انفجار مرفأ بيروت: المكنسة أقوى من البندقية
تداخلت تداعيات الانفجار/ التفجير الذي حصل في قلب مرفأ بيروت بتاريخ 4 أغسطس الماضي على المستويين الاجتماعي والسياسي، فجعلت من الحدث نقطة انفصال بين زمنين ومنظورين للحياة الاجتماعية والسياسية في لبنان في آن واحد. فالتحوّل، الذي ترافق بسرعة الانفجار الأوسع والأسرع في تاريخ الشرق الأوسط، جعل المشهد العام في لبنان في وضعية مختلفة تمام الاختلاف عما كانت عليه قبل ذاك.
تبدّل في المشهد الاجتماعي
تدرّجت تداعيات الانفجار- الفاجعة اجتماعيًّا فتوزّعت على محطات ثلاث. في البداية ساد الذهول والصمت؛ إذ لم يفهم أحد ما حصل. تركّزت كل الأنظار على المشاهد الحيّة التي سرعان ما بدأت بنقلها المحطات التلفزيونية المختلفة. تتالت المشاهد واكتشف الجميع، علاوة على المشهد الهيروشيمي في المرفأ، تأكد التحطّم غير المسبوق لثلاثة أحياء من أحياء بيروت هي الكرنتينا ومار مخايل والجمّيزة وصولًا إلى أعالي حيّ الأشرفية.
خلال هذه التغطيات المباشرة تبيّن أيضًا أن ثلاثة مستشفيات كبيرة في المنطقة التي طالها الانفجار (مستشفى مار جاورجيوس، ومستشفى الجعيتاوي، ومستشفى الوردية) قد أصيبت وتدمّرت لدرجة أنه صير إلى إخلائها من المرضى الذين نقلوا إلى مستشفيات أخرى في المدينة. كما أن أطباء جرحوا، وقتلت ممرضتان، وجرح عدد من الممرضات والمسعفين. كما أن مشهد الباحات الخارجية للمستشفيات تحوّلت إلى غرف عمليات في الهواء الطلق من دون إنارة؛ على إضاءة بعض الموبايلات فقط.
أن تشاهد ملائكة الحياة والصحة أنفسهم في هذه الوضعيّة غير المسبوقة والمقلقة زاد في الذهول العام أمام هول الكارثة ومهّد الطريق، في اليوم التالي، للمحطة التالية، التي تمثّلت في الغضب الشعبي العارم في الأحياء المسيحية التي تناولها الانفجار بشكل رئيس، ثم الأحياء الأخرى فالبلاد كلها، وتعالت الأسئلة المباشرة: ماذا تفعل هذه المواد المتفجرة في قلب المرفأ الذي يحرّم تنظيمه الداخلي رسميًّا حفظ مواد خطرة ومميتة كهذه في حرمه؟ ومن المسؤول عن هذه الجريمة الموصوفة بحق الشأن العام؟ ومن غطى الفاسدين والمسؤولين بهذه السهولة ولمدّة سبع سنوات متتالية؟
جاءت أجوبة السلطة والمسؤولين على هذه المساءلات المشروعة غير مسؤولة، إذ إن المسؤولية أحيلت على وجود مفرقعات قرب أو في العنبر رقم 12 حيث كان قد خزّن 7255 طنًّا من نيترات الأمونيوم!
هنا ثارت ثائرة الناس أمام هذا الاستهبال السياسي الذي لم ينطل على أحد، لا في داخل لبنان ولا خارجه. وقد زاد في الطين بلّة تصريح نقيب تجار المفرقعات والأسهم النارية في البلاد على إحدى المحطات التلفزيونية الواسعة الانتشار من أن تجار هذه البضائع لا يحفظون أيًّا من هذه السلع في عنابر أو مخازن أو حاويات موجودة داخل حرم المرفأ.
هنا وبعد يومين على الكارثة انتقل الرأي العام إلى المحطة الثالثة، فبدأ الكل يطالب بالمحاسبة. في الانتفاضات الشعبية السابقة كانت الحركات المطلبية تتوقف عمليًّا عند حدود التعبير عن السخط العام والغضب الشعبي. أما بعد انفجار/ تفجير المرفأ فغدا شعار المحاسبة مرفوعًا بعزم من نوع جديد، لا تراجع ولا مساومة فيه. وبعد أربعة أيام، إبّان حشد عظيم من الثوّار المنتفضين، عُلِّقتْ مشانق رمزية في ساحة الشهداء، في قلب بيروت، على مرأى من المسؤولين الذين لم يتجرأ أيّ منهم على زيارة أهالي الأحياء المنكوبة.
ظهور المكنسة الفاعلة كبديل عن البندقية العاجزة
شكّلت زيارة الرئيس الفرنسي دعمًا معنويًّا وسياسيًّا كبيرًا للمنكوبين كما لكل الذين كانوا يقفون إلى جانبهم؛ إذ تبيّن أن لا صدى حقيقيًّا لألم ووجع الناس من قبل من هم في السلطة، في مقابل مدّ يد العون من الخارج، الغربي أولًا ثم
العربي والعالمي.
لكن ما توضّح بشكل ساطع قبل كل ذلك، فورًا بعد اليوم الأول على انفجار/ تفجير مرفأ بيروت، هو هذا التقاطر الشعبي العام الذي شهدته الأحياء المنكوبة؛ إذ هرع شبّان وبنات من بيروت ومن كل المناطق اللبنانية، من أبناء وبنات المجتمع المدني، بمكانسهم ورفوشهم، لمساعدة أهالي الأحياء المنكوبة على إزالة الركام من الشوارع والبيوت وتقديم العون للمسنّين والمحتاجين.
وقد حضر بشكل عفوي مئات من هؤلاء المتطوّعين الشباب والراشدين من أحياء بيروت الأخرى، كما من طرابلس البعيدة جغرافيًّا، والبقاع، وصيدا وصور وبرجا في الجنوب، والشوف والجبل، ومناطق كسروان وجبيل والمتن. واللافت للانتباه أن كل متطوّع مدني كان يحمل مكنسته المختلفة، الآتية من بيته، أو رفشه الخاص، معتمدًا على إمكانياته الذاتية. حتى إن تلاميذ إحدى المدارس الثانوية في شمال بيروت حضروا، وحضر أهلهم معهم، للمشاركة في عمليات التنظيف.
هنا، وخلال الأيام الخمسة الأولى كلها على الكارثة، تبيّن الشرخ السياسي- الاجتماعي بين السلطة والناس؛ إذ جاءت المعادلة الميدانية لما بعد الكارثة ساطعة الوقائع والدلالات: فالمجتمع المدني يقف وحده إلى جنب الناس، فيما السلطة لا همّ لها إلّا الوقوف إلى جانب نفسها.
أصل المرض
يكمن أصل المرض في أن المسألة تضرب جذورها عميقًا في تصوّر أهل السلطة لأنفسهم ولدورهم في السلطة. فما يبدو تعارضًا في وجهات النظر بين أهل السلطة والناس في لبنان راهنًا هو أكثر من ذلك بكثير. في الواقع هناك تناقض صارخ فيما بين ما يطالب به الناس منذ زمن ما قبل الحرب الأهلية في سبعينيات القرن الماضي، وبين ما يراه ويعيشه كل الذين تواكبوا على السلطة، من سياسيين تقليديين ومن زعماء طوائف وميليشيات أعادوا تأهيل أنفسهم بلبوس القيّمين على السلطة في لبنان، مستفيدين من وهن الأوضاع الاجتماعية، وتداعي الوضع الاقتصادي المتفاقم سنة بعد سنة.
ببساطة هناك تناقض بين مشروعين سياسيين في لبنان المعاصر. فأحزاب السلطة تستميت بالدفاع عن دولة العصبيّة ودولة الملك التي تكلّم عنها بإسهاب ابن خلدون، عادًّا إياها دولة للغلب حيث تتحكّم العصبيّة الغالبة بالعصبيّات المغلوبة وتعمل على استتباعها، إما بالمغالبة العسكرية (وهذا ما يهدد به حزب الله الآخرين دائمًا في لبنان)، وإما بالممانعة السياسية (وهذا ما يقوم به رئيس مجلس النوّاب).
في المقابل ينادي المجتمع المدني، الواسع الانتشار في لبنان، بالدولة الحديثة، دولة المواطنة المدنية، المبنيّة على مبدأ الديمقراطية، لا على أعراف الغلب. فهذا الأخير ينتقل من جهة إلى جهة ويقوم على المحاصصات الاستنسابية فيما تقوم المواطنة المدنية على وحدة الواجبات والحقوق. وقد انتقلت جميع الدول التي صممت على التقدّم والازدهار والبحبوحة لشعوبها إلى هذا الأنموذج الإرشادي الحديث، في اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة والصين. ونجحت اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا على السواء.
هذا الانتقال النوعي هو الذي أدرك المجتمع المدني اللبناني مصيريّة تحققه من الآن فصاعدًا، من دون مساومات (ومن هنا الشعار الذهبي المرفوع: «كلّن يعني كلّن!»)، تعبيرًا عن رفضه لهذه المنظومة المتكاملة من السياسيين ذوي المنظور العصبوي الضيّق والطموحات الأضيق في المحاصصة، عادِّين السلطة غنيمة، لا شأنًا عامًّا ومسؤولية وطنية مواطنية حقيقية.
وقد جاءت استطلاعات رأي لتؤكد هذه العزيمة الحقيقية في التغيير؛ إذ إن استطلاعًا جرى بعد انتفاضة ثورة 17 أكتوبر 2019م أشار إلى أن 25% فقط من الناخبين لن يعيدوا انتخاب النوّاب الذين انتخبوهم في الدورة الماضية؛ فيما أشار استطلاع آخر، بعد أيام من كارثة مرفأ بيروت، إلى أن 53% من الناخبين لن يعيدوا انتخاب النوّاب الذين انتخبوهم في الدورة الماضية للانتخابات البرلمانية.
بحيث يبدو أن المكنسة أقوى من البندقيّة…