حشد من الإوَزّ يعبر السماء
الخَسّة الصغيرة
أستطيع أن أحتمل كل شيء،
منظر الحبوب المتيبسة،
الأزهار الذاوية، العزلة
وأستطيع أن أنظر إلى البطاطا وهي تقتلع
من الحقل دون أن يرف لي جفن،
في مثل هذه الأمور أكون صلبًا حقًّا.
لكن أن أرى خسة صغيرة في أيلول،
زرعت للتو، لم تنضج بعد
في حاضنة رطبة، لا.
تحت شجرة التفاح
وصلت البيت، الساعة كانت
الثامنة وقلّما يكون الطقس معتدلًا
في مثل هذا الوقت من السنة،
مقعد الحديقة جاهز
تحت شجرة التفاح
جلست متطلعًا إلى الجار الذي
ما زال يعزق أرض الحديقة،
الليل انبثق من الأرض وضوء
أزرق تدلّى من شجرة التفاح
وببطء أصبحت أكثر جمالًا
مِن أن تكون كذلك حقًّا،
اختفى روتين النهار أمام رائحة
التبن، هناك دُمًى ملقاة على العشب
وبعيدًا في البيت ضحك الأطفال في الحمّام
يصل مكان جلوسي، تحت
شجرة التفاح
ثمّ سمعت أجنحة
الأوز في السماء
سمعت كيف تصبح
هادئة وفارغة
ولحُسن الحظ جاء أحدهم وجلس
بجانبي، وتحديدًا أنت الذي
جاء بجانبي تحت
شجرة التفاح، هذا الدفء
والقُرب قلّما يحدث
في مثل عُمرينا.
العودة إلى الطبيعة
مقطع
هناك رجل
لم أكن قد رأيته
ملك الطبيعة،
على أية حال هو يظن ذلك
لأنه سمع أن في الطبيعة
يمكن أن تجد أشياء كثيرة،
الهدوء، الحرية، السعادة
وأن يجد نفسه أيضًا.. هكذا
ما يكفي على أية حال
لكي يمضي إلى هناك.
ذهب وعاد وهو صامت
عندما أصبح الطعام بين يديه
الصمت. من يريد أن يصف الصمت
عليه أن يغلق فمه،
ومن لا يستمع لن يسمع
وليس لديه ما يقوله.
الحرية. إنها لفوضى جميلة للغاية
إذا كانت الحرية تجعلك دؤوبًا قليلًا
وفي النهاية لن يفهمنا أحد.
لكن من المؤسف أننا نفهم
بعضنا بطريقة واضحة تمامًا
حتى في فخامة اللغة المرة
للشعراء نقول كل شيء
من ذواتنا.
السعادة. السعادة التي ننشدها في الشهوة
لن تتحقق. سوف ينكبنا الموت
مثل أوراق ميتة لها طعم الطين
مثلما تمزق طاحونة الهواء
جسد اليمامة. تحترق بفعل الشمس.
من لم يكن قويًّا كفاية
سيبقى ملهوفًا…
الأحمق قرب النافذة
أيام وأيام، فقط بالقرب من النافذة،
يقلب الأحمق بأفكاره الغريبة،
يفكر بما يريد.
لكن لا أحد يريد أن يعرف
شيئًا مما يفكر فيه
يعرفون أنه أحمق
أما فيما يفكر
فليس هنالك من جواب.
ينظر الأحمق عبر النافذة
إلى المدينة
إلى ساعة الكنيسة
والزمن الذي يمر.
إنه يمضي مثل رأس
في الضباب.
الرجل بأفكاره الكثيرة
الذي يعرف ببساطة
أن لا أحد يريد أن يعرف
ما يفكر فيه
بعد كل خلاصة يسمعها
يعرف ماذا كسب وماذا خسر،
الأحمق قرب النافذة الذي ينظر
عبر المدينة
إلى ساعة الكنيسة
والزمن الذي يمر.
لا أحد ينظر أو يتظاهر بالنظر
ماذا كان يرى
أو ما لا يمكن أن يرى.
إنه لا يستمع لأحد
ولا يحب الحمقى
وليس منهم.
الأحمق الذي يقف إلى جوار
النافذة وينظر عبر المدينة
إلى ساعة الكنيسة
والزمن يجري.
أغنام
هكذا هن دائمًا، كل مساء
يجئن إلى الماء، يقفن ببطء
وينظرن إلى الجانب الآخر
من النهر.
كلهن مختلفات ومتشابهات
كلهن يجئن دفعة واحدة
وأنا، أنا واحد منهن
ولكننا لم نعرف من يجيء
قبل من؟
يصبح النهر في النهاية
صافيًا تمامًا
وأسود أيضًا
ليس الماء وحده
ولكن الزمن أيضًا
يصبح صافيًا.
يرتوين حتى يغرقن
في أشباحهن.. في ظلام هذا الماء..
في سواد الليل العميق.
وفي الصبح تندلق شلالات الضوء
والنسمات، من النهر عبر الوديان
حيث يعدن مرة أخرى
إلى الحقول الفضية.
دائمًا القطيع نفسه
وفي الوقت نفسه القطيع المختلف
ولكن ما هو الفرق بين القطيعين؟
نحن لا نعرف
هكذا وبصفاء تام.
أوز
ماذا كنت تعني بقولك: عميق
هذه الكلمة تعني ما أشعر به الآن: عميق.
هناك حشد من الأوز يعبر السماء
الثلجية الصافية في ديسمبر
هذا ما كنت أعنيه أنظر: أوز
يا إلهي ما أعلى أصواتهم الرفيعة
هذا لأنهن يصرخن معًا
كحظ أعمى
نحن نعرف العمق ونسميه السماء
إنه شعور قديم، نوع من الرقة
أقدم مني
طيلة حياتي كنت أرى وأسمع هذا
وعندما كنت طفلًا حلمت أن الأوز
يريد أن يأخذني معه
عرفت الآن أنني يجب أن أنسى ذلك
…………………………………
ما زلنا ننظر ونسمع.
شاعر وكاتب من الطراز الفريد، أستاذ كرسي الدراسات النفسية في هولندا، ويُعَدّ من أكثر الشعراء الهولنديين قراءة، فلغته واقعية متقشفة وقريبة من القارئ. أصدر ديوانه الأول «بين الماشية» في عام 1966م حيث يستخدم المفارقة في قصائده التي كثيرًا ما تبدأ في أماكن مألوفة وأوضاع قريبة من حياة القارئ. حصل في عام 1988م على جائزة أدبية مرموقة لِلُغته الواضحة المكثفة التي تكاد أن تكون علمية. أصدر في عام 2001م «الشوق إلى السيجارة» وفي عام 2008م «عندما شاهدت» وتوالت بعد ذلك إصداراته. ترجمت نصوصه إلى الفرنسية والألمانية والإنجليزية وها هي الآن مترجمة إلى العربية بين يدي القارئ العربي عبر دار نشر مسوبوتاميا في بغداد 2015م.
ولد الشاعر روتخر كوبلاند في عام 1934م في مدينة خروننكن شمال هولندا، وتوفي عام 2012م مخلفًا إرثًا علميًّا وأدبيًّا كبيرًا. وهو عالم نفسي لكن شهرته شاعرًا غطت على شهرته عالم نفس. يستخدم في كثير من الأحيان مشاكل مرضاه النفسية في نصوصه كما يظهر ذلك في المفارقات التي تحفل بها قصائده المبكرة، التي تبدو لأول وهلة بسيطة لكن قراءة متأنية لهذه النصوص تظهر عمقها وطبيعة موضوعها المعقد في أغلب الأحيان.
يستثمر كوبلاند الطبيعة من كل جوانبها وعلاقتها بالإنسان والحيوان، ويربط ذلك دائمًا بالمصير البشري من خلال تناوله ثيمة الموت البيلوجي والنفسي سواء كان يتحدث عن الإنسان أو الحيوان أو النبات؛ لأن الطبيعة بالنسبة له كل واحد لا يتجزأ، وغالبًا ما يقلب الأدوار، ويجعل الحوار يدور على ألسنة الحيوانات.
منذ ديوانه الأول حتى آخر ديوان صدر له بقي مخلصًا للطبيعة بشموليتها، وقد يكون عيشه في مدينة خروننكن بحقولها وغاباتها ومراعيها الجميلة أثر كبير في ذلك. فالمناظر الخلابة لهذه الحقول وكثرة الحيوانات المختلفة التي ترعى هناك تسحر المرء وتدعوه إلى تأملها، فهي تبدو مثل جنة فسيحة هادئة لا يعكر صفوها أحد.
يخصص كوبلاند مساحات متساوية للنبات والحيوان والإنسان في نصوصه كما في قصيدته الشهيرة «الخَسّة الصغيرة»، التي أصبحت عنوانًا لمجلة أدبية واسمًا لمؤسسة تُعنَى بالترجمة نظرًا لصعوبة ترجمة شعره المليء بالمشاعر المتناقضة والمتذبذبة. كما يخصص المساحة نفسها للحيوان خصوصًا الكلب الذي يتماهى معه إلى درجة التطابق، ويتبادل الأدوار معه بحيث يجعله يتحدث نيابةً عنه كما في قصيدة «بورتريت مع كلب».
أما الإنسان فهو لا يكتفي بوصف مشاعره الداخلية، بل يخصص لكل فئة عمرية نصوصًا تتحدث عن هذه المشاعر، فهناك نصوص مخصصة للأطفال وأخرى للمراهقين ولمتوسطي العمر وللشيخوخة كما يحدث في نصوص «مغادرة البنات» ونص «تحت شجرة التفاح» ونص «بلا عنوان». ومع أنه طبيب نفسي فهو لم يذكر مفردة الجنون في هذه النصوص ولا مرة واحدة؛ لأنه يرى الجنون مرضًا مثل أي مرض يصيب الإنسان؛ لذلك يختار مفردات رقيقة وشفافة لوصف هؤلاء المرضى الذين يشفق عليهم؛ لأنهم لا حظ لهم حيث وُلِدُوا بهذه العاهات كما هو الحال في نص «الأحمق قرب النافذة».
يبقى أن نقول: إن الشاعر روتخر كوبلاند هو من الشعراء المؤسسين للقصيدة الحديثة في الشعر الهولندي المعاصر، وأصدر أكثر من أحد عشر ديوانًا شعريًّا وعددًا من المختارات الشعرية، وتحوَّلت نصوصه إلى أفلام وإلى لوحات نحتية وجداريات في شوارع المدن الهولندية، واختِيرَ شاعرًا للأمة الهولندية عام 2005م.