كامالا ثريا.. رائدة الشعر النسائي في الهند
«تمسك القلم كأنه مشرط في يد جراح، تشق اللحم وتكشف النخاع، تكتب عن حياتها بالشجاعة نفسها التي تكتب بها عن حياة الآخرين، آخر كتاباتها هي مذكرات حياتها، حيث تقول عن نفسها: إنها لا تملك إلا الصدق وهذا الصدق دفعها إلى ترك بيتها وزوجها والمدينة الكبيرة بومباي، وتذهب لتعيش في قريتها مع أهلها الأصليين النابر، حيث الثقافة الهندية الأصيلة، التي تحترم المرأة وتمنحها السيادة داخل البيت وخارجه كالإلهات القديمات»، هذا ما قالته الكاتبة المصرية الدكتورة نوال السعداوي في وصفها للشاعرة والقاصة الهندية كامالا داس ثريا.
وسط هذا الأرخبيل الأدبي والثقافي الذي تعجّ به الهند ويميز آدابها، كان للشاعرة والأديبة العالمية المحبوبة كامالا ثريا وجودها ونفوذها، التي أنجبتها قرية بونا يوركولام في منطقة المالابار بولاية كيرالا في 31 مارس 1934م، في عائلة ميسورة الحال ذات ثروة أدبية، تدعى «نالاباتو»، ابنة السيد «في يم نايار» محرر جريدة محلية معروفة، والسيدة «بالامانياما» الشاعرة الماليامية المشهورة، تزوجت في الخامسة عشرة، وهي تتكلم الماليامية لغة ولاية كيرالا.
السيرة والمسيرة: انتقلت كامالا في طفولتها بين مدينة كالكوتا شمال غرب الهند حيث كان يعمل والدها، وبين موطنها قرية (بونايوركولام) في منطقة جنوب المالابار، وفي سنّ الخامسة عشرة تزوجت السيد (ماداوا داس) وكان بينهما فارق كبير في السن، إلا أنه أدّى دور الأب لكل من زوجه وأطفاله، وكان عمرها 16 سنة عند ولادتها الأولى، وقالت في أحد مؤلفاتها: «ما كنت ناضجة كفاية من أجل الأمومة إلا عند ولادة ابني الثالث». وكان الأبناء الثلاثة في علاقة ودية عميقة مع والدتهم على الرغم من أنها اختلفت معهم في الدين في أواخر حياتها، وكانوا يؤيدونها في جميع القرارات التي أخذتها في حياتها بما فيها اعتناق الإسلام.
عادت كامالا إلى كيرالا في السبعينيات بعد موت زوجها، واستقرت في مدينة كوشين وانهمكت في التأليف كما تدخلت في الحياة الاجتماعية والسياسية حتى انتقلت إلى مدينة بوناي في ولاية ماهاراشترا وسط الهند في عام 2007م لتعيش مع ابنها الأصغر، وافتها المنية بها في 31 مايو 2009م أثناء علاج الالتهاب الرئوي، ودُفِنتْ في مقبرة مسجد بالايام في مدينة ترفاندرم عاصمة كيرالا كما أوصت، والجدير بالذكر أن أبناءها المثقفين نفّذوا وصيتها بدفنها في مقبرة المسلمين في كيرالا، وشاركوا في صلاة الجنازة في المسجد مع المسلمين رغم أنهم ينتمون إلى الهندوسية، وقد شهدت ولاية كيرالا حضورًا لم يسبق له مثيل لصلاة الجنازة، ولشهادة دفنها مع كل الاحترامات الرسمية من جانب الحكومة نظرًا لشهرة شخصيتها.
أحبّت «كامالا» الشعر والأدب في سن مبكرة، ومالت إليهما بتشجيع من عمّها «نالابات مينون» وكان كاتبًا معروفًا، وفي سنّ الثامنة قرأت الترجمة الماليامية لرواية البؤساء لفيكتور هوغو، بعد أن نقلها عمّها من الفرنسية، كما تأثرت بشاعرية أمّها «نالابات بالامانياما» وكانت شاعرة معروفة، وكان الأدباء والشعراء يجتمعون في منزلها، وقد أسهم هذا الجو الأدبي وحبّ جدّتها التي كانت تقصُّ عليها قصصًا كثيرة في صقل موهبة «كامالا» ونضج إمكاناتها، وكانت تدعى «آمي» بين المحبين والأصدقاء.
برعت «كامالا داس» في نظم الشعر وكتابة القصة، وتميّز أسلوبها بالصدق والعفوية، وقد آثرت كتابة الشعر باللغة الإنجليزية، والقصص الصغيرة بلغتها الأم (الماليالم). وتناولت مؤلفاتها قضايا المرأة، وهو ما أثار ضدها سيلًا من الانتقادات من المجتمع التقليدي، في حين يصفها كثير من النقّاد برائدة الشعر النسائي في الهند، وحملت نصوصُها أيضًا أصوات الفقراء ومعاناتهم، ووقفت إلى جانبهم ودافعت عن حقوقهم.
الكتابة للتغلب على العزلة
بدأت الكتابة كوسيلة للتغلب على العزلة والحنين أثناء إقامتها مع زوجها المشغول بوظيفته بمؤسسة النقد الدولي، ولكن زوجها أيد مبادرتها الأدبية فبدأت تنقل مشاعرها وعواطفها الخفية إلى الشعر والنثر، فجاءت أول مجموعة شعرية لها «الصيف في كالكوتا» في 1965م، وثبتت صعود شاعرية ثورية في الأدب الإنجليزي الهندي.
من نتاجها في القصة كتاب «قصتي»، وقد ترجم إلى خمس عشرة لغة، ونظمت في الماليالم ديوانًا بعنوان «يا الله ويا محمد» وذلك بعد اعتناقها الإسلام، وتعبّر الشاعرة في هذه القصيدة عن سؤالها حول الموت والحياة، ولها ديوان «امرأة ضائعة»، وديوان «الروح وحدها تعرف كيف تُغنّي» باللغة الإنجليزية، وقد أصدرته سنة 1996م، كان اعتناق كامالا للإسلام مخاطرة لها، لقد استفحلت الضجّة حول عملها هذا، وتعرّضت لتهديدات بالقتل في وطنها، وبخاصة بعد ارتدائها الخمار.
ترشحت ثريا لنيل جائزة نوبل عام 1984م، وحصلت على جائزة الشعر الآسيوي عن ديوان «صفارات الإنذار» وغيرها من الجوائز الأدبية الآسيوية والمحلية، وحققت شهرة عالمية منقطعة النظير من خلال كتابات جعلت من الهم الإنساني عامة وهموم المرأة خاصة شغلها الشاغل متجاوزة الكثير من الحواجز الاجتماعية ومخترقة الثالوث المقدس في المجتمعات الشرقية القائم على الدين والسياسة والجنس. حالها في ذلك حال معظم الكاتبات الهنديات اللواتي يتناولن قضايا مجتمعهن بحرية كبيرة، حيث راحت تكتب بغزارة فألفت أكثر من 30 رواية بلغة الماليالم التي يتكلمها الناس في منطقتها كيرالا، وبذلك شغلت ثريا مكانة خاصة وبارزة في أدب ماليالم الحديث مستخدمة في أحيان كثيرة اسمها المستعار مذافيكوتي، بينما نشرت أشعارها ضمن 14 أنطولوجيا شعرية.
البحث المتتالي عن الحب
كانت مؤلفاتها تعكس بصورة رئيسة مشاعر المرأة والبحث عن الحب والقيود المربوطة حول المرأة في المجتمع، وبعد ثبات مكانتها في الشعر بدأت تكتب قصصًا قصيرة جميلة ذات حيوية باللغة الإنجليزية وبلغة الماليالم، وكانت تكتب الحقائق بكل صراحة وحرية بعيدًا من أي قيود، فأخذت الغالبية في المجتمع الهندي التقليدي قصصها وقصائدها بفهم خاطئ، كما وجّه بعض النقاد انتقادات حادّة إلى بعض أعمالها مثل: «مدخل» (شعر)، و«الأحفاد» (شعر)، و«أبجدية الشهوة» (رواية)، و«الروح وحدها تعرف كيف تغنّي» (شعر)، أما سيرتها الذاتية «قصتي» المنشورة عام 1976م، فقد وضعتها على محور الجدل. وفي هذا العمل كانت جريئة جدًّا حين راحت تبوح بكل أسرار حياتها بما فيها الحب والجنس في سن 47.
أسلوبها في ثوب الواقعية الصادقة
ميز أسلوب كامالا ثريا الواقعية الصادقة، وكانت تفضل كتابة الشعر بالإنجليزية والقصص بالماليالم، وتناولت مؤلفاتها قضايا المرأة ضمن المحظورات داخل المجتمع الهندي، فقصائدها كانت بمنزلة الدعوة لانطلاق الأصوات النسائية احتجاجًا على واقع اجتماعي قاسٍ، مليء بالظلم الذي تفرضه قوانين وموروثات الحياة في الهند، وحملت نصوصها أيضًا أصوات الفقراء ومعاناتهم مع تفاوت الطبقات داخل مجتمع قاسٍ. كتبت كامالا ثريا تحت ثلاثة أسماء وكل واحد منها يدل على ثلاث مراحل في حياتها؛ كتبتْ باسم «كامالا داس» باللغة الإنجليزية، ثم استعارت اسم «مادوي كوتي» عندما كتبت بالماليالم، وبعد إسلامها كتبت باسم «كامالا ثريا» بالإنجليزية والماليالم، ومع ذلك كان جميع المحبين يدعونها باسم «آمي».
نماذج من مقطوعاتها الشعرية
قصائدها التي نظمتها الشاعرة بعد اعتناقها الإسلام، ترجمت هذا الاعتناق قولًا وفعلًا وممارسة، فكرّست رحلتها إلى هذا الدين الحنيف، رحلتها إلى الإيمان الحقيقي، بإصدارها ديوانًا نظمته بلغتها المحلية «الماليالم» بعنوان «يا الله»، وقد تَرجم «كليم أحمد» أحد الأدباء الهنود المقطوعات الأولى من الديوان إلى اللغة الإنجليزية، ثم تولى الدكتور شهاب غانم ترجمة ثلاث مقطوعات منها إلى اللغة العربية.
في هذه القصائد انخراط حقيقي وفعلي في الدين الإسلامي وتعاليمه السمحاء، وأوّلها مناجاة «كامالا ثريا» اللهَ سبحانه وتعالى، وهي في أبيات قليلة تحدّد معنى الألوهية القائمة على أن الله واحدٌ أَحَدٌ، لا شريك له ولا شبيه، إضافة إلى الحديث عن قدرة الله التي لا تحدها حدود، إنه المعبود وحده.
«تمحو حدودَ الأرضِ والأبعادْ/ فلا تحدُّك الديارُ والجبالُ والمهادْ/ لكنني أحويكَ في قرارةِ الفؤادْ/ فهل فؤادُ المرءِ عالمٌ بلا حدودْ/ يا ربُّ من أنتَ وحدَكَ المعبودْ».
إن ما أشارت إليه الشاعرة في هذه الأبيات إشارة إلى حقيقة أساسية في الدين الإسلامي، وهي قضية الإيمان المطلق بالله سبحانه وتعالى ووحدانيته، فهي تدركه في الموجودات في قرارة فؤادها، وهذا عائد ربما إلى تثقّفها بالقرآن الكريم، أو نتيجة تأملات بالكون والطبيعة واستخلاص العِبَر الدينية منها. وتُناجي الشاعرة الله سبحانه في أداء شعري حنونٍ خاشعٍ متبتّل، فالدين بكل ما فيه حرية وانطلاق إلى الأبعاد، وما هو بقيودٍ تحدُّ من حركة العقل والجسد: «يا أيها الذي ليس له حدودْ/ يا رب يا اللهُ يا معبودْ/ فلا قشور الدين أو أصدافه قيودْ/ إذ أنت غاية الغايات في الوجودْ/ وهكذا أسعى إلى ضيائكَ المديدْ/ وظلُّكَ الظليلِ والممدودْ/ كيما أنال السَّعدَ والصفاءْ/ وأُغمضَ العينين في المنام في هناءْ».
ها هي كامالا ثريا تؤكد مرة أخرى على وجود الخالق في كل زمان ومكان، فهو لا تحدُّه الأزمنة والأمكنة، وهو المعبود الواحد الأحد الصمد. وتشكر الله في قصيدة أخرى على أن أنعم عليها بالإسلام، لقد أصبح الكون مِلكَ يمينها، وتحصّنت بالإسلام الذي يحميها بِقِيَمِهِ ومبادئه حيث لن يجرؤ أحد بعد الآن على الطعن فيها والنَّيْل منها، فليست وحيدة في هذا العالم، معها حب الله ونوره، وهي وحدها تسمع تسبيحاته فيما خلق ، وتُنعم أذنيها وقلبها بألحان قوافيه الساحرة المخبئة في أعماق البحار.
وهكذا تحققت أمنيتها عندما صلّت للرب الواحد الأحد هناك، وهطلت عليها أمطار الرحمة الإلهية عندما أشرق وجهها بابتسامة لم تعهدها من قبل:
«لن يجرؤ أحد أن يرميَكِ بالحجارة بعد الآن/ لا تبقي على آلام الحسرة في صدركِ/ الهدوء الساحرُ المخبأ في أعماقِ/ البحار المضطربةْ/ أصبح ملككِ منذ اليوم/ اللونُ الناعمُ للغروب/ حيث يلتقي اليومُ الآفلُ اليومَ الوليدْ/ أصبحَ ملْكَكِ منذُ اليومْ/ لقد عبرتِ البراري والقفارْ/ والتلال والأنهار/ لتصلي هنا/ وعندما أصبحتِ تحتَ الشجرةِ المزهرةْ/ هطلتْ عليكِ الأمطار/ ثم هطلت الأزهار/ وأشرقَ وجهكِ بابتسامة مضيئة».
وتقترب الشاعرة الهندية أكثر من الصوفيين، بل تزاحِمهم في هذا العشق للحضرة الإلهية، عبر مناجاة تحمل الكثير من المعاني، في قصيدة «امرأة ضائعة»، تلامسُ كامالا ثريا حياةَ الصوفيين الروحية أمثال حافظ الشيرازي، وجلال الدين الرومي، وعمر الخيام، وسواهم ممن حقنوا الشعرَ بتعاليم الصوفية وصورها الخالدة:
«لستِ وحيدةً يا ثريا/ إنَّ حُبَّ الله العميق مثل نور القمر الناعم/ أنتِ وحدكِ تسمعين قوافي الألحان الصامتة/ مثلما البحارُ عند جَزْرِ التيار/ لقد أغمي عليكِ عند الباب/ وأنتِ تجاهدين لترتقي تلك الدرجات الشاهقة/ بأقدامكِ الداميةِ الناعمهْ».
هكذا تلامس الشاعرة فلسفة الوجود، وتأثير ما فيه على الكائنات، فكل ما نراه في الخارج ونتأثر به يخترق إحساسنا ودواخلنا، ويربط بين الإنسان وكل ما يحيط به في الوجود، وهاكم هنا بعض أشعارها المترجمة بيد الشاعر والمترجم الأردني نزار السرطاوي عنوانها «كلمات» المأخوذة من ديوان الصيف في كالكوتا:
«في كل مكان من حولي كلمات كلمات كلمات،/ تنمو على جسدي مثل أوراق الشجر، لا يبدو/ أبدًا أنها تتوقف عن نُموّها البطيء/ من أعماقي… لكنني أقول لنفسي: إن الكلمات/ تسبب الضيق، حَذَارِ منها، يمكن/ أن تكون أشياء كثيرة،/ هوّةً ينبغي على الأَقدام أن تتوقف كي/ تراها، بحرًا موجاته تشلّ الحركة،/ انفجارًا من الهواء الحارق،/ مُدْيَةً ترغبُ في أن تحزّ رقاب/ أفضل أصدقائك… الكلمات تسبب الضيق، لكنها/ تنمو على جسدي كما تنمو الأوراق على الشجرة،/ لا يبدو أبدًا أنها تتوقف عن الزحف/ من صمتٍ يكمن في مكان سحيق في أعماقي…».
يمثل شعر كامالا التوق إلى الحرية والانعتاق من الماضي، فهو من ناحية يقدم نموذجًا شعريًّا جديدًا ينأى عن الرومانسية التي تمتد جذورها إلى القرن التاسع عشر، وعن التجربة الاستعمارية التي تمثل الحقبة التي كانت الهند ترزح فيها تحت نير الاستعمار البريطاني، ومن ناحية أخرى يتلمس طريق الخلاص للمرأة الهندية من التقاليد التي تسلب إرادتها وتنكرعليها أنوثتها، وفي كلتا الحاليْنِ فإنه يتّخذ منحى ذاتيًّا يستمد مادته من تجاربها الشخصية؛ لذا فإن الكثير من الدراسات النقدية حول شعر كامالا ركزت على البعد الاعترافي في قصائدها.
وظلت طوال حياتها ملتزمة بقضايا مجتمعها وعصرها، وبقيت تعالج بلا انقطاع مشكلات وتجارب متصلة بالمرأة والواقع المرير الذي تعيشه في كنف مجتمع السلالات والطبقات الصارم الذي لا يرحم بعاداته وتقاليده القاسية، ولا سيما فيما يتعلق بقلة احترام وازدراء رغبات وتطلعات المرأة، رافضة المحرّمات والصمت الذي يفرضه التقليد الهندي على تلك المواضيع.