته من نساء حي الزيتون ومن جدتها، الإسلام الذي كان يخص النساء وحدهن، بحسب تعبيرها، وتعلمته من خلال المعايشة وسط النساء وليس من خلال التلقين الرسمي لتعاليم الدين، مثلما يتعلمه الرجال. فكان الإسلام بالنسبة لها «طريقة للعيش» وليس مجموعة من القواعد. وهذا هو الفرق الرئيس بين إسلام الرجل وإسلام المرأة، فإسلام المرأة، كما تذكر، هو في الحقيقة تقليد شفهي، أما إسلام الرجل فيقوم على النصوص المكتوبة. إذن ما استخلصته ليلى أحمد من الإسلام هو ما تعلمته من نساء عائلتها، أي الروحانية والنقاء والرحمة والشفقة والمساواة والسلام. ومع ذلك فإنها ترى أن سلمية والدتها وجَدَّتها لها دور بارز في ردود أفعالهن السلبية إزاء الظلم الذي يتعرضن له.

تنتقل الكاتبة في الفصل السادس للحديث عن دراستها، حيث التحقت بمدرسة إنجليزية في مصر الجديدة، وقد جعلها حبها للقراءة تتقدم على أقرانها بسنوات. ثم التحقت بعد ذلك بمدرسة تبشيرية، ولكن سرعان ما أخرجها والدها منها عندما علم بمحاولة أحد المعلمين تنصيرها. ثم تحدثنا عن بعض اللبس الذي عانته حول اختلاف الديانات، فقد نشأت على فكرة مفادها أن الجميع يؤمنون بالإله نفسه، ولكن كل فرد عليه أن يؤمن بما وجد عليه آباءه. وواجهت الكاتبة صعوبات كثيرة في أثناء مسيرتها الدراسية؛ بسبب كونها مسلمة، وأحيانًا بسبب كونها فتاة. ثم تأخذنا للحديث عن التوتر الذي شعرت به إزاء «هويتها»، فيتضح لها أنها لطالما كانت مؤمنة بأن الثقافة الغربية أفضل من ثقافتها الأصلية.

وتقول الكاتبة في الفصل السابع: إنها بدأت التفكير في مسألة المساواة الاجتماعية وبخاصة بعد تولي الحكومة الثورية السلطة في مصر. وتتحدث بمزيد من التفاصيل عن معارضة والدها خطاب عبدالناصر بخصوص تأميم قناة السويس، وعن المشاكل التي حلّت بالعائلة عقب تلك المعارضة. أما الفصل الثامن فيتناول ما شعرت به من سعادة إثر التحاقها بجامعة غرين تاون، فقد رأت تشابهًا كبيرًا بينها وبين جامعة عين شمس، كما وجدت تشابهًا بين نساء غرين تاون ونساء حي الزيتون، ولكن الفارق هو أن نساء غرين تاون لا يعرقل الرجال طريقهن. ثم تتعرف الكاتبة إلى مجموعة صغيرة من الطلاب غير البريطانيين، وتتواصل معهم باستمرار، وكانوا يروون لها تجارب التفرقة العنصرية المروعة التي مروا بها من فور وصولهم إلى الكلية، فتكتشف أن المعلمين كانوا يحاولون دائمًا إقناع الطلاب المسلمين بالدخول في الديانة المسيحية.

وبصرف النظر عن كل ما تعرضت له فقد منحتها غرين تاون الفرصة لتشق طريقها الخاص في ممارسة الحياة الأكاديمية. ثم تحدثنا عن رؤيتها للموقف السلبي للمرأة العربية، فهي تشعر بالازدراء تجاه النساء العربيات وبالأخص تجاه والدتها. تقول الكاتبة: إنه كان من حق رجال ونساء الغرب فقط أن يحققوا النجاحات والإنجازات في حياتهم، أما النساء ذوات البشرة غير البيضاء فليس لديهن ما يساهمن به. ثم تقرر الكاتبة بعد هذه المواقف المتتالية أنها لن تكون أبدًا مثل النساء اللواتي نشأت بينهن في مصر، وبخاصة والدتها.

وفي الفصل التاسع تكتب عن عودتها إلى منزل عائلتها في القاهرة بعد إنهاء دراستها في غرين تاون، فتجد أن حديقة المنزل قد انهارت بالكامل، وأن والدها قد أصبح ضعيفًا مريضًا، وأن مربيتها قد فارقت الحياة منذ وقت طويل، إضافة إلى المشاكل المالية. ثم تَتطرَّق إلى عدم قدرتها على مغادرة مصر لبدء دراساتها العليا في كِمبريدج؛ بسبب الضوائق المالية من ناحية، وبسبب مشاكل والدها مع عبدالناصر الذي كان مصممًا على سحقه، من ناحية أخرى.

قضايا الاختلاف العرقي

معاناتها للحصول على جواز السفر للعودة إلى إنجلترا لبدء دراساتها العليا، وما واجهته بعد ذلك من عوائق خلال مسيرتها الجامعية، كان موضوعًا للفصل العاشر. وتحدثنا فيه عن خوفها من أفكار الثورة الاشتراكية، وعن محاولاتها للتعرف إلى أشخاص جُدُد على الرغم من عدم اكتراث الغربيين بوجهات نظر أحد غيرهم.

وتكلمت عن شعورها بالغربة في إنجلترا؛ لأن كل ما كانت تدرسه لم يكن ينطبق عليها، فيدفعها هذا للتفكير في قضايا الاختلاف العرقي والثقافي التي واجهتها خلال حياتها، وكانت آنذاك تمرّ بصدمة بسبب «هويتها»، حيث كانت واجهت عواقب وخيمة كثيرة مرتبطة بعروبتها. ثم تحدثنا عن زيارة والدتها لها، وقرارها الزواج هي وصديقها آلان في حضرة والدتها، ثم تشخيص إصابة والدتها بالسرطان وموتها بعد ذلك بوقت قصير؛ يتسبب هذا الأمر في شعورها بالوحدة والحزن الشديدين، ثم إصابتها بأمراض عدة. وفي هذا الوقت كان صراع العقائد يشعل في رأسها ثورة أخرى، فقد عاشت دائمًا في مجتمع كان فيه المعتقد الديني مجرد جزء من الحياة. وفي الوقت نفسه كانت فكرة «عواقب أن تكون المرأة مسلمة» قد اجتاحت عقلها.

تنتقل الكاتبة في الفصل الحادي عشر لتحدثنا عن صداقاتها بأشخاص كثر من ديانات أخرى، على الرغم من أن الاعتقاد السائد آنذاك أن كون المرء عربيًّا يعني كرهه للديانات الأخرى، كما تحدثنا عن تلك الحقبة القمعية في مصر، حيث وضعت الشرطة آذانها السرية في كل مكان لرصد أي سلوك «غير عربي». ونجاح الدعاية والتخويف الذي جعل أحدًا لا يشكك في فكرة العروبة، إلا أن الكاتبة لم تقتنع بهذا التفسير المتداول للعروبة، وتقرر التعمق أكثر في البحث، فتدرك أن العروبة من صنع شعوب وثقافات أرادت أن تحافظ على الإمبراطورية الإسلامية، فتشعر أن هذه العروبة ما هي إلا هوية سياسية.

وتقرر التعايش مع كونها امرأة عربية، خصوصًا وهي تواجه الجهل والتحيز، فتقع في شَرَكِ نُسختيْنِ زائفتين من العروبة: الأولى بناها الغرب، والثانية أسستها الشعوب العربية. وتذكر الكاتبة أن الأوربيين يستعملون مصطلح «عربي» لتبرير طرائق معاملتهم المشبوهة حيال العرب، فالعروبة لهم تعني مستوى أدنى من الإنسانية.

ينتهي كتاب الباحثة ليلى أحمد عند الفصل الثاني عشر بالحديث عن انتقال الكاتبة إلى أبو ظبي؛ للمشاركة في مبادرة لتحسين النظام التعليمي، حيث عملت هناك في لجنة كل أعضائها من الرجال، وبذلك تُجرِي هي بنفسها مقابلات مع النساء لمعرفة ماذا يردن تحديدًا من النظام التعليمي الجديد، وتسعى للتأكد من أن جميع النساء يستطعن الاستفادة من هذا النظام. وتكتشف أن أغلبية النساء اللواتي قابلَتْهن من الطبقة الحاكمة أُمِّيَّات، ولكنهن أيضًا ذكيات جدًّا، ويعرفن ما يريدنه من الحياة. فكانت الكاتبة مندهشة من شغفهن وإرادتهن القوية، ولكنها احتاجت إلى قدر كبير من الصبر والمثابرة للتعامل مع رئيس اللجنة، فهو كان رجلًا متحيزًا جنسيًّا وبغيضًا على نحو خاص.

كانت هناك أمور أخرى جعلتها تشعر بالحَنَقِ في الإمارات، مثل تخصيص الأماكن العامة للرجال فقط، وهو ما اضطرها للسير عبر الواحة التي تقع خلف مسكنها، ولذلك كانت تشعر بالدونية والإقصاء والوحدة وأنها مقيدة بسبب هيمنة الرجال، ثم تبدأ الأمور تسوء عندما تلاحظ الثقافة الذكورية القمعية في كل مكان من حولها، وتكون هذه المرحلة هي بداية دخولها في الحركة النسوية، فتقرر إعادة النظر في تاريخ النساء المسلمات، ولكنها تذهب إلى أميركا للقيام بذلك بحُرّية، فتتعرض لصدمة ثقافية بمجرد وصولها إلى هناك.

فعلى الجانب الأكاديمي كانت مندهشة تمامًا من الحركة النسائية الفعلية النشطة في الولايات المتحدة، ولكن كان عليها أن تواجه العداء الذي تعرضت له هي والنساء المسلمات الأخريات من النساء البيضاوات؛ ذلك أن النساء البيضاوات يتصرفن كما لو أنهن يعرفن كل شيء عن الإسلام، وأن ليلى أحمد عليها أن تتنحى جانبًا. وتحاول أن تعيد النظر في التقاليد، وفي كيفية تمكين النساء من المشاركة، فتبدأ العمل بجد في مجال دراسات المرأة.