لويس سيبولبيدا: من تسجيل الأهداف إلى سرد الحكايات
في كتابه «كتابات في عصر الأزمات»- صدرت ترجمته إلى الفرنسية سنة 2014م- يعرض الكاتب التشيلي المعروف لويس سيبولبيدا، الذي رحل عن عالمنا في إبريل الماضي إثر إصابته بفيروس كورونا، رؤيته للكتابة والأدب وعلاقتهما بالمجتمع، ويروي بعضًا من ذكرياته ورحلاته وصداقاته. فيما يلي ترجمة لمقتطفات من الكتاب:
من كرة القدم إلى الأدب
«… بدأت صلتي بالأدب عندما توجهت، يوم أحد، وحذاء كرة القدم معلّق على كتفي، إلى ملعب لوساينز، حيث تقام مباريات بطولة الحيّ. كان فريقنا يلعب بخطة 4-2-4 التقليدية، وعادة ما كنت أرتدي الرقم 11، أو 10 حين يخرج مهاجمنا شيكو فالديس، لسبب أو لآخر. وكنت مكلّفًا بشكل حصري تقريبًا بتنفيذ ضربات الجزاء، وبدون تباهٍ، نادرًا ما كنت أضيّعها. كانت مهمّتي أيضًا القيام بتمريرات متقنة نحو ملعب الخصم.
ذلك الأحد، كنت أسير باكرًا في شارعنا، حيث كانت مباريات الناشئين تجري في العاشرة صباحًا، حين رأيت فجأةً شاحنة لنقل الأثاث تقف أمام أحد المنازل. كانت عائلة جديدة قد جاءت للعيش في حيّنا. عرضت خدماتي على اثنين من البالغين الذين كانوا ينقلون الأثاث من الشاحنة إلى المنزل، وبينما كنت أحمل طاولة صغيرة، رأيتها: كانت أجمل فتاة رأيتها خلال سنوات حياتي الثلاثة عشرة.
بدأت على الفور وبحماس كبير بإنزال الكراسي والمراتب وصُرر الملابس والصناديق. ويمكنني القول دون مبالغة: إننّي نقلت عمليًّا معظم ممتلكات العائلة من الشاحنة إلى المنزل. عندما حان وقت الذهاب إلى الملعب، استأذنت بالانصراف. فأصرّت الأمّ على أن تقدم لي شرابًا وطلبت من ابنتها -أجمل من رأيت في ثلاثة عشر عامًا من عمري- أن تحضر لي «أورانج كراش». فتناولتُ الزجاجة مضطربًا. قالت الأم:
– غلوريا، لماذا لا تدعين صديقك إلى عيد ميلادك الأحد المقبل؟
وللحقيقة، دعتني أجمل فتاة رأيتها خلال سنوات عمري الثلاثة عشرة بلا حماس كبير. وغادرت إلى الملعب وأنا أكرّر اسمها: غلوريا. كنت في الجنّة. في ذلك الصباح، كان أدائي في الملعب سيّئًا، بل سيّئًا جدًّا، حيث أخطأت في العديد من التمريرات، بينما كانت تخصّصي. في العادة، كان لاعب خط الوسط يرسل كرة عالية نحو الجناح الأيمن، فأستقبلها بالصدر دائمًا وأنطلق بمحاذاة خط التماس، في انتظار أن يغزو المهاجمون الآخرون ملعب الخصم، لأرسل التمريرة التي تنتهي غالبًا بهدف من تشيكو فالديس أو كابيزون أبابلازا. هذه المرّة ، كان المدرب يصرخ في وجهي: «فلتركّز! ما بك؟» وأنا، كنت في الجنّة.
كان الناشئون يلعبون شوطين، كلّ شوط من 15 دقيقة. فأمضيت الشوط الثاني على مقاعد الاحتياط. كان المدرب يقيس حرارتي، ويسألني إنْ كنت قد تناولت إفطاري هذا الصباح. وأنا، لا أزال في الجنة.
انتهت المباراة بهزيمة نادي Unidos Venceremos. (معًا ننتصر) وشتمني جميع رفاقي. حاول المدرب أن يعيد الهدوء قائلًا: إنّ نبل كرة القدم يكمن في معرفة كيف نتحمّل الهزائم. وأنا، كنت لا أزال في الجنّة.
قضيت أسبوعًا قاسيًا وأنا أتساءل عن الهدية التي سأقدّمها لغلوريا في عيد ميلادها: أسطوانة موسيقيّة؟ كنت أجهل ميولها الموسيقية. كتاب؟ أيّ كتاب؟ لوح من أفضل أصناف شوكولاتة كوستا. ماذا لو كانت لا تحبّها؟ قرّرت أخيرًا أن أتخلّى عن أغلى كنز لديّ، ودون شعور بالحزن لذلك. يوم الأحد التالي، بعد مباراة أخرى لعبت فيها مجدّدًا بشكل سيّئ، وانتهت لحسن الحظ بالتعادل، اغتسلتُ ومضيت إلى بيت غلوريا في الخامسة عصرًا، مع كنز لُفّ بعناية في غلاف هديّة رائع.
وجدتها محاطة بأطفال آخرين من الحيّ، مبتسمة، وأجمل مما كانت يوم الأحد السابق. شققت طريقي إليها بمرفقيّ، ومرتعشًا من الانفعال، طبعت قبلة على خدّها وتمنّيت لها هامسًا: عيد ميلاد سعيد، وأعطيتها هديّتي.
– شكرًا، قالت، ووضعتها على قطعة أثاث حيث الهدايا الأخرى.
– افتحيها، قلت بصوت حاول عبثًا أن يبدو واثقًا.
– أحبّ أن أفتح الهدايا حين أكون وحدي، أجابتني، مانحة كل انتباهها للأطفال الآخرين حولها.
– الآن! افتحيها الآن، أمرتها، موقنًا أنّها ما إنْ ترى هديّتي، حتّى تختفي فورًا تلك الحاشية من أسماك القرش.
اتسعت عيناها الجميلتان اللتان كانتا تتحوّلان من اللون البنيّ الفاتح إلى الأخضر الزمرديّ من المفاجأة. أخذت العبوة، وفكّت الشريط، وأزالت الغلاف، ولدهشتي، تناولت أغلى كنز عندي وكأنّه فأر ميت. ثمّ همسَت «شكرًا» من طرف شفتيها، ووضعته بجانب الهدايا الأخرى.
كنت قد سمعت أكثر من مرة والدي يشكو من صعوبة فهم النساء، فعلمت بعد ظهر ذلك اليوم أن العجوز كان محقًّا. شققت طريقي ثانية، بمرفقيّ، عبر أسماك القرش المحيطة بها، ووقفت أمامها. سألتها إن كانت تعرف ما هي هديّتي، فأجابتني: صورة. وقد شكرتك. ثمّ تحوّلت بنظرها إلى مجموعة أسماك القرش التي أخذت تتمتم: «اغرب عنّا، أيّها المزعج، امض لترى إن كانت تمطر في الخارج!» وعبارات أخرى صريحة العداء.
كان المدرّب يردّد أن نبل كرة القدم يتمثّل في معرفة المرء كيف يتحمّل الهزائم، لكنه كان يلحّ أيضًا على حقيقة أنّ النصر وليدُ المثابرة. لذلك، انتصبتُ مرّة أخرى أمام عينيها الجميلتين لأوضح لها ما هي هديّتي.
– لا، غلوريا. ليست صورة. إنها الصورة، صرختُ، عارضًا لها صورة منتخب تشيلي، موقّعة من جميع النجوم الذين حصلوا خلال بطولة العالم التي أقيمت في تشيلي عام 1962م، أي قبل أشهر، على المركز الثالث الذي سيشرّف كرة القدم التشيليّة إلى الأبد. كنت قد أمضيت ساعات وأيامًا وأسابيع وشهورًا في جمع كلّ تلك التواقيع التي برزت من بينها تواقيع الحارس مايكل إسكوتي، وأفضل الهدافين خورخي تورو، وليونيل سانشيز، وتيتو فوللو، وكلّ أولئك الخالدين.
– أنا لا أحبّ كرة القدم، أجابتني؛ جملةٌ جعلتني أكتشف سمّ الحبّ المستحيل.
– وهل يمكننا أن نعرف ماذا تحبين؟ صرختُ بيقين من فقد الجنّة.
– أحبّ الشعر، قالت قبل أن تختفي من حياتي.
غير أنّها لم تختفِ تمامًا؛ إذ واصلت التفكير فيها، والنظر إليها من بعيد وهي تمضي في طريقها إلى محطة الحافلات، مرتديةً زيّ مدرسة البنات الثانوية الرسميّ. وذات يوم، وقع بين يديّ ديوان بابلو نيرودا: «عشرون قصيدة حبّ وأغنية يائسة». عندما قرأت القصيدة العشرين تحديدًا، أحسست أنّ نيرودا كتبها وهو يفكّر بي وبجنّتي المفقودة. وتحوّلت إلى قارئ شعرٍ متعطّش، من غارسيا لوركا إلى أنطونيو ماشادو، ومن غابرييلا ميسترال إلى ليون فيليبي، ومن نيرودا إلى دي روخا. وبمرور الوقت، بدا لي حبّ الكلمات كحبٍّ وفيٍّ لن يخونني أبدًا. كانت غلوريا قد اختفت من ذاكرتي حين بدأت أكتب الشّعر أو ما ظننت أنّه يمكن اعتباره كذلك.
الحياة مجموعة من الشكوك واليقينات. وأنا لديّ شك كبير ويقين كبير: أمّا الشكّ، فهو أنّني أتساءل: إنْ كان الأدب قد ربح شيئًا من انخراطي في الكتابة، وأمّا اليقين، فقناعتي الأكيدة أنّ كرة القدم التشيليّة قد خسرت مهاجمًا عظيمًا؛ بسبب الأدب.
الجنوب، الكلمة التي تستحوذ عليّ
«حين أعيد التفكير، بانتباه، في جميع الكتب، والمقالات والدراسات والقصائد والمسرحيات التي كتبتها، أجد كلمة جنوب حاضرةً مثل تعويذة ترافق نصوصي. قبل بضع سنوات، خلال اجتماع ضم عددًا من الكتّاب، قدّم زميل إسكندنافيّ نفسه مشيرًا إلى أنّه ينحدر من برد القطب الشمالي، من الشفق القطبي، من الضباب الأشد كثافة، وعدّد سلسلة من خصائص موطنه الأصليّ الرائعة. وعندما جاء دوري لأتكلّم، قلت ببساطة: أنا من الجنوب.
إنّ كونك من الجنوب يطبع حياتك أحيانًا بضرب من القدريّة، وأحيانًا أخرى بحنين أشدّ كثافة من الضباب الإسكندنافي، ولكن أيضًا بسطوع أقوى من الشفق القطبي؛ لأنّه ضوء أهل الجنوب، جنوبي أنا؛ أرض بلا حدود عبثيّة، يبلغها المرء دونما شروط سوى حبّ الجنوب. وحين نبلغها، سرعان ما نكتشف أن هذه الأرض تلتصق بجلدنا وتنساب عبر شراييننا؛ لذلك، نحن الجنوب.
قبل بضع سنوات، اقترحت على الأكاديمية الملكية للّغة الإسبانية إدخال فعل جديد إلى لغتنا: «أن يكون المرء الجنوب»، ثمّ صرفت الفعل بصيغة المضارع ، أمام نوافذ الأكاديمية المشرعة على اتساعها.
قلت: أنا الجنوب، بادئًا بثقل الحقائق الأبدية. أنتِ الجنوب، واصلت مخاطبًا امرأة بملامح أهل الأنديز. وقلت: هو الجنوب، مشيرًا إلى رجل ذي بشرة داكنة. وقلت: نحن الجنوب، ملوّحًا بقُبلة للمهاجرين المارّين. أنتم الجنوب، هتفت لموسيقيّي الشوارع الذين يعزفون على الرصيف المقابل. هم الجنوب، أعلنت للأشخاص الذين مرّوا من دون أن ينتبهوا للإكوادورية التي تعتني بأطفالهم، وللبيروفي الذي يسهر على نظافة المتنزّه، والهندوراسي مرتديًا الزيّ العسكريّ لجيش أجنبيّ، والنادل التشيليّ في الحانة المجاورة، للأوروغوايانيّ، والأرجنتينيّ، والبوليفيّ، والكولومبيّ، والباراغوايانيّ، والبرازيليّ، والنيكاراغوي، أو الإفريقي التائه في سافانا الأسفلت، وقد وصلوا إلى الشمال، مدفوعين بأنقى الحقوق وأبسطها: الحقّ في الحياة.
باسمهم، ولأنّ أهل الجنوب هم الجنوب، تحضر هذه الكلمة بعناد في جميع كتبي.
حين كان كان غابو أكبر سنًّا وأكثر دمامة من غابو
ومن بين ذكرياته، يروي سيبولبيد واقعة طريفة حدثت لغابرييل غارسيا ماركيز، بمرافقته، في أحد مطاعم سانتياغو دو تشيلي سنة 1990م:
بعد أن تفحّص الرجل الجالس مع رفيقته غير بعيد من طاولتهما «غابو» مليًّا، اتّجه نحوهما، ومتجاهلًا سيبولبيدا توجه إلى غابو قائلًا: لا بدّ أنهم قالوا لك غير مرّة، إنّك نسخة من غابرييل غارسيا ماركيز. فالشّبه بينكما لا يصدَّق. فردّ غابو بكلّ هدوء: هذا صحيح. كثيرًا ما قيل لي ذلك. تدخل سيبولبيدا موضحًا أنّه جالسٌ مع شريكه الذي يشبه ماركيز للحديث في أمور التجارة، طالبًا من الرجل أن يعود إلى مائدته. فانصرف الرجل، لكنّه ما لبث أن عاد ليقترح على «غابو» المشاركة في برنامج تلفزيونيّ عنوانه: «البحث عن الشبيه»، مؤكّدًا ثقته في أنه سيربح الجائزة، فهو يشبه ماركيز كما لو كان توأمه. شكر سيبولبيدا الرجلَ واعدًا إيّاه بأنّ غابو سيعمل بنصيحته. عاد الرجل إلى مائدته. وقبل خروجه من المطعم جاء إليهما قائلًا: «صحيح أن الشّبه بينكما كبير جدًّا، ولكن بعد إمعان النظر، أرى أنّك أكبر سنًّا من ماركيز وأكثر دمامةً». ومنذ ذلك اليوم، ظلّ ماركيز يسأل سيبولبيدا كلّما التقاه: «أتذكر تلك المرّة، حين كنتُ أكبر سنًّا منّي وأكثر دمامة»؟!