عمارة تدعو إلى التعايش وتتحدى الكراهية
«يتجلى الاختلاف الرئيس في حياتنا اليوم، بالمقارنة مع حياة أجدادنا، ليس من خلال الوتيرة المتسارعة للتغيير ضمن المجتمع فحسب، بل وبمدى قبولنا به أيضًا. إذ يقبل معظمنا التغيير السريع في المجتمع، سواء كان ذلك نتيجة لانتقال الناس من المناطق الريفية إلى التجمعات الحضرية، أو الهجرة بين القارات، أو إدخال تقنيات جديدة، أو الأخطار البيئية والطبيعية، أو حتى التغيير الناتج عن الحروب والصراعات المؤسفة التي يتجاوز تأثيرها حدود الدولة الواحدة».
بهذه الكلمات يفتتح السيد فرّخ درخشاني، مدير جائزة الآغا خان للعمارة، الكتاب الذي صدر مؤخرًا عن دار النشر الألمانية أرك تانجل (ARCHI TANGLE) بعنوان «عمارة التعايش…بناء التعددية»، والذي قامت بتحريره المعمارية أزرا أكشاميا، إلى جانب عدد من المعماريين والخبراء الرائدين في مجال العمارة والفلسفة في العالم، من بينهم محمد الأسد، وناصر الرباط، وولفغانغ ويلش، وهيلين والاسيك، وأميلا بوتروفيش، وآمر حجي محمدوفيتش، وآخرون.
من خلال مجموعة من الآراء الشخصية والتجارب المتميزة التي تم اختيارها من مناطق مختلفة من العالم، يسلط الكتاب الضوء على دور العمارة في التصدي لعدد من القضايا الحساسة التي تتعلق بشكل أساس بموضوعات التعايش والتعددية، وكيفية تقبل الآخر، والتكيف مع التغيرات ضمن المجتمع، واحترام الاختلاف بين الثقافات والشعوب، والاحتفاء بهذا الاختلاف وتسخيره في خدمة المجتمع، خاصة في ظل الظروف التي يشهدها العالم اليوم، والتي تدفع إلى مزيد من موجات الهجرة والنزوح للأفراد والمجتمعات.
ويؤكد الكتاب على أن عملية التغيير ضمن المجتمعات لطالما انعكست بشكل واضح وملموس في البيئة المبنية والهندسة المعمارية التي تشكلها أيضًا، وخاصة في المدن والتجمعات الحضرية الكبيرة. ولكن، هذا التغيير كان ولايزال يصاحبه في الوقت نفسه مجموعة كبيرة من التحديات والصعوبات، كما يشير السيد فرّخ درخشاني، الذي يضيف قائلًا: «مع تعدد الثقافات والأعراق على نحو متزايد في المدن الكبيرة، بدأ ظهور تناقضات صارخة في التعليم والثروة والرفاهية. وبالتالي، فإن التحدي أصبح يكمن في تقدير التنوع والتوسط بين انقساماته».
ولفهم هذه المعادلة الصعبة ولتسليط الضوء على عدد من الأمثلة والنماذج العالمية المتميزة التي تبرز دور العمارة والهندسة المعمارية في دعم وتعزيز مفهوم التعايش والتعددية، يركز الكتاب في صفحاته بشكل خاص على ثلاثة محاور رئيسة، وهي: دور العمارة في الحفاظ على الهوية العرقية والدينية وخاصة في دول الاغتراب أو التجمعات الحضرية التي تتميز بتنوع سكانها وتعدد مشاربهم العرقية وانتماءاتهم الدينية؛ وقدرة العمارة على دعم الديمقراطيات وتسهيل دمج الأقليات في الفضاء العام؛ وأخيرًا دور العمارة في تحقيق التقارب بين الثقافات واستكشاف جمالياتها ودلالاتها الثقافية في عملية البناء.
بناء التعددية
ينظر الكتاب بدايةً إلى الماضي الأوربي الحديث، ويقدم أفكارًا ملفتة حول العمارة التي بناها المهاجرون المسلمون في المناطق التي تطورت تاريخيًّا من الناحية المعمارية من قبل السكان ذي الأغلبية غير المسلمة. يقدم المؤرخ المعماري محمد الأسد في الفصل الأول من الكتاب لمحة عامة عن الديناميكيات الاجتماعية المعقدة وراء هذه المباني، والتي غالبًا ما يتعين عليها إنجاز عدد من المهام الصعبة، مثل تمثيل الخلفيات العرقية المختلفة لمجتمعات الأقليات ضمن سياق ثقافي جديد، والتعبير عن تنوعها واختلافاتها، وفي الوقت نفسه، التوسط لتعزيز علاقة هذه المجتمعات مع المجتمع المحيط الذي يشكل الأغلبية.
بينما يتحدث الدكتور ناصر الرباط في مشاركة له عن عمارة المقابر والأضرحة في التاريخ والثقافة الإسلامية، وكيف ساهمت في التعبير عن الهوية الإسلامية وتعزيزها وإغناء العمارة المحلية مستشهدًا بمجموعة من الأمثلة من حقب زمنية ومناطق مختلفة في العالم.
وتركز المعمارية أزرا أكشاميا على هذا الموضوع أيضًا، من خلال سرد تجربتها الشخصية مع أحد المشروعات التي يقدمها الكتاب كنموذج غير تقليدي لدور المقابر الإسلامية في تعزيز مفهوم التعددية في العالم الغربي، فتقول: «لن أنسى أبدًا يوم افتتاح مقبرة ألتاش الإسلامية في فورارلبيرغ (النمسا). في صبيحة ذلك اليوم، تم تقديم جولة إرشادية للجمهور. كنا نتوقع حضور حوالي خمسة عشر أو عشرين شخصًا على الأكثر.. ولكن العدد تجاوز توقعاتنا بكثير، حيث جاء المئات من الزوار من الأماكن القريبة والبعيدة، والمثير للدهشة أن معظم الضيوف كانوا من مجتمع الغالبية غير المسلم».
وتضيف أزرا أكشاميا أنه بينما كانت المناسبة تعني بالنسبة للجاليات الإسلامية الاحتفال بافتتاح مساحة مهمة تجمع بين المجتمعات المسلمة المختلفة التي تعيش في هذه المنطقة، إلا أنها بالنسبة للعديد من السكان المحليين وأعضاء المجتمع ذي الأغلبية غير المسلمة، كانت فرصة جيدة للتعرف على «الآخر».
يسهب الكتاب في الحديث عن هذه المقبرة الإسلامية التي تقع في منطقة فورارلبيرغ، وهي مقاطعة تقع في أقصى الغرب من النمسا وتشتهر بالصناعة، ويشكل المسلمون نسبة تزيد على 8% من تعداد السكان فيها. ويشير الكتاب إلى أنه على رغم أن مجتمع المسلمين في النمسا يملك تاريخًا ضاربًا في القدم في البلاد، إلا أنهم لم يتمكنوا من دفن موتاهم وفقًا للشعائر الإسلامية حتى حقبة قريبة من الزمن. قبل ذلك، اعتاد المسلمون، وخاصة من الجيلين الأول والثاني، على إرسال جثامين موتاهم إلى بلدانهم الأصلية، أو دفنهم في مساحة إضافية ضمن إحدى المقابر الموجودة أصلًا من دون تطبيق الشعائر الإسلامية في عملية الدفن. ولكن الحال تغير مع بناء هذه المقبرة الإسلامية الخاصة.
ويبدو الإلهام في هذا الموقع من خلال تصميمه الحدائقي، وأقسامه الرئيسة وجدرانه الإسمنتية الوردية التي تفضي إلى خمس مساحات متتالية للدفن تم توجيهها نحو الكعبة المشرفة. ويشكل التصميم البسيط والمتقن للمقبرة، وتناغمها الرائع مع الطبيعة المحيطة، مكانًا هادئا مناسبًا للتأمل الروحي، وإقامة مراسم الدفن، والحداد؛ الأمر الذي أهَّلها في عام 2013م للفوز بجائزة الأغا خان للعمارة، وهي واحدة من أهم وأقدم الجوائز المرموقة في مجال العمارة في العالم.
ويخلص الكتاب إلى أن الاهتمام الكبير بالمقبرة الإسلامية في ألتاش أوضح دورها المهم كجسر يجمع بين الأقلية المسلمة والمجتمع المضيف ذي الأغلبية غير المسلمة، كما مثلت المقبرة تحولًا مهمًّا في مفهوم الانتماء بالنسبة للجيلين الثاني والثالث من المسلمين في النمسا، وبالتأكيد محطة أخيرة للمهاجرين العرب والمسلمين في هذه المنطقة.
الحفاظ على الهوية العرقية والدينية
يتحدث الكتاب في الفصل الثاني عن وجود الإسلام منذ أكثر من خمسة قرون في أوربا، وكيف تم التعبير عنه ضمن المشهد المعماري في البوسنة والهرسك على وجه الخصوص. يؤكد الكتاب على عراقة وقدم وجود الإسلام في أوربا على رغم كل الادعاءات بعكس ذلك، ويقول ضمن هذا السياق: «تتصدى المساجد والمدارس الدينية والأحياء السكنية والمكتبات والمقابر، التي شيدت العديد منها خلال الإمبراطورية النمساوية-المجرية، للادعاءات التي تسوقها بعض المبادرات الشوفينية الأوربية، مثل «مدن ضد الأسلمة»(١)، التي تعتبر الحضارة الإسلامية غريبة عن أوربا. توفر هذه الأمثلة القديمة للعمارة الإسلامية في البوسنة، جنبًا إلى جنب مع تلك الموجودة في إسبانيا وتركيا، أدلة مادية لدحض مثل هذه الادعاءات الكاذبة».
ويركز الكتاب أيضًا على سياسات الذاكرة والحنين إلى العودة في دول البلقان، ويبحث في دور العمارة كوسيلة لخلق هوية عرقية ودينية أو قومية من خلال ترسيخ الذاكرة الثقافية في منطقة محددة. ضمن هذا الإطار، يسلط الكتاب الضوء بشكل خاص على المسجد الأبيض في فيسوكو، في البوسنة والهرسك، الذي أعيد بناؤه في عام 1980م، ويعرف أيضًا باسم مسجد شرف الدين الأبيض. يستعرض الكتاب أهمية هذا المسجد وتاريخه العريق ودوره في تعزيز الوجود الإسلامي في المنطقة من خلال مجموعة من الصور والمقالات والمقابلات التي أجراها الفنان فيليبور بوجوفيتش مع عدد من المهندسين المعماريين والأئمة والأشخاص الذين يترددون بانتظام إلى المسجد أو يعيشون على مقربة منه.
صمَّم المسجدَ المهندسُ المعماري زلاتكو أوغلجين، ويعكس تصميمه المعماري الحديث رؤية متجددة وعصرية للمسجد الإسلامي القديم الذي بني في عام 1477م، ولايزال يحتفى به كواحد من أفضل الأمثلة عن العمارة الدينية في أوربا. يعود مشروع بناء المسجد الأبيض في العصر الحديث إلى الحقبة التي أصبح فيها النظام الشيوعي في يوغسلافيا أكثر تقبلًا لفكرة التعبير عن الهويات المميزة لمواطنيه الذين ينحدرون من عرقيات مختلفة، وبالتالي السماح لهم ببناء الصروح الدينية الخاصة بهم مجددًا.
وفي الوقت الذي تم فيه بناء المسجد الأبيض، كانت يوغوسلافيا عضوًا قياديًّا في حركة عدم الانحياز، واستخدمت الأقلية المسلمة كوسيلة لمغازلة الدول الإسلامية من أجل تعزيز تحالفاتها السياسية. ومع ذلك، على الصعيد المحلي، استمرت في ممارسة الضغط السياسي على المجتمعات المسلمة وقمع هويتها الدينية. ولكن، في عام 1968م، تم الاعتراف أخيرًا بمسلمي البوسنة كجنسية مكونة ليوغوسلافيا، وكان بناء المسجد الأبيض في فيسوكو تأكيدًا على هذا التحول السياسي المهم.
ويضيف الكتاب أنه مع تحول يوغسلافيا من النظام الاشتراكي إلى النظام الديمقراطي متعدد الأحزاب، اندلع صراع عنيف في البلاد وازدادت حدته في أوائل التسعينيات ليمزق النسيج الاجتماعي الذي كان يجمع لسنوات طويلة بين أهلها تحت شعار «الأخوة والوحدة». ضمن هذا الإطار، تستكشف مقالات هيلين والاسيك وآمر حجي محمدوفيتش العلاقة بين العمارة الدينية، المساجد على وجه الخصوص، ومفهوم التعايش، وكيف تغير معناها عبر التاريخ الحديث. كما تبحث هيلين والاسيك في أسباب استهداف التراث الثقافي والعمارة الدينية في حرب التسعينيات في البوسنة والهرسك، مؤكدة على أن تدميرها المنهجي قد استخدم أيضًا كأداة لتنفيذ الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.
ولكن، على رغم أن المجموعات العرقية المتنوعة في البوسنة والهرسك لاتزال تعيش اليوم، بعد أكثر من عشرين عامًا على الحرب، حالة من الغربة المتبادلة التي تغذيها القومية والتعصب الديني، إلا أن هذا الأمر لا ينفي قرونًا من التاريخ والعيش المشترك والتعايش السلمي فيما بينها. وهو ما تؤكد عليه أزرا أكشاميا مستشهدة بالعمارة الدينية في المنطقة، حيث تقول: «تمثل المساجد والكنائس والمعابد وشواهد القبور التي وقفت جنبًا إلى جنب لعدة قرون دليلًا على التعايش في المنطقة، ويوضح عددها وحده أن التعايش بين المجموعات العرقية المختلفة في المنطقة لم يكن ممكنًا فحسب، بل كان سائدًا أيضًا».
العمارة في وجه الكراهية
يستكشف الفصل الثالث من الكتاب قدرة العمارة على دعم الديمقراطية وتسهيل دمج الأقليات في الفضاء العام ضمن دول المغترب، ويبحث على وجه الخصوص في حالة الكراهية المتزايدة والعداء البغيض والتحيز الثقافي تجاه المهاجرين والمسلمين في الدول الإسكندنافية، من خلال التركيز على متنزه سوبركيلين الحضري في مدينة كوبنهاغن في الدنمارك. يبلغ طول هذا المتنزه كيلومترًا واحدًا ويقع في منطقة «نوريبرو» التي تتميز بتنوعها الاجتماعي والثقافي، حيث يتحدر سكانها من ثقافات وأصول مختلفة، ولكنها تشهد في الوقت نفسه العديد من التحديات الاجتماعية والثقافية.
صُمِّمَ المتنزه بالتعاون مع المجتمع المحلي الذي يشكل فيه المسلمون الأغلبية، ويستقي أفكاره التاريخية من الثقافات الخاصة والمتنوعة للسكان ويترجمها ضمن سياق حضري معاصر، كما يلقي الضوء على الأبعاد الإيجابية للتعددية الثقافية ويدعو الناس صغارًا وكبارًا للعب والمشاركة والتعايش مع الآخر. وتبدو خطوط العرق والدين والثقافة واضحة من خلال مجموعة كبيرة من الأثاث والعناصر التي تدخل في تصميم هذا المتنزه وتعزز الشعور بالانتماء إلى الوطن الأم، ولكن في الوقت نفسه بالاندماج والتعايش السلمي مع السكان والثقافات الأخرى في المنطقة.
ففي زاوية من زوايا المتنزه نجد مقعدًا جميلًا من بغداد، وفي بقعة أخرى نافورة على شكل نجمة من المغرب، ومربطًا للحبال من غانا، وتمثالًا ضخمًا منحوتًا لثور من إسبانيا، وتربة فلسطينية، وطاولات شطرنج من صوفيا، وأطواق كرة سلة من مقاديشو، وهذه أمثلة بسيطة من بين 108 من عناصر المتنزه التي أُحضرِت من 62 بلدًا أصليًّا للسكان المحليين. ولا شك أن هذه المجموعة الفريدة من العناصر تشكل مجتمعة معرضًا عالميًّا فريدًا ومفتوحًا للعموم على مدار العام لأفضل الثقافات والتصاميم من جميع أنحاء العالم، وترمز في الوقت نفسه لملكية السكان للمتنزه.
يبحث الكتاب في نظرة المجتمع المحلي للأشكال والتصاميم الخاصة بالحديقة، ويتضمن سلسلة من المقابلات مع السكان المحليين أجرتها عالمة الأنثروبولوجيا الدنماركية تينا جودرون جنسن، التي تناقش أيضًا في مقال آخر آليات الإقصاء والاندماج في الدنمارك من خلال الأماكن العامة ومشروعات الإسكان. في حين تحلل المؤرخة المعمارية جنيفر ماك إدراج المهاجرين كعنصر معماري متكامل في عدد من الأماكن والمساحات العامة الجديدة في الدول الإسكندنافية، مثل متنزه سوبركيلين، في ضوء تنامي مشاعر الكراهية نحو الأجانب، خاصة بعد أزمة اللاجئين السوريين الأخيرة في أوربا.
ويخلص الكتاب إلى أنه على الرغم من المبادرات والمشاعر القومية القوية والمتزايدة في الدنمارك وعدد من الدول الإسكندنافية الأخرى، والتي ترمي إلى خلق مجتمع ثقافي متجانس وموجّه من خلال سياسات الهجرة التقييدية التي تحد من التنوع في البلاد، إلا أنه في الوقت نفسه يتم تمكين أشكال التعايش المشترك بين الأعراق والأجناس المختلفة من خلال إطلاق مشروعات معمارية مثيرة تسمح بإجراء لقاءات غير رسمية وتعزيز الحوار بين الأفراد والمجموعات من خلفيات عرقية واجتماعية ودينية مختلفة، كما هو الحال في متنزه سوبركيلين.
هامش:
(١) مدن ضد الأسلمة (CAI): هي مبادرة معادية للمسلمين أطلقها فيليب ديوينتر من حزب فلامس بيلانج في مؤتمر في مدينة أنتويرب في 17 يناير 2008م. وتضم المبادرة ممثلين من النمسا والدنمارك وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا وهولندا وإنجلترا، الذين وقعوا ميثاقًا ضد الأسلمة المتزايدة في المدن الأوربية.