عمّا حدث في شارع نوال

عمّا حدث في شارع نوال

كان وزني 54 أو 55 كيلو جرامًا، كان بإمكانك أن تصفني بأنني هزيل لكن وجهي كان بشوشًا ومعنوياتي دائمًا عالية؛ بسبب حبي للفن والسينما مع أني كنت أدرس القانون الجنائي، وكنت في السنة الثانية في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، وأسكن في الطابق الثالث من العمارة رقم 13 شارع نوال بالعجوزة، أسكن بمفردي مع خادمة ماهرة تعتني بنظافة الشقة وتسهر على شحني بساندويتشات الجبنة بالعسل ليالي الاستعداد للامتحانات. كانت بيضاء ممتلئة في الخمسين من عمرها، عيناها صغيرتان، وكفاها رخمان مثل يدي الجيوكوندا، واسمها أم حسن.

قبل أشهر ثلاثة اقترح علي زميلي في الكلية فيصل الغساني الذي يدرس القانون الدستوري في السنة الرابعة بالكلية نفسها ومعروف بذكائه وصخبه تشغيل طباخ ماهر كنا ذقنا طبخه للحمام المحشي عند بعض الأصدقاء. كنا نحب الأكل الجيد ونذهب للمطاعم الفاخرة في أرقى الفنادق، نأكل كثيرًا رغم هزالنا الظاهر. فتعاقدت معه على مرتب ثلاثة جنيهات شهريًّا. كان يجيد طبخ أنواع عديدة من الأكل المصري والطبخات الكويتية؛ لأنه سبق له العمل لدى طلاب كويتيين آخرين. كان شديد السمرة غليظ الشفتين أطول مني، ولا بد أن له عضلات ضخمة تحت كم ملاءته العريضة.

بعض الأيام كنت أتأخر في النوم بسبب تلك السهرات التي مع الأسف لا تعود. سهرات مع الأصحاب والفتيات تتم بها كل ما يخطر بالبال من موبقات في الملاهي والمقاهي والعوامات. نحب الست أم كلثوم ونتسابق في ترديد كل جديد لديها، نحضر حفلاتها، ونحتقر من لا يشاركنا الرأي باعتباره أحمق سوقيًّا وقليل الذوق. وكنت أتضايق من ميوعة أغاني فريد الأطرش الحزينة التي كان الطباخ مغرمًا بسماعها. ذات يوم كنت أتقلب في الفراش وبقية أحلام لذيذة تنعشني بمباذخ سهرة تلك الليلة. تنامى لسمعي صوت فريد من المطبخ. رفعت الغطاء عن جسمي وقمت غاضبًا، وأسرعت نحو المطبخ، ومددت يدي نحو جهاز الراديو الذي يسمع منه الطباخ الأغنية، وأقفلت الجهاز، فالتفت نحوي وعيناه تتطايران شررًا وأمطرني برذاذ وصلني من بين شفتيه. توقف عن تقطيع البصل أو الطماطم أو ما كان، ومد يده نحوي ويدي على الراديو، وصرخ بي: ماذا تعمل؟ شعرت بألم في يدي وصرخت به: لا أحب أن أسمع «فريد»، فصرخ عاليًا: أنا أحبه، قلت له: حسنًا اسمعه في بيتك. أطلق يدي وهو ينظر لي شزرًا: المطبخ بيتي أنا، وعاد يقشر بالسكين ما كان بيده. ارتفعت أصواتنا وهرعت أم حسن راكضة حين سمعت تلاسننا، وقالت: صلوا على النبي، وسحبتني من يدي إلى صالة الجلوس ولم أهدأ. لم أهدأ. كيف أهدأ. كانت يدي تؤلمني وقلبي يدق سريعًا، ودماغي يتفجر غيظًا، ولم يهن عليَّ أن يتطاول الطباخ عليَّ، كيف يجوز ذلك. في بيتي. في شقتي. بفلوسي. وددت لو أضربه. وددت أن أصفعه على وجهه وأحطم تلك الشفاه الغليظة التي تطاير رذاذها عليَّ. لكني كنت خائفًا من أن يضربني. أو يمد يده عليَّ فهو أقوى مني. ويدي ما زالت تؤلمني. كم كانت الدنيا كريهة وحقيرة بسبب هذا الطباخ الأرعن. الحمار ابن الحمار هو ومن خلفوه.

أعطتني أم حسن شايًا بالحليب وهي تهاودني، وتسهل علي بالكلام، وتؤكد أنه غلطان وأنها أيضًا لا تحب أغاني فريد الأطرش، لكن لا فائدة من هذا الكلام إنه يتطاول. إنه يتطاول يا أم حسن. يتطاول علي في شقتي. ارتديت ملابسي ومشطت شعري، وأخذت كتبي تحت ذراعي، واتجهت نحو المطبخ، وقلت له: لا أريد غداءً اليوم، فنظر لي مستغربًا وساخرًا قائلًا: ونحن ألا نأكل؟ سأطبخ لنفسي ولأم حسن. ازداد حنقي، قلت له: تعال هنا خارج المطبخ. فغسل يديه وأتاني في الصالة، قلت له: أنا لا أريدك عندي بعد الآن، خذ حسابك وأعطني مفتاح الشقة ولا تعود هنا أبدًا. قال ساخرًا: سأبقى إلى أن أجد عملًا في مكان آخر، قلت: لكنني لا أريدك عندي، صرخ بي: هكذا… بهذه البساطة تريد أن تطردني، قلت: حسنًا سأعطيك مرتب باقي الشهر، هل ستبقى غصبًا؟ قال: لا لن أبقى عندك، لكن لن أخرج من هنا حتى أجد عملًا آخر. كيف أعيش؟ صرخت به: لكني لا أريدك في شقتي، قال: لن أخرج، وأخذ يزمجر غاضبًا وهو يقول شيئًا عن القانون. قانون. قانون. لم يكن واردًا أن أضربه، كان ضخمًا وعيناه جاحظتان، وأم حسن تصيح بنا: صلوا على النبي. تركته ودخلت الصالة وتهالكت على أحد المقاعد راميًا كتبي على الأرض ورأسي بين كفي. شربت ماء أعطته لي أم حسن، ومسحت وجهي بفوطة أتت بها، وقلت لها: اذهبي أخبريه أنني لا أريده بعد الآن وأريده أن يخرج من شقتي حالًا، وأعطيه هذه الجنيهات الثلاثة، وخذي مفتاح الشقة منه. عادت لي قائلة: رفض المبلغ، ورفض أن يسلمني المفتاح، قلت: حسنًا ليخرج، قالت لي مهدئة: اخرج أنت الآن… فهو لن يخرج وأنا خائفة عليك. وقفت فزعًا، قلت: ماذا تقولين؟ خائفة عليَّ!.. قالت: أنت اخرج أحسن، وضعت يدي على رأسي ورفست الكتب المرمية على الأرض، ورحت أدور في الصالة ودماغي يتطاير غضبًا وضياعًا وخوفًا مما سيقوله الزملاء لو عرفوا أنني تضاربت مع الطباخ، أو أنه ضربني، أو أنني أحضرت له الشرطة، أو صرخت مستنجدًا بالجيران.

خرجت من الشقة مسرعًا وهبطت ثلاثة الأدوار راكضًا، وركبت التاكسي للزمالك لشقة فيصل الغساني.

أخبرتني الخادمة حين فتحت باب شقته أنه ما زال نائمًا. كانت الساعة قرابة الثانية عشرة ظهرًا هرعت نحو غرفته، ودفعت الباب، ورفعت الغطاء عن وجهه بصعوبة؛ فتح عينيه متسائلًا وهو مغمض العينين: خير إن شاء الله، هززت كتفه: أي خير، قم. جلس في الفراش متثائبًا: ما القصة؟ قلت له: قم أولًا، وسحبت الغطاء عنه فقام مترنحًا وذهب للحمام. حينما جلسنا إلى طاولة الطعام ليتناول فطوره، قلت له ما حصل. فتح عينيه ممتعضًا وغاضبًا… بدأت جبهته تتغضن ويعقد حاجبيه ويعرق قليلًا ويردد أف.. أف.. قلت: تعرف ما قال لي؟ قال: هناك حقوق للعمال، جمال عبدالناصر أعطانا حقوقًا لا يوجد باشوات اليوم… لا تستطيع أن تطردني… هز فيصل رأسه، هل يريد أن يبقى عندك غصبًا عنك؟! قلت: هكذا يفكر، قال: اسمع لا تذهب للشرطة، سيبتزونك ويسخرون منك، ثم لا ندري ما يقررون ربما محاكمة وربما محامين، سيشفطون فلوسك.. انتظر لدي فكرة. أخرج سيجارة ثم دخل غرفته وعاد في أناقته المشهودة، وقال: هيا بنا.

ركبنا «تاكسي» وانطلقت بنا السيارة إلى منزل أم خميس في باب اللوق، عمارة قديمة لها مدخل بدون باب، يبدو أن الباب الخشب القديم قد نزع من مكانه واستعمل من زمان لأشياء أخرى. المدخل مظلم وحائط الدرج متشقق وحيوانات تتراكض في الظلام ربما فئران. وحين أسند يدي على الحائط وأنا أصعد الدرج كنت أشعر برطوبة الحائط وتشققه وتحرك حشرات داخله. صعدنا الدرج للطابق الأول في ظلام دامس رغم عز الظهر وطرقنا الباب فتحت أم خميس قائلة: أهلًا… تفضلوا. مرحبة بفيصل: كيفك يا دكتور!

على الأرض مطارح متآكلة ارتمينا عليها وطفلة شبه عارية لا تكف عن البكاء، وسمعت سعالًا متصلًا لرجل مريض من غرفة أخرى.

: تشربوا شاي.

: قلنا .. لا شكرًا

: ضروري تشربوا شاي قبل ما نتكلم… لا تقلقوا حاجتكم مقضية يا دكتور.

أتت لنا فتاة لا يبين جسمها من تدثرها بملابس سوداء تغطي جسدها، وتحزم رأسها بوشاح أسود. أعطتنا شايًا مليئًا بالسكر.

حكينا لأم خميس قصة الطباخ.

قالت: ألهذه الدرجة.. الدنيا خلاص أصبحت فوضى.. سافلها فوق عاليها.. إلا القانون.. سيخرج من الشقة يعني سيخرج.

قلنا: متى؟

قالت: الآن… خلونا نحلّها وهي حارّة.

قلنا: تقصدين نذهب له الآن.

قالت: الأول الفلوس.

قلنا: حسنًا، وماذا تطلبين؟

قالت: كم راتبه؟

قلنا: ثلاثة جنيهات.

قالت: أنا آخذ ثلاثة جنيهات.

قلنا: ونعطيه ثلاثة جنيهات حتى آخر الشهر.

قالت: لماذا نعطيه؟ أنا آخذ الثلاث جنيهات وخلاص.. ليس له شيء عندنا ألا يكفي مصاريف تاكسي في المجيء هنا والذهاب هناك وأردفت ضاحكة.. وعودتي بالتاكسي أيضًا.

خرجنا معًا وفي الضوء رأيت أم خميس، طول الطباخ أو أطول، ضخمة دون ترهل، صغيرة العينين، ووجه صارم، وكفّان مثل خُفَّي فِيل. تحدث فيصل ونحن في التاكسي مع أم خميس حديثًا متصلًا؛ تسأله عن بعض الأصدقاء، يرويان ذكريات ويضحكان. حين وصلنا شقتي سألتْ عن الطابق، وقالت: لا تأتوا معي، أنا أذهب لوحدي.

وقفنا أنا وفيصل على الرصيف المقابل لعمارتنا تحت ظل بلكونة صغيرة ننظر لشباك شقتي لعلنا نرى أو نسمع شيئًا. لم نسمع شيئًا. رأينا بعد عشر دقائق تقريبًا الطباخ منبطحًا على أرض الرصيف وأم خميس تضع قدمها على رقبته، وتمدّ يدها له وتصرخ به: أعطني مفتاح الشقة وهو يمد يده باحثًا عن المفتاح ويسلمه لها. توجهت نحونا تمشي كجنرال سحق جيشًا رابطة العمة التي تغطي رأسها بكفيها الضخمتين وقالت لنا بلهجة لا تقبل النقاش: لن يعود للشقة أبدًا.. هاتوا لي تاكسي.. ركبت التاكسي تشير لفيصل.. لا تغب كثيرًا.

أخذت المفتاح ونططنا أنا وفيصل للشقة. جلسنا في الصالة مبهوتين نتنفس الصعداء ونضحك بهستيرية الباذخين. وأم حسن قالت: خلاص، أنا سأطبخ بعد الآن. ولم نرَ الطباخ بعد ذلك قط. كنت أتخوف من أن ألقاه في الحي أو في السوق أو في مكان ما. الخوف لازمني مدة بقائي في الدراسة. لكنني لم أره قط، ولم أسمع عنه ولا فيصل.