كفاح الفنان من أجل النزاهة أنا سئم من قول الناس: «ماذا يجب عليَّ أن أفعل بشأن مسألة الزنوج»
أنا لست معجبًا حقًّا بكلمات مثل: «فنَّان» أو «نزاهة» أو «إقدام» أو «نبالة». يخامرني نوع من الشَّك تجاه كل تلك الكلمات لأني لا أعرف معانيها حقَّ المعرفة، كما أني لا أعرف بالمثل أيضًا ما تعنيه كلمات من مثل: «ديمقراطية» أو «سلام» أو «محب للسلام» أو «مولع بالحرب» أو «إدماج». ومع ذلك المرء مضطر إلى الاعتراف بأنَّ كل هذه الكلمات الغامضة هي محاولات نقوم بها جميعًا للوصول إلى شيء واقعي يقيم فيما هو أبعد من الكلمات. سواء يعجبني ذلك أم لا يعجبني، على سبيل المثال، ولا يهم اللقب الذي أطلقه على نفسي، أفترض أن الكلمة الوحيدة من أجلي عندما تثار مسألة على قدر كبير من الجدية، هي أني فنان.
هناك شيء مثل هذا. هناك شيء يدعى نزاهة. بعض الناس نبلاء. هناك شيء يدعى إقدامًا. الأمر الرهيب هو أن الواقع خلف تلك الكلمات يعتمد جوهريًّا على ما يؤمن الإنسان (وأعني كل واحد منا) بأنه واقعي. الأمر الرهيب هو أن الواقع خلف كل تلك الكلمات يعتمد على خيارات توجب على المرء اتخاذها، دائمًا وأبدًا، كل يوم.
أنا لست مهتمًّا حقًّا بالتحدث معكم كفنان. يبدو لي أن نضال الفنان من أجل نزاهته يجب أن يُعَدَّ كنوع من مجاز للنضال، وهو نضال شامل ويومي، من كل البشر على وجه هذه الكرة الأرضية لكي يظفروا بأن يصبحوا بشرًا. إنه ليس خطأكم، وهو ليس خطئي، أني أكتب. وما كنت لآتي أمامكم على الإطلاق في موقف المتذمر من فعل شيء عليَّ فعله. ما قد نتوصل إليه في هذه الأمسية، لو حالفنا الحظ، هو ما تكون أهمية هذا الجهد.
مهما يبدو هذا مدعيًا، أريد أن أطرح مقترحين. الأول هو أن الشُّعراء (وبهذا أعني جميع الفنانين) هم أخيرًا وحدهم من يعرفون حقيقتنا. الجنود لا يعرفون. رجال الدولة لا يعرفون. الكهنة لا يعرفون. قادة النقابات لا يعرفون. فقط الشُّعراء. هذا مقترحي الأول. نعرف عن عقدة أوديب ليس بسبب فرويد لكن بسبب شاعر عاش في اليونان قبل آلاف السنين. وما قاله حينها عندما وصف ماذا يعني أن تكون حيًّا لا يزال صحيحًا، على الرغم من حقيقة أننا الآن يمكننا أن نصل إلى اليونان خلال ما يقارب خمس ساعات وحينها كان ليستغرق من الوقت ما لا علم لي به.
المقترح الثاني هو حقًّا ما أريد التوصل إليه الليلة. ويبدو غامضًا، بحسب ظني، في بلد مثل بلدنا، وفي وقت مثل هذا عندما يحدث شيء رهيب لحضارة، عندما تكف عن إنتاج شعراء، وما هو حتى أكثر أهمية، عندما تكف بأية طريقة كانت عن الإيمان بالحديث الذي يمكن للشعراء فقط صنعه. أخبرنا كونراد منذ وقت طويل (أظن أن ذلك كان في كتابه الذي يحمل عنوان انتصار، لكن قد أكون مخطئًا في ذلك): «وا أسفاه على ذلك الرجل الذي لا يضع ثقته في الحياة». قال هنري جيمس: «عش، عش ما بمستطاعك. إنه لخطأ ألا تفعل». وشكسبير قال، وهذا ما أعدُّه الحقيقة التي تنطبق على حياة كل شخص طوال الوقت: «من هذا القرَّاص، الخطر، ننتزع هذه الزهرة، الأمان». الفن هنا ليثبت، وليساعد المرء على احتمال حقيقة أن كل أمان هو وهم. بهذا المعنى جميع الفنانين منفصلون عن أي نظام مهما كان حتى المعارضون له بالضرورة.
الشهادة في عيون الآخرين
الآن ما هو مهم، والمرء يبدأ بفهمه بعد ذلك بكثير، هو إذا كنت هذا الفنان الافتراضي، إذا كنت في الحقيقة الحالم الذي يتحدث عنه الجميع، إذا كنت في الواقع مخطئًا في أنك لا تقر على الأشياء التي لا تستطيع لسبب غامض ما أن تقر عليها، إذا كان هذا كذلك، الشهادة في عيون الآخرين ما كانت لتوجد. الجريمة التي تكتشف ببطء أنك مذنب بارتكابها هي ليست كثيرًا أنك مدرك، وهذا سيئ بما فيه الكفاية، لكنّ الآخرين يرون أنك كذلك ولا يستطيعون تحمل مشاهدته؛ لأنه يشهد على حقيقة كونهم ليسوا كذلك. أنتم تشهدون عاجزين عن شيء يعرفه الجميع ولا أحد يريد مواجهته، فما بالكم بالشخص الافتراضي قليل التكيف الذي لم يتعلم كيف يسير أو يتكلم ولا يعرف ما يكفي عن التجربة ليعرف أي تجربة عاش.
حسنًا، ينجو المرء من ذلك، لا يهم كيف. شيئًا فشيئًا أعمامك ووالداك والكنيسة يتوقفون عن الصلاة لأجلك. يدركون أنها لن تفيد ولو قليلًا. يتخلون عنك، وأنت تتابع أبعد قليلًا ومحبّوك يحبطونك. حتى إنهم لا يعرفون ما تفعله أيضًا، ولا يمكنك أن تخبرهم لأنك لا تعرف. أنت تنجو من هذا وبطريقة رهيبة أفترض أن أحدًا لا يستطيع وصفها أبدًا، أنت مرغم، أنت محاصر، أنت مُسَاط لكي تتعامل مع ما يؤلمك مهما يكن. والمهم هنا هو إذا كان يؤلمك، فهذا ليس ما يهم. الجميع يتألم. المهم ما يحاصرك، ما يسوطك، ما يقودك، يعذبك، هو أن عليك أن تجد طريقًا لاستعمال هذا ليوصلك مع كل من هو على قيد الحياة. هذا كل ما عليك فعله به.
يجب أن تفهم أن ألمك تافه إلا بقدر ما يمكنك استعماله لتتصل مع ألم الآخرين، وبقدر ما يمكنك فعل ذلك بألمك، يمكنك أن تتحرر منه، وحينها على أمل أن يعمل بالطريقة المعاكسة أيضًا، بقدر ما يمكنني أن أخبركم ماذا يعني أن تعاني، ربما يمكنني مساعدتكم على تخفيف معاناتكم. حينها، -أوه، بعد خمسة عشر عامًا، بعد عدة آلاف من المشروبات، طلاقين أو ثلاثة، يعلم الله كم من صداقة انتهت ومنفى من نوع أو سواه- تحرز ثمة نوعًا من التقدم الذي يكون إفصاحك الأول عما أنت عليه: بمعنى إفصاحك الأول عما تشتبه فيما نكون جميعًا عليه.
أنت تدخل غرفة وشخص ما يقول: «ماذا تفعل؟»، وتقول: «أكتب». ويقولون: « نعم، لكن ماذا تفعل؟» وتتساءل، ماذا تفعل؟ ومن أجل ماذا؟ لماذا لا تحصل على عمل؟ وبطريقة ما لا تستطيع، وأخيرًا تتعلم هذا بأكثر الطرق فظاعة، لأنك تحاول.
أنت في مكان شخص ما على حافة حقل، والطقس بارد في الحقل، ويوجد منزل هناك، ويوجد نار في المنزل وطعام وكل ما تحتاج إليه، كل ما تريده، وتبذل كل أنواع المحاولات لتتمكن من دخول المنزل. وقد يسمحون لك بالدخول، سوف يسمحون لك بالدخول. هم لا يتصرفون بقسوة. يتعرفون إليك عندما تقترب من الباب، ولا يستطيعون السَّماح لك بالدخول. مع ذلك تدخل، لنقل لخمس دقائق ولا تستطيع البقاء. عندما كنت أصغر سنًّا بكثير، قال لي الناس، هذا جاد للغاية، وليس مجرد اعتراف، أنا لا أحاول أن أكون منغمسًا في ذاتي: «حسنًا، كنت تعمل، الآن توقف عن العمل. انس أمره! لماذا أنت جاد للغاية طوال الوقت؟ لا يمكنك أن تكتب طوال الوقت يا جيمي. استرخ». هل سبق أن قال لكم أحد أن تسترخوا؟
العالم يأتي ثانية
حسن جدًّا، تجتاز كل ذلك وتحرز تقدمك الأول، الناس سمعوا باسمك، وها هنا يأتي العالم ثانية. العالم الذي صادفته للمرة الأولى عندما كنت في الخامسة عشرة من عمرك. العالم الذي منع عنك مقومات الحياة، واحتقرك. ها هو يأتي ثانية. هذه المرة حاملًا الهدايا. الهاتف لم يرن سابقًا، إذا كنت تملك هاتفًا. الآن لن يتوقف عن الرنين. بدلًا من ناس يقولون: «ماذا تفعل؟»، يقولون: «ألن تفعل هذا؟» وتصبح، أو يمكن أن تصبح شخصًا على قدر كبير من الأهمية. وعندئذ -وهذا اعتراف- تجد نفسك في موقع امرأة لا أعرف من، تغني أغنية بعينها في جوقة ما، والأغنية تبدأ: «قلت إني ما كنت سأخبر أحدًا لكني لم أستطع الاحتفاظ به لنفسي». لقد أنهيت دورة كاملة. ها أنت ثانية مع كل شيء لتعيد ثانية فعله، وعليك أن تقرر من جديد فيما إذا كنت تريد أن تكون مشهورًا أو إذا كنت تريد أن تكتب. والأمران رغم كل الأدلة لا يجمعهما أي شيء على الإطلاق.
أنت مستعمل بطريقة كما يمكن للسلطعون أن يكون مفيدًا، كما يمكن للرمل من دون شك أن يحظى بثمة وظيفة. هذا ليس شخصيًّا. هذه القوة التي لم تطلبها، وهذا القدر الذي يجب أن تقبل به، هو أيضًا مسؤوليتك. وإذا نجوت منها، إن لم تغش، لم تكذب، إنه كما تعلم ليس مجدك فقط، إنجازك، إنه تقريبًا أملنا الوحيد؛ لأن الفنان فقط يمكن أن يعرف، وفقط الفنانون قالوا منذ أن سمعنا عن الإنسان كيف يمكن لأي شخص يصل إلى هذا الكوكب أن ينجو. ماذا يعني أن تموت، أو يموت شخصًا تعرفه، ماذا يعني أن تكون مسرورًا. التراتيل لا تفعل هذا، الكنائس حقًّا لا يمكنها فعله.
المشكلة هي أنه على الرغم من أن الفنان يمكنه فعل ذلك، الثمن الذي عليه دفعه بنفسه الذي عليكم أنتم أيها الجمهور سداده أيضًا هو استعداد للتخلي عن كل شيء، أن يدرك أنه رغم أنك تنفق سبعة وعشرين عامًا للحصول على هذا المنزل، هذا الأثاث، هذا المنصب، على الرغم من أنك تمضي أربعين عامًا وأنت تربي هذا الطفل، هؤلاء الأطفال، لا شيء، لا شيء من هذا ينتمي إليك. يمكنك فقط امتلاكه بالتخلي عنه. يمكنك فقط أن تأخذ إذا كنت مستعدًّا لتعطي، والعطاء ليس استثمارًا. إنه ليس نهارًا عند نضد المساومة. إنه مجازفة كلية بكل شيء، بك وبمن تظن أنك تكون، من تظن أنك تود أن تكون، أين تظن أنك تود الذهاب- كل شيء، وهذا إلى الأبد، إلى الأبد.
لو أمضي أسابيع وشهورًا متجنبًا آلَتَيِ الكاتبة- وأنا أفعل، أبري أقلام الرصاص محاولًا أن أتجنب الذهاب إلى حيث أعلم أن عليَّ الذهاب- ثم على المرء أن يستعمل هذا ليتعلم التواضع. في النهاية، هناك نوع من أنانية منجية أيضًا، أنانية فظة وخطيرة لكن أيضًا منجية، حول وضع الفنان الذي هو: أعرف أنني أنجو منه، عندما الدموع توقفت عن التدفق أو عندما جف الدم، عندما هدأت العاصفة، لديّ آلة كاتبة وهي عذابي لكنها أيضًا عملي.
مذعورون لدى أول إلماعة من الألم
وهنا حيث يبدأ السؤال كله في حالتي الخاصة الشخصية عن كوني فنانًا أميركيًّا، عن كوني لم أبلغ بعد الخامسة والستين من العمر، وعن كوني فنانًا زنجيًّا أميركيًّا في عام 1963م، في هذا البلد الأكثر تميزًا بين البلدان. المرء يتعامل طوال الوقت مع أكثر الناس عجزًا عن التعبير. عاجزون عن التعبير وأميون وهم مميزون جدًّا ويصعب وصفهم، أُمِّيُّون في اللغة، قد يبدو منمقًا بعض الشيء لكن ما من طريقة أخرى يمكنني التفكير فيها لقول هذا، أُمِّيُّون كُلِّيًّا في لغة القلب، مرتابون تمامًا في أي شيء لا يمكن أن يمس، مذعورون لدى أول إلماعة من الألم.
شعب مصمم على الإيمان بأنه يستطيع أن يجعل العذاب مهملًا. من لا يفهمون بعد واقعة فسيولوجية للغاية؛ أن الألم الذي يشير إلى وجع السن هو ألم ينقذ حياتك. هذا مروع للغاية. إنه يكاد يخيفني حتى الموت، وأنا لا أتكلم الآن عن العرق فحسب، وأنا بالتأكيد لا أتحدث فحسب عن الجنوبيين. أنا أتحدث حقًّا عن ثلثين من جمهوري وحلفائي الفنيين. الناس الذين يؤمنون بأن التمييز خاطئ. الناس الذين يسيرون على طابور العمال المضربين ومع ذلك تغاضوا عن شيء آخر ولا يزالون تحت سيطرة الوهم، أظن، الذي يقول: إن ما سهوا عنه يتعلق بالمسائل الاجتماعية، وفي حالتي الخاصة، يتعلق بالزنوج.
المشكلة هي أن المرء لا يزال في روضة الأطفال، روضة أطفال عاطفية، والزنجي في هذا البلد يعمل مثل نوع غريب من غوريلا التي فجأة تكسر كل الألواح. أنا سئم ليس فقط من أن يطلب مني الانتظار، لكن من قول الناس: «ماذا يجب عليَّ أن أفعل؟»، إنهم يقصدون «ماذا يجب عليَّ أن أفعل بشأن مسألة الزنوج، ماذا يجب عليَّ أن أفعل من أجلك؟» ليس هناك شيء يمكنك فعله من أجلي. لا يوجد شيء يمكنك فعله للزنوج. العمل يجب أن ينجز من أجلك. المرء لا يحاول أن ينقذ اثنين وعشرين مليون شخص. المرء يحاول أن ينقذ بلدًا بكامله، وهذا يعني حضارة كاملة، وثمن ذلك مرتفع للغاية. ثمن ذلك هو أن يفهم المرء نفسه. ذلك الثمن على سبيل المثال هو أن تعترف أن معظمنا، بيضًا وسودًا، وصلنا إلى مرحلة لا نعرف فيها ماذا نقول لأطفالنا. وصل معظمنا إلى مرحلة لا نزال نؤمن ونصرّ ونتصرف تبعًا لمبدأ لم يعد صالحًا، وأن هذا أحسن ما يكون، وأن خيارنا هو ارتكاب أخف الضررين، وهذا لم يعد صحيحًا. السيلان ليس أفضل من السفلس.
يبدو لي أن الوقت قد حان لنعترف أن الإطار الذي نعمل فيه يثقل بشدة على كاهلنا كي نثمر وهو على وشك أن يقتلنا. حان الوقت لنطرح بعنف شديد أسئلة ولنتخذ مواقف فظة للغاية. ولا يهم مهما كلف من ثمن. حان الوقت على سبيل المثال، مثال واحد، أن نعترف أن الجهد الأكبر لبلدنا حتى اليوم (وأنا أتحدث عن واشنطن ومنها حتى قادة اتحاد النساء للاعتدال المسيحي كائنًا من كانوا) ليس ليغير حالًا لكن ليبدو أنه فعل ذلك. إنه مثير على سبيل المثال أن تكون مرغمًا أخيرًا على أن تجلب ميليشيا كاملة، مارشالات الولايات المتحدة، أو أيًّا كانت، لتدخل جيمس ميريدث إلى مدرسة.
ومن وجهة نظر محددة لا أتفق معها على الإطلاق، يمكنني أن أرى أنه يمكن للمرء القول: إنه ما من بلد آخر كان له أن يفعل ذلك. لقد فات الجميع أن يلحظوا أنه ما من بلد آخر توجب عليه أن يفعل ذلك. من السهل أن تعجب باعتصام الطلاب في الجنوب، ولا شيء يبعث على السرور أكثر من التحدث مع مارتن لوثر كينغ، الذي أكنّ له الكثير من الإعجاب. لكن من السهل جدًّا أن تعجب بوزير مسيحي، ولا سيما إذا كنت لا تتولى مسؤولية ما يحدث له أو لهؤلاء الناس الذي يحاول أن يمثلهم. من الصعب أن تبدأ بفهم أن الانجراف في الحياة الأميركية نحو الفوضى مقنَّع بكل تلك الوجوه المبتسمة وكل تلك الجهود لفعل الخير.
من كتاب «صليب الخلاص». (1963م).