5 قصص قصيرة جدًّا

5 قصص قصيرة جدًّا

أنا وبورخيس

منذ سنوات عدة كنت أذرع أحد شوارع بيونس آيرس، عندما خُيِّل لي أني رأيت بورخيس جالسًا على مقعد وعصاه بين يديه، وكأنه ينتظر. كنت آنئذ فتًى شاحبًا أحمل الكثير من الكتب، فضلًا عن دفتر، وقلم. تسمرت في مكاني من الدهشة، ولم أدرِ ما أفعل. أحسست أن أي كلمة أقولها في حضرته لن يكون لها قيمة. ولعل لساني يصاب حينها بعلة لا مبرأ منها. أخرس يقف أمام أعمى. يا لها من صورة حزينة! شعرت أنها دهشة سرمدية، وظللت أرقبه وما زال بداخلي سؤال: أي خيالات أسطورية مدهشة تدور بخلده؟ اقترب أحدهم وكأنه يخرجني من نشوتي وأخذه من ذراعه، ومضى الاثنان، على حين رسم العجوز أشكالًا في الهواء بعصاه… أشكالًا لم يكن بمقدوري أن أفهمها.

روخيليا

عرفت صباح يوم من شهر يونيو/ حزيران أنها ستفقد ذاكرتها. لقد لاحظت أنها تنسى بعض الأشياء، ولكن ما دق جرس الإنذار أنها كانت تنظر إلى الصحون المتسخة في الغسالة لتعرف ما إذا كانت قد تناولت الطعام أم لا. وبعد الحيرة التي مرت بها، انهمكت في الدراسة وكرست نفسها لتستعيد ذاكرتها، وبمساعدة الصور الفوتوغرافية والخطابات والمخطوطات نسجت قصتها، مندهشة من حجم التفاصيل غير المجدية فيها. إنها قصة امرأة متسلطة تحب أن تشعر بأهميتها. إنها قصة تبدو الآن غير مترابطة. في الأيام القليلة التالية خرجت من عزلتها وألقت بجميع الأشياء في سلة المهملات، وبدأت تحيا على لحظات السكون والصمت التي هدمت عالمها، حتى أصبحت امرأة بلا ماضٍ، وعند ذلك اكتشفت من جديد لذة القهوة بالحليب كل صباح، وأدهشتها معجزة الزهور الصغيرة في حديقتها.

أشياء الزمن

رجل يمضي صوب امرأة على الرصيف، وكيوبيد ينتظر خلف الأشجار لحظة التقاء قلبيهما، ومعه القوس والرمح. لكن نبضات قلبه لم تعد على حالها. لو أطلق كيوبيد رمحه لأصاب شجرة الكرز ولغطت الزهور الشارع بأسره في منتصف الشتاء.

وظيفة جديدة

كان إستيبان مؤمنًا، أو هكذا اعتقد، عندما اكتشف كيف يجلس الناس في خشوع في فناء الكنيسة القريبة البارد. وبعد ذلك أطلق العنان للحيته البيضاء الجميلة، على غرار أحد القديسين الذين رأى صورتهم على نافذة الكنيسة المزركشة. ولما لم يكن لديه أي شيء أفضل من ذلك ليعمله، فإنه أخذ على عاتقه تعلم الصنعة بنفسه، فكان يحضر القداس كل مساء باهتمام بالغ، لدرجة أنه حفظ في غضون بضعة أشهر ما يتلى في القداس عن ظهر قلب. ثم بدأ في حضور الصلاة عند المذبح. لقد أمضى إستيبان حياته بعد التقاعد في مذابح الكنائس الصغيرة، فكان يساعد رجال الدين في وضع أرديتهم أو خلعها، كما كان يزيل الغبار من على الكتب المقدسة، ولذا فقد اكتسب هالة وسلطة لا ينازعه فيها أحد، لدرجة أن المؤمنين بدؤوا يطلقون عليه لقب «الأب إستيبان»، ولذا فلم يلحظ أي أحد شيئًا ما عندما ترأس القداس، وكان مساعده قسًّا جديدًا مبتدئًا لم يشك قط فيما يفعله إستيبان.

نفس الحلم

حلم أوريليو الحلم ذاته طيلة عامين كاملين، وهو حلم عادي كان فيه أحدهم يقاطعه أثناء قراءته ببعض التعليقات التافهة. ولم يعد لديه أية وسيلة ليبدل من سوء طالع لياليه بعد أن فعل كل شيء ابتداءً من اختيار مكان آخر لقراءته وانتهاءً بتبديل هيئته ومظهره ليضلل ذلك الرجل. ولما فشلت كل تلك المحاولات على يد ذلك الرجل الذي يبدو أنه لم يكن لديه أي مهنة أخرى سوى التطفل عليه، فإن أوريليو قام على مضض بقصر أوقات قراءته على هزيع الليل.


• ولدت الكاتبة الفنزويلية كارولينا فونسيكا بالعاصمة كاراكاس عام 1963م، لها عدد من المجموعات القصصية لعل أشهرها «صوتان وثلاثون قصة». تقيم في بنما منذ عام 2011م. وهذه القصص مترجمة عن كتاب: Cuentos compactos, Indeleble Editores, Ciudad de Guatemala, Guatemala, 2015.