فيزيائي بريطاني يتنبأ بأنّ العالم سيغدو أكثر اكتظاظًا بالسكّان ما لم تحصل جائحة وبائية قاتلة مارتن ريس: التقنيات المُطوَّرة يمكن أن يكون لها نتائج كارثية ذات طابع عالمي
لا أظنّنا سنختلف بشأن ندرة الأدبيات الخاصة بمبحث علم المستقبليات Futurology في عالمنا العربي، وربما يمكن للمرء بعد طول تفكّر في هذه الحقيقة أن يخلص إلى قناعة بأننا نفكّر ليومنا بأكثر ممّا نفكّر في مآلات الغد. قد يرى بعض أننا لسنا لاعبين مؤثرين في الجغرافيا السياسية للعالم؛ وعليه فليس من ضرورة ملزمة للتفكّر في مآلات عالمٍ لا نساهم في صناعته وتشكيله فهذا الأمر اختصاص حصري لكبار اللاعبين السياسيين وعمالقة العلم والتقنية في العالم. أرى أنّ هذا الرأي فاسدٌ يجانب أمثولات التأريخ وحقائق الجغرافيا السياسية، وينطلق من قناعات راسخة استطابت واقع الحال وفَتَرَتْ عزائمها على النهوض بهذا الواقع الذي يبدو لها عصيًّا على التغيير؛ فالأمم -كما الأفراد- تستطيع إحداث انقلابات جذرية في أحوالها متى امتلكت الرؤية والرغبة في التغيير، وليس مثال رواندا عنّا ببعيد. يحفل العالم العربي -رغم كلّ الصور الأقرب إلى العوالم الديستوبية- بالكثير من البؤر المضيئة والمحاولات الجادة التي تتطلّع لأن تكون مثاباتٍ عالمية في مستقبل لا أحسبه بعيدًا من يومنا هذا.
ثمّة أمرٌ آخر بشأن أهمية المباحث الخاصة بالدراسات المستقبلية: المعرفة تسبق الفعل، وهذه حقيقة أظنها تصحّ في كلّ المجالات؛ وعليه إذا شئنا أن نرتقي بوتيرة تطورنا العلمي والتقني لا بدّ من معرفة مآلات التوجهات العلمية والتقنية الحالية التي سيكون لها الأثر الأعظم في تشكيل صورة العالم في المستقبل القريب. هنا تلعب الدراسات المستقبلية دورًا حاسمًا في إعادة ترتيب أولويات الإنفاق الاقتصادي على القطاعات التي يُتوقّعُ أن يكون لها الأثر الأعظم في تمكين الاقتصاد وتعظيم دور الفرد والمجتمع معًا. لا ينبغي لنا إغفال أنّ بعض جوانب التطوّر العلمي والتقني الحالي والمستقبلي تنذرُ بمفاعيل مهدّدة للحياة البشرية -وربما بلغت مبلغ الكارثة- وعليه سيكون من المناسب -بل الضروري للغاية- معرفة الوسائل التي تتيحُ لنا تفادي مثل هذه المخاطر المعوّقة؛ فنحن العرب في النهاية جزءٌ من هذا العالم ولسنا سكّان جزيرة معزولة، والكوارث المستقبلية -إن حدثت- لن تستثني أحدًا لأنها كوارث عالمية الطابع globalised بالضرورة.
يمكن للقارئ الشغوف (والمتخصص أيضًا) أن يلجأ إلى العديد من الكتب المنشورة على مدى العقد الماضي التي تتناول مبحث الدراسات المستقبلية، فهناك طائفة بين هذه الكتب تخاطب القارئ العادي بلغة بعيدة من الرطانة الأكاديمية؛ لكنها تحافظ على الجوانب العلمية المتينة في مقاربة الموضوعات التي تتناولها وبما يكفي لتمكين القارئ من امتلاك صورة شاملة عن المآلات المستقبلية للعلم والتقنية. أرى من جانبي أنّ البروفيسور (مارتن ريس)، أستاذ الفيزياء الفلكية والكوسمولوجيا في جامعة كامبريدج والرئيس السابق للجمعية الملكية البريطانية، هو أحد أهمّ العلماء الذين تناولوا مستقبل الإنسانية في مؤلفاته العديدة.
إلى جانب الطيف الواسع من اهتماماته العلمية متعدّدة الجوانب كتب ريس الكثير (مثلما تناول في محاضرات عديدة) المعضلات والتحديات التي يمثلها القرن الحادي والعشرون للجنس البشري، كما تناول الحدود البينية التي تجمع العلم بالأخلاقيات والسياسة. ومن أهم كتبه: مُصادفات كونية: المادة السوداء، الجنس البشري، والكوسمولوجيا الإنسانية (بالاشتراك مع جون غريبين). منظورات جديدة في الكوسمولوجيا الفيزيائية الفلكية. قبل البداية: كوننا والأكوان الأخرى. ستّة أعدادٍ فحسب: القوى العميقة التي تشكّلُ الكون. مستوطنتنا الكونية. ساعتنا الأخيرة: تحذيرُ عالِم – كيف يهدّد الإرهاب والأخطاء البشرية والكوارث البيئية مستقبل الجنس البشري في هذا القرن. من هنا حتى الأبدية: آفاق علمية. عن المستقبل: آفاقٌ ممكنة للإنسانية.
أقدّمُ فيما يلي لقرّاء مجلّة «الفيصل» ترجمةً لحوارٍ مع البروفيسور مارتن ريس، نُشِر في موقع (Quanta Magazine) الإلكتروني بتأريخ 5 ديسمبر 2018م. ساهم الفيزيائي الفلكي مارتن ريس، وعلى مدى خمسين سنة خلت، في فهمنا للكوسمولوجيا (علم الكونيات). يتحدّث البروفيسور ريس حول الوعود العظيمة والمخاطر العظيمة كذلك للعلم والتقنية التي يمكن أن تحلّ بعالمنا في خمسين السنة القادمة وما بعدها أيضًا.
يعدُّ الفيزيائي الفلكي مارتن ريس، المُكنّى بلورد لودلو، بروفيسور كامبريدج البالغ سبعة وستين عامًا (وقت إجراء الحوار عام 2018م، المترجمة) شخصية محترمة على صعيد بريطانيا العظمى بأجمعها، ولا يعود الأمر لمساهماته العلمية فحسب بل لإمكانيته المميزة في مقاربة الحدود البينية الشاقة التي تجمع العلم والسياسة والأدب بطريقته النادرة التي توائمُ بين اليُسر والثقة.
أضاف اللورد ريس منذ ستينيات القرن الماضي، وعبر ما يزيد على خمس مئة بحث، الكثير إلى فهمنا للمكتشفات الكوسمولوجية المفصلية، وبخاصة تلك المكتشفات التي ترتبط بالكون في بواكيره الأولى، ونشأة المجرّات، والمادة المظلمة، والظواهر الكونية العنيفة، فضلًا عن إمكانية وجود أكوان متعدّدة. فيما يخصّ النطاق الشعبي فإنّ اللورد ريس يحمل اللقب الشرفي (الفلكي الملكي)، وهو أحد ثلاثة وعشرين حاملًا لوسام الاستحقاق Order of Merit ذلك التكريم الذي تخلعه الملكة بنفسها على المكرّمين. يحوز البروفيسور ريس عضوية الكثير من الأكاديميات العالمية، ومن بينها الأكاديمية البابوية للعلوم وهي مجموعة عالمية من ثمانين عالمًا من كلّ الأديان والتوجهات، ويساهم ريس في مناقشاتٍ فيها بشأن الموضوعات المرتبطة بالأرض مثل: التغيّر المناخي والأخلاقيات الحيوية. يساهمُ ريس -بوصفه عضوًا مدى الحياة في مجلس اللوردات البريطاني- في الحديث عن موضوعات السياسة العلمية وتشريع القوانين المناسبة بشأنها. إلى جانب كونه رئيسًا سابقًا للجمعية الملكية (وهي المكافئ البريطاني للأكاديمية القومية للعلوم في الولايات المتحدة الأميركية) فإنّ اللورد ريس هو مؤلّف ثمانية كتبٍ موجّهةٍ لعامّة القرّاء في الموضوعات العلمية والسياسية. كتابُ ريس الأخير «عن المستقبل: آفاق ممكنة للإنسانية». هو أحدث كتابٍ له، وقد نشرته جامعة برينستون الأميركية المرموقة. يكتب دانييل آكرمان الذي يعمل في مجلّة Scientific American في كتاب ريس أعلاه: «يجمع ريس – بأناقةٍ باذخة- طائفةً من الموضوعات المتشعّبة ويضعها في نطاق كتابٍ دليلي يتناول الاستخدام المسؤول للعلم في بناء مستقبل صحّي ينعمُ بالمساواة للإنسانية».
تحاوَرْنا مع ريس الشهر الماضي أثناء زيارته السريعة لمدينة نيويورك في خضمّ فعالياته الترويجية لكتابه الأخير، وقد نجحنا في اقتناص حوارٍ معه وهو مشغولٌ بالرد على مكالمات هاتفية كثيرة وتلبية دعوات غداء وإلقاء محاضرات عامة. منَح اللورد ريس موقع (Quanta Magazine) أخيرًا ساعتين من الحوار الوجاهي. ننقل فيما يأتي نسخة مُحرّرة ومكثّفة من هذا الحوار مضافًا إليه ساعة من المحادثة الهاتفية اللاحقة.
● هل أنت أحد أولئك الذين عرفوا منذ بواكير طفولتهم بأنك ترغب في أن تكون عالِمًا فلكيًّا؟
■ لا. لم أعرف منذ البدء ما سيقودني إليه شغفي في المستقبل. كنتُ طالبًا مُجيدًا في الرياضيات؛ لذا عندما بلغتُ عمر الخامسة عشرة وطُلِب إليّ أن أنتقي توجّهًا أكاديميًّا أتخصّص فيه -وهو النظام القياسي المعمول به في المنظومة التعليمية البريطانية- اخترتُ الرياضيات. حصل لاحقًا عندما التحقتُ بكلية ترينيتي في كامبريدج أن انتهيتُ إلى قناعة مفادُها أنّ الرياضيات لم تكن شغفي الذي يستحقُّ أن أمضي حياتي بأكملها وأنا أتخذها مهنة. ظننتُ لوهلة أنني قد أصلحُ أن أكون اقتصاديًّا؛ لكن على كلّ حال، وعبر سلسلة من الوقائع الطيّبة، عزمتُ على الدوام في قسم الرياضيات التطبيقية في جامعة كامبريدج، وهو المكان الذي أظهرتُ فيه رغبة شغوفة في الكوسمولوجيا والفيزياء الفلكية. اخترتُ هذا التخصّص الدراسي قبل أن أعرف تفاصيل دقيقة عنه؛ لكن بعد سنة من الدراسة فيه كنتُ سعيدًا لخياري هذا؛ فقد كانت ستينيات القرن العشرين لحظة فارقة في علم الفلك كحقل بحثي راحت آفاقه تنفتح على كشوف مدهشة منذ ذلك الحين. الأمر الآخر الذي عزّز قناعتي بهذا الخيار الدراسي، وملأني شغفًا هو أنّ قسم الفلك الذي اخترته كان آنذاك بإدارة عالم فلكي ذائع الشهرة على الصعيد العالمي، دينيس سياما، الأستاذ الجامعي العظيم في موضوع النسبية، ومؤلف كتاب «وحدة الكون». جذب البروفيسور سياما العديد من الطلبة الشغوفين إلى مجموعته الدراسية، وكان ستيفن هوكنغ أحد هؤلاء.
الوهج المدهش لستيفن هوكنغ
● كيف بدا هوكنغ في تلك الأيام؟
■ كان يتقدّمُ عنّي بسنتين ويحضّرُ رسالته للدكتوراه تحت إشراف سياما. كانت علّته قد شُخّصت للتو، وظنّ أنها ستُميتُه في سنتين قادمتين، ويمكن للمرء أن يشهد كيف أن تلك العلّة جعلته أكثر تماسكًا ممّا كان عليه من قبلُ؛ فقد تزوّج بعدها وأنجز عملًا أكاديميًّا ممتازًا، ومن جملة ذلك العمل رسالته للدكتوراه. إنّ ما يبعثُ على الدهشة هو أنّ هوكنغ عاش بعد ذلك خمسة وخمسين عامًا. سبق لي أن قلتُ هذا من قبلُ: المتخصصون بالفلك والكوسمولوجيا معتادون على الأرقام الكبيرة!! لكن ثمة القليل وحسب ممّن حققوا مثل ما حققه هوكنغ عندما واصل الحياة لنصف قرنٍ عقب إصابته بالمرض، وقد حافظ طيلة حياته على حسّ التمتّع بالوهج المدهش والمتصاعد الذي كانت تحققه إنجازاته وشهرته.
● هل اشتركت مع هوكنغ في عملٍ ما؟
■ اتخذت طبيعة عملنا مساراتٍ متباعدة بعض الشيء: تناول هوكنغ في أبحاثه موضوعات أقرب إلى الفيزياء الرياضياتية؛ أما أنا فقد بقيتُ في حقل الظواهر الفيزيائية التجريبية. يميل عملي إلى أن يكون أكثر ارتباطًا بالمشاهدات العيانية.
● هلّا أخبرتنا أكثر بشأن ستينيات القرن العشرين التي كانت لحظة فارقة في الفيزياء الفلكية، كما قلتَ سابقًا؟
■ صرنا نتحصّلُ على الكثير من المعلومات الجديدة. في تلك الحقبة ترى الشواهد الأولى لكلّ من الانفجار الكبير Big Bang، الثقوب السوداء، الكوازارات Quasars. تفكّرْ في هذا الأمر: كنتُ طالبًا في دراساتي العليا وبعمر الحادية والعشرين فحسب عندما اكتشف (روبرت ويلسون وآرنو بنزياس) علاماتٍ عن إشعاع الخلفية الكونية ذي الموجات الصغيرة وأحد مخلّفات الانفجار الكبير. كان ثمة بعض في تلك الأيام ممّن لم يقبلوا بنظرية الانفجار الكبير، وكان بعض آخر يميلون إلى نظرية الحالة الثابتة التي كان الكون بموجبها موجودًا منذ الأزل وليس له تأريخ بداية محددة؛ لكن ما إن امتلكنا الشواهد الأولى بشأن إشعاع الخلفية الكونية ذي الموجات الصغيرة حتى توالت، وبسرعة هائلة، شاهدتان تجريبيتان أو ثلاثٌ عزّزت فكرة الانفجار الكبير وجعلتها النظرية الأعظم مقبولية في الأوساط العلمية العالمية. وبشكلٍ مماثل لما سبق فقد لوحظ البلسار الأول عام 1967م، ومنذ ذلك الحين سادت قناعة مُجمعٌ عليها بأنّ البلسارات هي نجومٌ نيوترونية انبثقت بسرعة عظيمة.
منذ نهاية ستينيات القرن الماضي صار موضوع الكوسمولوجيا حقلًا علميًّا مزدهرًا، ومن جانبي أرى أنّه لمن الأمور عظيمة الأهمية أن يعمل عالمٌ شاب في بواكير حياته في حقل علمي يشهد كشوفات جديدة ومدهشة.
● لماذا تصرّحُ بهذا الأمر؟
■ لأنّك إذا اخترتَ حقلًا علميًّا راكدًا بعض الشيء فإنّ المعضلات الوحيدة التي سيُسمَحُ لك بتناولها هي تلك المعضلات القديمة التي عَلِق بها باحثون آخرون قبلك ولم يستطيعوا إيجاد مخارج مقبولة لها؛ في حين عندما تختارُ حقلًا علميًّا ضاجًّا بالتطويرات الحديثة -على مستوى المشاهدات الجديدة، أو النظريات الجديدة، أو التقنيات الجديدة- فقد يكون متاحًا أمامك بلوغ مرتقيات جديدة تعسّرت على الجيل الأقدم منك. إنّ تجربة الأقدمين في مثل هذه الحالات لهي تجربة مُرّة ثقيلة الوطأة.
● هل ترى في الجَلَد والمطاولة خصيصة مهنية يتطلّبُها عمل العالِم الكوسمولوجي؟
■ لستُ جَلْدًا ولا صبورًا، ولديّ قدرة على المطاولة أراها قصيرة، وربما هذا هو السبب الذي يجعلني أعمل على موضوعاتٍ عدّة بدلًا من موضوع واحد.
كانت هذه الخصيصة المميزة لي عنصر فائدة أثبت أهميته عبر السنوات؛ فقد عنت لي أنني لم أكن أضع كلّ أملي في فكرة محدّدة بذاتها. ثمة العديد من العلماء ممّن يعملون على فكرةٍ واحدة بذاتها لسنوات كثيرة حتى إنهم باتوا يشعرون بنوعٍ من عائديتهم المطلقة لتلك الفكرة. عملتُ من جانبي لتعظيم رهاناتي وعدم حصرها في نطاق فكرة واحدة أو توجّه علمي محدّد واحد فحسب.
كان ثمة أوقاتٌ عملتُ فيها وفي وقتٍ متزامنٍ على تأويلين مختلفين لظاهرة ما، ولم أشعر يومًا بالحاجة لأن ألزِم نفسي بقناعة محدّدة من أجل امتلاك الدافعية والشغف. أريد أن أعرف الجواب المناسب وليس شيئًا آخر سوى ذلك. من المناسب أحيانًا أن يكون الطريق الأفضل لمعرفة الجواب الصحيح هو استكشاف خيارات عدّة مختلفة ومعرفة أي تلك الخيارات سيصيبُ الهدف المنشود قبل سواه.
انعطافات كوسمولوجية عظمى
● قلتَ بأنّ ستينيات القرن العشرين كانت عصرًا ذهبيًّا للمكتشفات الكوسمولوجية. هل ترانا نعيشُ حقبة مماثلة في أيامنا هذه؟
■ نعم، أظنّ ذلك. شهدت خمس السنوات الماضية انعطافات كوسمولوجية عظمى، وإذا أردنا تسجيل بعضها فهي كالآتي: الكشف عن الموجات الثقالية، فهمٌ أكثر عمقًا للكواكب خارج مجرتنا، مراقبةٌ أكثر تفصيلًا ودقّة لإشعاع الخلفية الكونية ذي الموجات الصغيرة، أفكار نظرية جديدة بشأن تكوّن المجرّات ومراقبة الأطوار الأولى للكون قبل مرحلة تشكّل المجرّات.
تمّت مثل هذه الانعطافات الكبرى بمعونة تسهيلاتٍ جاءت من تطوّرين حاسميْن: الأوّل، مناظير (تلسكوبات) أكثر قوة من ذي قبلُ موضوعة في الأرض أو سابحة في الفضاء، والثاني هو حواسيب أفضل من سابقاتها. نحنُ في علم الفلك والكوسمولوجيا لا نستطيع إجراء التجارب على موضوعات البحث (مثلما نفعل في العلوم الأخرى، المترجمة)؛ لذا نعتمد أسلوب المحاكاة الحاسوبية بأكثر ممّا يعتمده العلماء في الحقول العلمية الأخرى: على سبيل المثال، نحن لا نستطيع جعل اثنتين من المجرّات ترتطمان؛ لكن المحاكاة الحاسوبية يمكن أن تقوم بالحسابات المطلوبة لما يمكن أن يكون عليه مثل هذا الارتطام، ويمكننا بعد ذلك مقارنة النموذج (الموديل) الحاسوبي مع الوقائع المادية التي نراها في الأرصاد الفلكية.
● تفترض الحكمة التقليدية أن ينجز العلماء أفضل كشوفاتهم العلمية وهُم شبابٌ يافعون. ما الذي تعتقده بشأن هذا الأمر بوصفك عالِم فيزياء فلكية في منتصف سبعينيات عمره؟
■ ثمة شيء غير يسيرٍ من المصداقية في هذا القول. الشباب اليافعون يمتلكون قدراتٍ أعظم من سواهم على التركيز في موضوعاتهم فضلًا عن أنّ ثمة الكثير من الوقت المتاح لا يزال ينتظرهم. لاحظتُ من جانبي أنّ هناك ثلاثة طرقٍ يغدو بها العلماء كبارًا شائخين: بعضٌ منهم يتوقّف عن البحث العلمي ويُسقِطُهُ من حسابه وينغمس في عمل أشياء أخرى. بعضٌ آخر يغدو ضجرًا بالمباحث العلمية التي اعتاد عليها ويرى أن من الممكن تبديد هذا الضجر من خلال الانغماس في حقول علمية جديدة لا يمتلكون أية خلفية علمية مسبقة عنها (ويحضرُني كأمثلة هنا كلّ من لينوس بولنغ، ويليام شوكلي، فرِد هويل). الطريقة الثالثة هي أن يحتفظ المرء بما اعتاد القيام به بشكل جيّد من قبلُ ويقبل بهذا الأمر بكلّ بساطة من غير أن يتطلّع إلى أعالي بعيدة الشأن.
● أين تجد نفسك بين هؤلاء؟
■ سأقولُ: إنني أجد نفسي خليطًا مُوزّعًا بين المجموعة الأولى والثالثة. ما زلتُ حتى اليوم أتفحّصُ أرشيف المنشورات العلمية العالمية كلّ صباح؛ لكنني أقضي الكثير من الوقت مع الموضوعات غير البحثية مثل كتابة الكتب والمشاركة في الشؤون العامة. أراني متفقًا مع الفيزيائي فريمان دايسون وأشاركه رأيه القائل: إنّ العلماء كبار العمر لا يتوجّب عليهم كتابة البحوث العلمية بل كتابة الكتب.
● وأنت لطالما فعلتَ ذلك بالتأكيد. كتابكَ المعنون «عن المستقبل» هو أحدث إصداراتك من الكتب. إضافة إلى كتابة الكتب أنت عضو غير كاثوليكي في الأكاديمية البابوية، ومشاركٌ فاعلٌ في مجلس اللوردات.
■ كنتُ دومًا وفي كلّ أطوار حياتي مشاركًا في النشاطات السياسية. عندما كنتُ طالبًا يافعًا انضممتُ إلى مسيرات وتظاهرات عدة، وعملتُ عضوًا في حزب العمّال لأكثر من أربعين سنة. بلغتُ في بضع السنوات الأخيرة عمرًا شعرتُ معه بإمكانيّتي على العمل في أشياء أخرى غير عملي العلمي البحثي، وهذا ما دفعني للانغماس أكثر من ذي قبلُ في الشأن العام.
أما فيما يخصُّ عملي عضوًا في مجلس اللوردات -وهو المجلس الثاني المكوّن للبرلمان البريطاني إلى جانب مجلس العموم- فلطالما انشغلتُ فيه بموضوعات ذات طبيعة أخلاقياتية على شاكلة: هل ينبغي أن نسمح بالموت المدعم بإرادة بشرية (أي غير الموت الطبيعي، المترجمة)، وهل ينبغي قبول البحث العلمي في حقل تخليق الأجنة البشرية؟ لم أقدّم أي تشريعٍ ذي أهمية كبرى بالرغم من مساهمتي في إصدار تقارير عن موضوعات مختلفة في العلم والتقنية. حصل في غالب الأحايين أن ساهمتُ في الموضوعات طويلة الأجل التي ما زالت مدار نقاشات بحثية مطوّلة، وهي في مجملها موضوعاتٌ ذات مفاعيل مدمّرة وتمثل تهديداتٍ -وإن كانت ذات احتمالية قليلة- يمكن أن تنشأ بفعل النشاطات البشرية ثقيلة الوطأة على كوكب الأرض، أو قد تنشأ من التقنيات الجديدة. تمثل هذه التهديدات أحد الموضوعات الرئيسية التي أتناولُها في كتابي الجديد «عن المستقبل». لكن في كلّ الأحوال يبقى عملي اليومي هو التفكّر الحثيث في الكون، ولا يزال هذا العمل هو ما أتقاضى أجورًا لقاء القيام به.
● تقدّمُ في كتابك هذا بعضًا من التخمينات بشأن المستقبل. هل ترى أنّ العلماء صالحون في التخمين؟
■ لا أرى سجلّ العلماء في تخمين المستقبل أسوأ من سجلّ الآخرين من غير العلماء، وفي العموم أرى أنّ العلماء أفضل من الاقتصاديين في هذا الشأن! أفرّقُ في كتابي بين الأمور التي يمكننا التنبؤ بها بثقة وبين سواها التي لا نستطيع التنبؤ بها بأية ثقة على الإطلاق. عندما أتطلّعُ في خمسين السنة القادمة (أو في حدود تلك السنوات) أرى أنّ ما نستطيع التنبؤ به بثقة كاملة هو أمران اثنان فحسب: الأول هو أنّ العالم سيغدو أكثر اكتظاظًا بالسكّان ما لم تحصل جائحة وبائية عالمية قاتلة، ونستطيع التنبؤ بأنّ سكّان العالم سيبلغون قرابة تسعة بلايين -أو في حدود ذلك الرقم- عام 2050م. التخمين المؤكّد الثاني هو أنّ العالم سيغدو أكثر احترارًا بسبب مفاعيل زيادة نسبة غاز CO2 (ثاني أُكسيد الكاربون) في الغلاف الأرضي.
● هل ترى أية حلول لهذه المعضلات؟
■ أنا أعرضُ في كتابي كم يمكن لمعضلة التغير المناخي أن تكون خطيرة وتمثل تحدِّيًا ذا شأن متعاظم؛ لكن لو طلبتَ إلى الناس في يومنا هذا قبول بعض التضحيات في نمط عيشهم لأجل فائدة أناسٍ آخرين في بقاعٍ بعيدة من العالم وكذلك لفائدة العالم بعد خمسين سنة من يومنا هذا فسيكون هذا أمرًا شاقًا على الفعل من جانب السياسيين.أرى أن الوسيلة الوحيدة المؤثرة في هذا الشأن هي الوسيلة التي يرى فيها جميع الناس أنفسهم رابحين (من غير اللجوء إلى تضحيات أليمة من جانب بعض، المترجمة )، وتكمن هذه الوسيلة في محاولة الارتقاء بالتطويرات الحديثة الحاصلة في قطاع الطاقة النظيفة. إنّ الوسيلة الواقعية الوحيدة لتثبيت انبعاثات الكاربون هي الارتقاء بسلسلة البحث والتطوير R & D لغرض جعلها قادرة على خفض أكلاف الطاقة النظيفة إلى حدود منافسة مع الطاقة التي تنتجها محطّات الفحم، وهذا هو ما سيُغري دولًا -مثل الهند على سبيل المثال- على القفز بشكل مباشر نحو اعتماد الطاقة الخالية من الانبعاثات الكاربونية.
كوابيس بيولوجية
● عرفناك داعيًا متحمّسًا للتقنيات المُطوّرة؛ لكنّك في الوقت ذاته تُبدي تحذيرات وشكوكًا بشأن بعض المخاطر المحتملة التي قد تترافق مع التقنية الحيوية والتقنية السيبرانية، وقد أوضحتَ في كتابك بأنّ هاتين التقنيتين قد تستوجبان بعض التقييد للحرية الشخصية.
■ قلتُ هذا بشأن تَيْنِك التقنيتين بسبب وجود صراعٍ متنامٍ بين موضوعات ثلاث على المستوى الفردي: الخصوصية، الأمن، الحرية. يمكن لمجموعة منظّمة تنظيمًا جيدًا، على المستوى السيبراني، أن تتسبّب في كارثة قومية عبر تدمير الشبكة الكهربائية في مناطق واسعة من الولايات المتحدة. الحالة مشابهة في حقل التقنية الحيوية؛ فقد أبانت نتائج مختبرية أجرِيت على فايروس الإنفلونزا أنّ بالمستطاع جعله أكثر شراسة وبائية وأكثر قدرة على الانتقال بين البشر.
إنّ أسوأ كوابيسي هو ذلك الذي أرى فيه أحد المُتعصبين في مكانٍ ما من العالم وهو يفكّرُ بأنّ العالم يكتظُّ بأعداد أكثر من المسموح بها من البشر. إنّ مثل هذا النوع من البشر لا يمتلك أيّ شعور بوخزة ضمير إذا ما فكّر بإطلاق نوعٍ ما من العوامل المُمرِضة (التي قد تقود لوباء عالمي)، وهذا هو بالضبط ما يستطيع عمله كلّ من له قدرة على التعامل مع مختبرات البحوث البيولوجية، وليس ثمة شيء ذو خصوصية علمية عصيًّا على الوصول من قبل كل من يريد شرًّا، وهو بهذا الشكل يختلف عن القنابل الذرية التي تتطلّبُ منشآت مادية ضخمة لا يمكن إخفاؤها على الأرض.
لذا فإنّ قلقي يكمن في أنّ هذه التقنيات عظيمةُ الخطورة، وسهلة التنفيذ، وعصية على التقييد أو الإخضاع للضوابط الصارمة، وهي في الوقت ذاته تقنيات واسعة الانتشار ويمكن أن يكون لها نتائج كارثية ذات طابع عالمي. لم تعمل الضوابط العالمية فيما يخصّ تجارة المخدّرات وقوانين الضرائب بصورة مقبولة، والحقُّ أننا أنجزنا القليل فحسب من النجاح في كلّ من هذين الأمرين.
يخبرُنا الواقعُ أنّ القرية العالمية (التي نحيا فيها اليوم) سيكون فيها حمقى كثيرون يفلتون من قبضة القوانين الصارمة؛ لأنّ لهم امتداداتهم التي قد تبلغ أقصى نقطة في العالم.
* أفردْتَ في كتابك «عن المستقبل: آفاق ممكنة للإنسانية» ستّ صفحاتٍ لمناقشة موضوعة (المُصادم الهادروني الكبير LHC)، وكتبتَ بشأن العناصر المقلِقة الخطيرة والقائمة على أساس أنّ هذا المصادِم قد يتسبّبُ في إطلاق عملية تدميرية للأرض. لماذا هذا الأمر؟
■ أبدى بعض المتخصّصين سواي قلقهم بشأن هذا الأمر أيضًا، وكنتُ من جانبي أحد الذين استجبتُ لهم بإعادة تأكيد رؤاهم المقلقة؛ لكنني ذكرْتُ هؤلاء المتخصّصين في كتابي لأنني أرى في كلّ مرة تكون مخاطر تجربة ما عالية الأكلاف وتنبئُ بكارثةٍ ما فسيكون أمرًا حصيفًا -بل واجب التنفيذ- أن نجري تقييمًا معمّقًا للمخاطر المُتوقّعة. أبانت التقييمات اللاحقة بأنّ الفعاليات الفيزيائية وسُرعات الاصطدامات في المعجّل الهادروني الكبير ليست سُرعات غير مسبوقة؛ فقد سبق لها أن حدثت في الطبيعة بفعل تصادم جزيئات الأشعة الكونية، وقد سبق لي أن كتبتُ واحدة من الأوراق البحثية التي أوضحتُ فيها أنّ مثل تلك الاصطدامات ذات السرعات العالية قد حدثت بصورة طبيعية من قبلُ؛ وعليه لا ينبغي لنا أن نُبدي قلقًا غير مسوّغ بشأن تجربة المصادم الهادروني الكبير.
* إذا ما تفكّرنا في مستقبل حقلك العلمي (الفيزياء الفلكية والكوسمولوجيا)، فما هي المكتشفات التي تراها قادمة لا ريب فيها في عشرين أو خمسين السنة القادمة؟
■ سيعتمد الكثير ممّا سيتحقق في هذا الشأن على التطوّرات الحثيثة في التقنية. ستمنحُنا الحوسبة المطوّرة القدرة على نمذجة وفهم المعلومات الجديدة التي سنتحصّلها من التلسكوبات الأكثر قدرة؛ فعلى سبيل المثال جمع القمر الاصطناعي الأوربي GAIA بياناتٍ حول أكثر من بليون نجمٍ، ويمكننا في يومنا هذا تحليل تلك البيانات، وهو الشيء الذي ما كان في مقدورنا فعله قبل بضع سنوات خلت. يحدوني أملٌ عريض بأن نشهد المزيد من الأفكار النظرية من فيزياء الجسيمات -ذلك الحقل البحثي الفيزيائي الذي شهد القليل من التقدّم النظري الراسخ في السنوات الراهنة. إنّ الهدف النهائي هو بلوغُ نظرية توحّدُ التفاعلات القوية مع التفاعلات الكهربائية الضعيفة، وسيكون أمرًا محمودًا طيّب الأثر لو استطعنا توحيد الثقالة **Gravity مع القوى السابقة. سيمكّننا هذا الأمر -لو تحقق فعلًا- من ترسيخ بعض الأفكار الفيزيائية التي ستكون قابلة للتطبيق على البواكير الأولى من نشأة الكون.
تكمن معضلتنا مع هذا الأمر في أنّ الأحوال الفيزيائية التي سبقت النانو ثانية الأولى (النانو ثانية تساوي واحدًا من ألف مليار جزء من الثانية، المترجمة) في الكون كانت حافلة بالظواهر الفيزيائية المتطرّفة التي يصعب علينا محاكاتها في المختبر حتى لو كان هذا المختبر معجّلًا ضخمًا؛ لذا فليس بحوزتنا بيانات راسخة في هذا الشأن، كما ليس بحوزتنا نظرية موطّدة الأركان. آملُ خلال عشرين سنة أننا سنمتلك بياناتٍ أفضل ونظريات أفضل ستتيحُ لنا فهمَ الأطوار المبكّرة للغاية من الانفجار الكبير، فضلًا عن أنّها ستزوّدنا بفهم أفضل عن سبب احتواء كوننا على خليط من الذرات والمادة المظلمة والإشعاع الذي نتحسسه في أرصادنا الحالية. ستخبرُنا هذه البيانات والنظريات أيضًا أكثر بشأن السبب الذي يجعل كوننا يتوسّعُ بالشكل الذي يفعله، وهل الانفجار الكبير هو الانفجار الوحيد الذي حصل في الكون أم ثمة انفجاراتٌ أخرى سواه؟
كلّ هذه الأسئلة لا تزال في نطاق التأمّل الحدسي؛ لكن لو استرجعتُ ذاكرتي عندما كنتُ طالبًا بعدُ فسأرى أن لا شاهدة حينذاك كانت تنبئُ بوجود الانفجار الكبير؛ في حين أننا في يومنا هذا نتكلّمُ بكلّ ثقة عن الانفجار الكبير ونسعى لمعرفة تفاصيله التي حدثت بعد النانو ثانية الأولى من حصوله. كان هذا تقدّمًا ضخمًا.
** آثرتُ استخدام المصطلح «الثقالة» مقابلًا لمفردة «Gravity»، وقد شاعت هذه المفردة بدلًا من «الجاذبية» التي صارت تُستخدمُ حصريًّا في مقابل مفردة «Gravitation» الإنجليزية. ثمة ما يسوّغ هذا التفريق؛ فالثقالة تشير إلى قوة الجذب الناتجة عن تأثير الكتل المادية في بنية الزمكان بحسب نظرية النسبية العامة، أما الجاذبية فتشير إلى أي نوع آخر من قوة الجذب.
المصدر: https://www.quantamagazine.org/martin-rees-on-the-future-of-science-and-humanity-20181205/