الرواية الحديثة (١٩١٩)
عند القيام بمسح للرواية الحديثة، حتى إن كان المسح الأكثر انفتاحًا والأقل انضباطًا، من الصعب عدم التسليم بأن الممارسة الحديثة للفن فيها قدر من التحسن قياسًا بالقديم. ربما أمكن القول: إن هنري فيلدنغ كان جيدًا وجين أوست أفضل منه، إذا أخذنا في الحسبان أدواتهما البسيطة وموادهما البدائية، لكن قارن الفرص التي كانت متاحة لهما بالمتاحة لنا! لروائعهما بالتأكيد جو غريب من البساطة. ومع ذلك فإن تشبيه الأدب بعملية صناعة السيارات، على سبيل المثال، لا تثبت طويلًا. مع أننا على مدى القرون تعلمنا الكثير في صناعة الآلات، فإن من المشكوك فيه أننا تعلمنا أي شيء في صناعة الأدب.
إننا لا نكتب أفضل؛ كل ما يمكن أن يقال عنا: إننا نواصل التحرك، مرة في هذا الاتجاه، ومرة في ذاك، لكن بميل نحو الالتفاف لو نظرنا إلى المسار من مرتفع عالٍ بما يكفي. وليس من حاجة للقول بأننا لا ندعي أننا نقف، حتى لثوانٍ، على ذلك المرتفع المميز. إننا ننظر إلى الخلف، واقفين على الأرض المستوية، وسط الحشد، نحسد أولئك المحاربين الأسعد منا، الذين كسبوا معركتهم والذين تعتمر إنجازاتهم صفاء الإبداع إلى حد أننا لا نستطيع التوقف عن الهمس بأن المعركة بالنسبة لهم لم تكن بالضراوة التي نواجهها. إن الأمر متروك لمؤرخ الأدب ليقرر؛ ليقول: إن كنا الآن نبدأ، أو ننتهي، أو إن كنا نقف في منتصف عصر عظيم للسرد المنثور؛ ذلك أن لا شيء واضح على امتداد البصر. نعرف فقط أن بعض الامتنان وبعض العداء يلهمنا؛ أن طرقًا محددة تبدو وكأنها تقودنا إلى أرض خصبة، وأن أخرى تسير بنا إلى الغبار والصحراء؛ ولربما كان بعض ذلك مما يستحق محاولة الحديث عنه.
خصومتنا إذًا ليست مع الروائع، وإن تحدثنا عن الخصومة مع السيد ويلز، والسيد بينيت، والسيد غالزورذي، فإن ذلك يعود جزئيًّا إلى أنه نتيجة لوجودهم البشري المجرد تتسم أعمالهم بالنقص الذي يعتري اليومي والحيوي، عن كونها تتنفس، بالقدر الذي يدفعنا إلى الجرأة عليها لو أردنا ذلك. ولكن من الصحيح أيضًا أننا إذا نشكرهم للهدايا التي لا تحصى، فإننا نبقي امتنانا غير المشروط للسيد هاردي، والسيد كونراد، وبدرجة أقل بمراحل للسيد هدسون صاحب «الأرض البنفسجية، المنازل الخضراء» و«بعيد جدًّا ومنذ زمن بعيد». السيد ويلز والسيد بينيت والسيد غالزورذي منحونا نشوة الآمال وخيبوها باستمرار إلى حد أن امتناننا يتخذ إلى حد بعيد شكل الشكر لهم؛ لأنهم أرونا ما كان يمكنهم أن يفعلوا ولم يفعلوه؛ ما لم نستطع بالتأكيد أن نفعله، ولكننا ربما بنفس التأكيد أيضًا لا نرغب في فعله.
لا توجد عبارة واحدة تستطيع أن تلخص التهمة أو الشكوى التي علينا أن نرفعها ضد قدر هائل من الأعمال التي تجسد خصائص كثيرة، رائعة وغير رائعة. لو حاولنا أن نعبر عما نريد بكلمة فعلينا أن نقول: إن هؤلاء الكتاب الثلاثة ماديون. لقد خيبوا أملنا؛ لأنهم معنيون ليس بالروح وإنما بالجسد، فتركوا لدينا الشعور بأنه حالما تدير القصة الإنجليزية ظهرها لهم، باللطف الممكن، وتمضي، حتى وإن باتجاه القفر، فإن ذلك سيكون أفضل لروح تلك القصة. إن من الطبيعي ألا توجد كلمة قادرة على الوصول إلى مركز واحد لثلاثة أهداف. فيما يتعلق بالسيد ويلز من الواضح أن الكلمة ستبتعد كثيرًا من الهدف. لكن حتى في حالته فإنها تشير إلى ما نعتقد أنه العنصر القاتل في عبقريته، كتلة الطين التي التصقت بصفو إلهامه. لكن قد يكون السيد بينيت الشريك الأسوأ بين الثلاثة بقدر ما أنه الحرفي الأفضل بما لا يقارن بينهم. إن بإمكانه تركيب كتاب بجودة وتماسك في صنعته إلى حد أن من الصعب على أكثر النقاد حذقًا أن يرى عبر أي شق أو صدع يمكن للتلف أن يتغلغل إليه.
ليس ثمة تيار هواء بين أطر النوافذ، أو شرخ في الألواح. ومع ذلك، ماذا لو رفضت الحياة أن تعيش هناك؟ تلك مخاطرة على كاتب حكاية «الزوجات المسنات»، جورج كانون، وإدوين كليهانغر، وجمع آخر من الشخوص، أن يدّعي تجاوزها. شخوصه يحيون بوفرة، بل على نحو غير متوقع، لكن السؤال هو: كيف يحيون، ولأي هدف يحيون؟ إنهم يبدون لنا وبشكل متزايد يهجرون حتى الفيلّات الجيدة البناء في (المدن الخمس)، ليقضوا وقتهم في عربة قطار وثيرة من الدرجة الأولى، يضغطون عددًا لا محدود من الأجراس والأزرار؛ والمكان الذي يسافرون إليه بهذا الترف يصبح بيقين متصاعدٍ أبدية من النعيم الذي تتيحه أفضل الفنادق في برايتون.
إن مما لا يمكن قوله عن السيد ويلز: إنه مادي بمعنى أنه يستمتع أكثر مما ينبغي بتماسك نسيجه. عقله أكثر عطاءً وكرمًا من أن يسمح له بتمضية وقت طويل في جعل الأشياء مرتبة وصلبة. إنه مادي من حيث طيبة قلبه، فهو يحمل على كتفيه عملًا يفترض أن ينهض به مسؤولو الحكومة، وهو من وفرة أفكاره ومعلوماته لا يكاد يجد متسعًا يجعله يدرك فجاجة أو جلافة شخوصه، أو يرى أهمية لذلك. ومع ذلك فأي نقد مدمر يمكن أن يوجه لأرضه وسمائه أكثر من أن يسكنها الآن وفي الآخره «جواناته» و«بيتراته»؟ ألا تسيء طبيعتهم الدونية إلى أي مؤسسات أو مُثُل يمكن أن يوفرها كرم صانعهم؟ كما أننا، مع احترامنا العميق لمكانة وإنسانية السيد غالزورذي، لا نجد ما نبحث عنه في صفحاته.
الكتابة حول أمور غير مهمة
إذًا لو ثبتنا ملصقة على هذه الكتب، عليها كلمة واحدة هي ماديون، فإننا نعني بها أنهم يكتبون حول أمور غير مهمة؛ أنهم يهدرون مهارة هائلة وصنعة هائلة في جعل التافه والزائل يبدو حقيقيًّا ودائمًا. علينا أن نعترف بأننا نطالب، وأكثر من ذلك أننا نجد من الصعب أن نبرر عدم اقتناعنا بشرح ما نطالب به. إننا نصوغ سؤالنا بطريقة مختلفة في أوقات مختلفة. لكنه يعاود الظهور بإصرار شديد حالما نلقي بالرواية التي قرأنا على ذروة آهة – هل كان في ذلك ما يستحق؟ ماذا كان الهدف من ذلك كله؟ هل يمكن أن يكون السيد بينيت، نتيجة لواحدة من تلك الانحرافات الصغيرة التي يبدو أن الروح الإنسانية تقوم بها بين الفينة والأخرى، دفع بجهازه الرائع المهيأ للإمساك بالحياة إلى الجهة الخاطئة مسافة إنش أو إنشين؟ تهرب الحياة ولربما أنه من دون الحياة لا يتبقى شيء مهم آخر. إنه اعتراف بالغموض أن نضطر لاستخدام تعبير كهذا، لكننا لا نحسن الأمر بأن نتحدث، كما يميل النقاد أن يفعلوا، عن الواقع.
الاعتراف بالغموض الذي يصيب نقد الروايات بأكمله، دعونا نغامر بالرأي القائل: إنه في هذا الوقت شكل الأدب الروائي الشائع يخطئ الهدف الذي نسعى إليه أكثر مما يصيبه. سميناها حياة أم روحًا، حقيقة أم واقعًا، فإنه هذا، أي الشيء الأساسي، قد تحرك بعيدًا أو مضى، ويرفض أن يُحتوى لمدة أطول في الملابس التي نوفرها له طالما لا تتناسب مع مقاسه. ومع ذلك فإننا نمضي بإصرار وبضمير حي نبني فصولنا الاثنين وثلاثين متبعين خطة تتراجع تدريجيًّا عن شبهها بالرؤية التي في أذهاننا. وبذلك فإن الكثير من الجهد الهائل الذي يثبت صلابة القصة وشبهها بالحياة لا يكون مجرد جهد ضائع، وإنما جهد في غير محله إلى درجة التغطية على ضوء التصور وإلغائه تمامًا.
يبدو الكاتب تحت ضغط لا تفرضه عليه إرادته الحرة وإنما يفرضه مستبدّ قويّ لا يتسامح يضعه تحت سلطته، ليوفر الحبكة، ويوفر الكوميديا، والمأساة، واهتمامات الحب، وجوًّا من إمكانية الحدوث يغلف الكل بدرجة من الاكتمال تجعل الشخوص مطابقين للحياة حتى إنهم لو جاؤوا إليها لوجدوا أنفسهم بلباس منسجم حتى الزر الأخير من المعطف مع أحدث الموضات. المستبد يطاع، والرواية كما يجب أن تكون. لكن أحيانًا، وعلى نحو متزايد بمضي الوقت، يعترينا الشك للحظة، نزوع للتمرد، بينما الصفحات تتعبأ بالطريقة التقليدية. هل الحياة هكذا؟ هل ينبغي للروايات أن تكون هكذا؟
انظر إلى الداخل وسيبدو أن الحياة بعيدة من أن «تكون هكذا». اختبر للحظة عقلًا عاديًّا في يوم عاديّ. يستقبل العقل كمًّا هائلًا من الانطباعات – تافهة، فانتازية، عابرة، أو محفورة بحدة الفولاذ. تأتي من كل الجهات، هطولًا متواصلًا لذرات لا حصر لها؛ وأثناء تساقطها، أثناء تشكلها في حياة الإثنين أو الثلاثاء، يتغير ما تضغط عليه عما كان سابقًا؛ جاءت اللحظة المهمة ليس هنا وإنما هناك، ولذلك لو كان الكاتب حرًّا وليس عبدًا، لو كتب ما اختاره وليس ما يجب أن يكتب، لو أسس عمله على شعوره هو وليس على التقاليد، لن تكون هناك حبكة، أو كوميديا، أو تراجيديا، أو اهتمام بالحب أو كارثة في الأسلوب المقبول، وربما لن يكون هناك زر واحد يخاط كما يريده خياطو شارع بوند.
مهمة الروائي
الحياة ليست سلسلة من المصابيح المصفوفة بتناسق؛ الحياة هالة مضيئة، غلاف شبه شفاف يحيط بنا من بداية الوعي حتى نهايته. أليست مهمة الروائي أن ينقل هذه الروح المتنوعة، الروح المجهولة وغير المقيدة بغض النظر عن أي شذوذ أو تعقيد يظهر عليها، وبأقل قدر ممكن من مزيج الغريب والخارجي؟ إننا لا نلتمس الشجاعة والصدق؛ إننا نقترح أن تكون مادة القصة شيئًا مختلفًا قليلًا عما تود التقاليد أن نراه.
إننا على أية حال بطريقة كهذه نسعى لتحديد الخاصية التي تميز أعمال عدد من الكتاب الشبان عن أعمال من سبقوهم، ومن بين أولئك الشبان يقف السيد جيمس جويس بوصفه أحد أبرزهم. إنهم يسعون للاقتراب من الحياة، وأن يحافظوا بصدق أكثر على معظم التقاليد التي يراعيها الروائي اليوم بصفة عامة. دعونا نسجل الذرات التي تسقط على العقل حسب تراتبية سقوطها، دعونا نتتبع النموذج، مهما كان منفصلًا وغير متماسك في مظهره، الذي يحققه كل مشهد أو حادثة في الوعي. دعونا نتفادى التسليم بأن الحياة متحققة فيما يظن بصفة عامة كبيرًا أكثر من تحققها فيما يظن بصفة عامة صغيرًا. أي شخص قرأ «صورة الفنان في شبابه» أو، ما يعد بأن يكون عملًا أكثر إمتاعًا، «يوليسيس»، التي تنشر في «ليتل ريفيو»، سيكون قد غامر بنظرية من هذا النوع فيما يتصل بمقصد السيد جويس. من جانبنا، وبجزء مثل هذا أمامنا، فإنها مغامرة أكثر منها توكيد؛ ولكن مهما يكن المقصود في الكل فإنه ليس ثمة شك في أنه على أعلى مستوى من الصدق وأن النتيجة، مهما تكن صعبة أو غير مريحة في تقديرنا، فإن من المستحيل إنكار أهميتها.
في مقابل أولئك الذين وصفناهم بالماديين، يقف السيد جويس بوصفه روحانيًّا؛ إنه معني بالكشف، بأي ثمن، عن التماعات تلك الشعلة العميقة التي تومض برسائلها عبر الذهن، ولكي يحافظ عليها يترك بشجاعة تامة كل ما يبدو له عرضيًّا، سواء كان احتمالًا أو تمساكًا أو أي من هذه المعالم التي على مدى أجيال أعانت مخيلة القارئ حين يستدعيها لتخيل ما لا يستطيع لمسه أو رؤيته. مشهد المقبرة، مثلًا، بروعته، بكآبته، وبعدم تماسكه، بومضاته التي تشع فجأة بالمغزى، يقترب كثيرًا دون شك من الذهن الذي، من قراءة أولى، يصعب عليه ألا يصفق لعمل رائع.
إن كنا نريد الحياة نفسها، فهي هنا بالتأكيد. نجد أنفسنا فعلًا نتلعثم بشكل مخجل لو حاولنا أن نقول: إننا نتطلع إلى شيء آخر، ولأي سبب يفشل على الرغم من ذلك عمل بهذه الأصالة في أن يكون موضع مقارنة مع «صبا» ورئيس بلدية كاستربردج؛ ذلك أن علينا أن نختار نماذج رفيعة. ستفشل بسبب فقر المقارنة في عقل الكاتب: قد نقول ذلك ببساطة وننهي الموضوع. لكن من الممكن أن نصرّ على المضي قليلًا ونتساءل عما إذا كان يمكننا أن نعزو إحساسنا بأننا في غرفة مضاءة لكنها ضيقة، مقيدين ومرغمين على البقاء، بدلًا من أن نكون متسعين وأحرارًا، إلى نوع من التقييد الذي يفرضه المنهج مثلما يفرضه العقل.
هل المنهج هو الذي يقيد قدراتنا الإبداعية؟ هل نشعر بسبب المنهج أننا لا نشعر بالبهجة ولا بسعة الصدر، وإنما بأننا متمركزون في ذات على الرغم من هشاشتها المرتجفة لا تعانق أبدًا أو تبدع ما هو خارجها وما وراء ذلك؟ هل التركيز الواقع، ربما بنوع من التلقين، على قلة الذوق، يسهم في إحداث شيء من ضيق الأفق والعزلة؟ أم أن الأمر لا يعدو أنه في أي محاولة على ذلك القدر من الأصالة يكون من الأسهل كثيرًا للمعاصرين بشكل خاص أن يشعروا بما ينقصها من أن يحددوا ما تعطيه؟ إن من الخطأ، على أية حال، أن نقف في الخارج نتفحص «المناهج». أي منهج صحيح، كل منهج صحيح، إذا عبر عما نود أن نعبر عنه، إن كنا كتّابًا؛ ويقربنا ذلك من قصد الروائي إن كنا قراءً. لهذا المنهج فضيلةُ تقريبِنا مما نحن مستعدّون لأن ندعوه الحياة نفسها؛ أليست قراءة «يوليسيس» تقترح كمًّا من الحياة يُستثنى ويُتجاهل، وألم يكن صادمًا أن نفتح «ترسترام شاندي» أو حتى «بيندينيس» ثم نجدها تقنعنا بأنه ليس الأمر أن ثمة وجوهًا أخرى للحياة فحسب وإنما وجوه أكثر أهمية للمراهنة عليها.
الأماكن المظلمة من الحالة النفسية
مهما يكن الأمر، المشكلة أمام الروائي في الوقت الحاضر، هي كما نفترض أنها كانت في الماضي، أي اصطناع الوسائل التي تتيح له الحرية ليقرر ما يراه مناسبًا. عليه أن يتحلى بالشجاعة لقول: إن ما يهمه ليس «هذا» بل «ذاك»: من «ذاك» وحده عليه أن يبني عمله. بالنسبة للمحدثين «ذاك»، أي منطقة الاهتمام، تكمن على الأرجح في الأماكن المظلمة من الحالة النفسية؛ لذلك يكون التركيز فجأة مختلفًا قليلًا؛ التركيز يكون على شيء جرى تجاهله حتى تلك اللحظة؛ فجأة يصير من الضروري عمل تخطيط مختلف، يصعب استيعابه علينا، وغير مفهوم لأسلافنا.
لا أحد غير كاتب محدث، لا أحد ربما غير روسي، كان سيشعر بأهمية الوضع الذي حوله تشيكوف إلى قصة قصيرة سماها «غوسِف». بعض الجنود الروس المرضى يستلقون على سطح سفينة عائدة بهم إلى روسيا. تتاح لنا معرفة بعض كلامهم وبعض أفكارهم؛ بعد ذلك يموت أحدهم ويُنقل بعيدًا؛ يستمر الكلام بين الآخرين لبعض الوقت، حتى يموت غوسِف نفسه فيلقى به على السطح «وهو مثل جزرة أو فجلة». يأتي التركيز على تلك الأماكن غير المتوقعة التي تبدو في البدء كما لو أنها لم يركز عليها مطلقًا؛ وعندئذٍ، وبينما تتكيف العيون مع المغيب وتتبين أشكال الأشياء في غرفة نرى درجة اكتمال القصة، كم هي عميقة، وإلى حد اختار تشيكوف هذا وذاك والآخر انسجامًا مع رؤيته، وكيف وضعها معًا ليؤلف شيئًا جديدًا. لكن من المستحيل أن نقول «هذا مضحك» أو «هذا مأسوي»، كما أننا لسنا متأكدين ما إذا كانت هذه قصة قصيرة أساسًا؛ لأن القصص القصيرة، كما عُلِّمنا، ينبغي أن تكون موجزة وتصل إلى ختام.
إن من غير الممكن لأكثر الملاحظات أساسية حول القصة الإنجليزية الحديثة أن تتفادى التأثير الروسي، وإذا ذُكر الروس فإن المرء عرضة للشعور بأن كتابة أي قصة باستثناء قصتهم هو مضيعة للوقت. لو أردنا فهم الروح والقلب فأين سنجده عند غيرهم بذات القدر من العمق؟ إن شعرنا بالقرف من ماديتنا فإن لدى الأقل أهمية بين روائييهم، وبحكم الولادة، تبجيلًا طبيعيًّا للروح الإنسانية. «تعلّم أن تجعل نفسك قريبًا من الناس… لكن لا تدع هذا التعاطف يكون مع العقل –ذلك أنه سهل مع العقل– وإنما مع القلب، مع الحب لهم».
يبدو أننا في كل كاتب روسي كبير نميز ملامح قديس، إذا كان التعاطف مع آلام الآخرين، الحب لهم، والسعي للوصول إلى هدف جدير بأكثر المطالب صعوبة على الروح هو القداسة. إنه القديس فيهم هو الذي يربكنا إذ يشعرنا بتفاهتنا اللادينية، ويحيل الكثير من رواياتنا الشهيرة إلى بهرجة وألاعيب.
ربما يكون من الحتمي أن ما يتوصل إليه العقل الروسي، بما يمتلك من شمولية وتعاطف، هو الحزن في أشد صوره. ولنكون أكثر دقة قد نتحدث عن تردد العقل الروسي. إنه الإحساس بأنه لا تتوافر إجابة، إن الحياة لو تفحصناها بصدق فإنها تطرح السؤال تلو السؤال، أسئلة لا بد من تركها ترن باستمرار بعد انتهاء القصة في استجواب يائس يملؤنا بيأس عميق قد يكتسي في نهايته بالغضب. قد يكونون محقين؛ ومن المؤكد أنهم يرون أبعد مما نرى وقد تخلصوا من العوائق الفظة لرؤيتنا.
لكننا ربما رأينا شيئًا يغيب عنهم، وإلا لِمَ يمتزج صوت الاحتجاج هذا بما لدينا من كآبة؟ صوت الاحتجاج هو صوت حضارة أخرى وقديمة يبدو أنها ولّدت فينا غريزة أن نستمتع ونحارب بدلًا من أن نعاني ونفهم. القصة الإنجليزية ابتداءً بشتيرن حتى ميريديث تشهد على سرورنا الطبيعي في الهزل والكوميديا، وفي جمال الأرض، وفي مناشط العقل، وفي روعة الجسد. لكن أي استنتاجات قد نخرج بها من مقارنتنا لقصتين بعيدتين تمامًا بعضهما من بعض ستكون بلا جدوى باستثناء إغراقها إيانا برؤية للاحتمالات اللانهائية للفن وتذكيرها إيانا أنه لا توجد حدود للأفق، وأن لا شيء – لا «منهج»، ولا تجربة، مهما كانت غريبة – ممنوعة، ماعدا الكذب والزيف.
لا يوجد شيء اسمه «المادة المناسبة للقصة»؛ كل شيء مادة مناسبة للقصة، كل شعور، كل فكرة، كل خصيصة للعقل والروح يمكن الإفادة منها؛ ليس هناك إدراك يخطئ. ولو تخيلنا فن القصة حيًّا وواقفًا وسطنا، فإنه سيطلب منا أن نكسره ونتنمر عليه، إلى جانب تقديرنا وحبنا له، فبذلك يتجدد شبابه وتتأكد سلطته.