بيتي إيبس تروي مكابدتها عناء اللقاء مع صاحب «الحارس في حقل الشوفان» سالنجر: إنني شخص يقدر الخصوصية. أمقت التطفل. أمقت الأسئلة، وهولدن كولفيلد ليس إلا لحظة من الزمن متجمِّدة
بيتي إيبس محررة في بيتون روج أدفوكيت. في ربيع عام 1980م كانت محررة تغطيات خاصة في قسم «Fun» الذي يصدر في كل من أدفوكيت وستيت تايمز، وهما جريدتان صباحية ومسائية على الترتيب. في ربيع ذلك العام قرَّرت أن تقضي إجازتها الصيفية في محاولة إجراء حوار مع جيه دي سالنجر، الروائي المعروف بنزوعه إلى الانطواء. ظهر حوارها في قسم مجلة أدفوكيت يوم الأحد 29 يونيو 1980م، وفي برنامج النشر المشترك لعدد من الصحف من بينها بوسطن غلوب. ما يلي يتناول أكثر تفصيلًا لتجربتها، وهو مستخلص من حوارات معها أجراها جي آيه بي .G.A.P.
قرَّرت ذات يوم من سنة 1976م أن الضجر قد بلغ منِّي حدَّ أنني لو ضربت كرة تنس أخرى فسوف يصيبني الجنون. فقلت لنفسي: انتظري لحظة، هناك جريدة أسبوعية صغيرة في البلدة -هي بيتون روج إنتربرايز- ماذا لو أنهم بحاجة إلى كاتبة عن التنس؟ كنت لاعبة تنس جيدة ـ يُراوِح ترتيبي في نادي ساوثوود تنس ببيتون روج الذي ألعب له ما بين الأولى والثالثة. وكنت ألعب هناك لأنَّ لديهم مسبحًا جيدًا وصالة ألعاب جيدة، فكنت ألعب بالأثقال، مؤدية مختلف التمارين، مستعملة بقية الأجهزة.
لكنَّني لم أكن كتبت قطُّ كلمة على سبيل الاحتراف. جرَّبت يدي سنة 1974م في رواية ـ على سبيل التنفيس لا أكثر ولا أقل، عن امرأة تعيش حياة موازية لحياتي. لكنَّني لم أتلقَّ تعليمًا في أمر كذلك، بل لم أكمل دراستي الثانوية. نشأتُ في ترينتن بولاية ميسيسيبي، وهي تقاطع طرق في مقاطعة سميث حيث كان أبي مزارعًا يعمل بيديه. كنَّا في غاية الفقر. تزوجت صغيرة جدًّا وأنجبت ثلاثة أطفال. تعلمت التنس من صديقة في فلوريدا. ولا أظن أن في ترينتن بولاية ميسيسيبي مضرب تنس أصلًا. ولكن هذا شأني مع أي شيء أجرِّبه، أدرسه بلا انقطاع. وذلك ما فعلته مع الكتابة.
فكتبت ستَّ مقالات عن التنس لبيتون روج إنتربرايز. لكنهم لم ينشروها. فأخذت المقالات أخيرًا إلى مورننج أدفوكيت، وهي الجريدة اليومية الكبرى في بيتون روج. فلم يكتفوا بنشر المقالات وحسب، بل إنهم سمحوا لي بعد وقت أن أكتب تقريبًا أي شيء يصلح كمادة صحافية معقولة. فلم أكتب مقالات فقط عن لاعبي التنس [السويدي] بيورن بورج، و[الأميركية] بيلي جين كينغ، و[الأميركي] رود ليفر، وسرّ الأسعار العالية لتنانير التنس، بل ذهبت إلى معسكر «نيو أورلينز سينتس» لكرة القدم وأجريت حوارات مع [المدرب] هانك سترام، وقمت بكثير من الأعمال الجيدة المماثلة.
من المهم جدًّا بالنسبة لي أن أشعر بإثارة كبيرة تجاه ما أفعله مهما يكن. فلا بدَّ أن أشعر أنني في مواجهة تحدّ. وإلا يصيبني ضجر قاتل وأبدأ في التساؤل عما لو أن بوسعي الانتقال مما أفعله إلى شيء جديد. في الصيف الماضي بدأت أتساءل عن المهام التي قد أكلف بها نفسي وتكون منطوية على تحديات وإثارة فائقة. فكرت، وفكرت كثيرًا. ثم قلت للاري فيشر، صاحب متجر الكتب الذي كنت أستعرض كتبه: إنني أفكر، راجية الوصول إلى شيء مثير حقًّا. فوعدني أن يفكر معي أيضًا.
بعد يوم أو نحو ذلك، تصادف أنني كنت أتصفح موسوعة للكتَّاب. فتحتها على وليم فوكنر، وهو بالنسبة لي معبود حقيقي، معبودي الشخصي، ووجدت عنه صفحات وصفحات. ولأنني، بالمصادفة، كنت أعيد آنذاك قراءة «الحارس في حقل الشوفان»، فقد فكرت، لِمَ لا أبحث عن «جيه دي سالنجر»، وفعلت ذلك. فلم أجد غير فقرة هزيلة. ذهبت إلى لاري فيشر وقلت: اللعنة يا لاري، لا يوجد أيُّ شيء مطلقًا عن سالنجر. قال: إن سبب ذلك هو أن أحدًا لا يعرف أي شيء عنه. وقال: لحظة، هل هذا هو حوارك؟ قلت: فكرة جيدة. أظن أنني سوف أفعل ذلك. ضحك لاري وقال، وأظن أنك قد تفكرين أيضًا في الذهاب للمشي على القمر!
لكنني كلما كنت أفكر في الأمر، كنت أزداد افتتانًا بالفكرة. قلت: اللعنة، سأمضي وراءها. في واقع الأمر كان لدي ملف صغير عن جيه دي سالنجر. أنا امرأة عملية للغاية وأعدّ ملفات لما أعتقد أني قد أحتاجه لاحقًا. كان جيه دي سالنجر و[رجل الأعمال] هوارد هيوز هما الأكثر إثارة للاهتمام بين من لا أعرف عنهم شيئًا. طائران غريبان. فكان عندي ملفان عنهما. في ملف سالنجر قصاصة قصيرة من نيوزويك فيما أعتقد أوردتْ أنه يتسوَّق في مجمّع يدعى كومنز كورنر في بلدة وندسور بفيرمونت غير بعيد من بيته في كورنيش بنيوهمشر. قلت لنفسي: هنالك سوف أحاول العثور عليه.
هكذا أعطيت المحرِّر جيف كوارت في «بيتون روج أدفوكيت» موضوعين مسبقين. ولم أطلعه على ما اعتزمته. كنت أعرف ما كان يمكن أن يقوله: اسمعي يا إيبس، الناس تحاول إجراء حوار مع سالنجر منذ سبعة وعشرين عامًا، فانسي، واذهبي فحاولي إنهاء عملك المقبل قبل أن يحين موعد تقديمه. والحقيقة أنني لم أكن أريد سماع ذلك. فاشتريت تذكرة طيران إلى مانشستر بنيوهامشر.
والآن، كما قلت، أنا امرأة عملية جدًّا. تحققت من كل شيء، وتبينت أن الرحلة كلها سوف تتكلف ألف دولار. وقلت لنفسي: يا يسوع، هذا مبلغ كبير على التبديد يا إيبس. فنقَّبت في رأسي عن شخص آخر في تلك المنطقة يمكن أن أجري حوارًا معه لتغطية جزء من النفقات. والشخص الوحيد الذي اهتديت إليه كان وليم لويب ناشر مانشستر ليدر. لم يكن أحبَّ خلق الله إليَّ؛ إذ كان تقريبًا أعلى المحافظين صوتًا على الإطلاق، يصدر شتَّى أنواع الضجيج الجنوني، رجل جامح، لكنني من جهة أخرى لم أكن أريد أن أضيع ألف الدولار. فاتصلت بسكرتيرته لترتيب حوار. وقالت: لا بأس. فقفزت إلى الطائرة متجهة إلى مانشستر. قضيت الليلة الأولى في مانشستر أسأل الناس عن آرائهم في وليم لويب، بهدف تكوين خلفية. حاورت سبعة وخمسين شخصًا. ولم أجد بينهم إلا عشرة لا يحبونه.
بدا لي مضطربًا في إجاباته عن أسئلتي. أمّا مواقفه فلم يحط بها لبس. وما كدت أشير إلى نهجه المحافظ حتى قاطعني ليفهمني أنه لا يرى نفسه محافظًا وإنما هو أميركي خالص أحمر الدم. وقال: إنني لو كنت أبالي ببلدي فإن عليّ الرجوع إلى لويزيانا والمشاركة بقوة في دعم حملة رونالد ريغان للانتخابات الرئاسية. كان مكتبه مليئًا بالأعلام الأميركية، منها علم كبير قائم في الركن. كنتم لتحسبونه عضوًا في مجلس النواب. وعلى طاولته عدد من الأعلام الصغيرة. وعلى طية سترته دبوس بعلم منها. ولا شكّ في أنه كان في غاية الكرم بوقته. دعاني إلى مأدبة قدّم فيها جائزة لأشجع رجل في نيوهامشر كان قد قفز في النهر لينقذ طفلًا. أعطاه السيد لويب دبوسًا. بعد ذلك سمح لي بحضور لقاء مفتوح بوسع أي أحد الحضور إليه وتوجيه أشد الانتقادات إليه في سياساته. وبالطبع كان خيار التهرب من الأسئلة متاحًا له لكنني لم أره يفعل ذلك. بل كان يسمح لهم بانتقاده أشدّ الانتقاد، فيسأله سائل بنبرة يملؤها التهكم والتوبيخ: ما هذه الجريدة التي تديرها؟
بعدما انتهيت من لويب استأجرت سيارة بينتو سماوية، واتجهت إلى غرين ماونتينز؛ لأبحث عن جيه دي سالنجر. لم يكن قد سبق لي أن سُقْتُ وسط الجبال، فوجدت نفسي هناك، وسط تلك التلال الغريبة، في سيارة بينتو سماوية لا تكاد تقوى على التقدّم وسط القمم. في طريقي إلى وندسور، توقفت في كليرمونت بنيوهامشر لأزور مكتب كليرمونت إيغل. وكانت في ملف سالنجر عندي قصاصة صحفية عن تلميذة من وندسور اسمها شيرلي بلاني، استطاعت أن تجري حوارًا مع سالنجر للعدد الطلابي من كليرمونت إيغل سنة 1953م. شاهدَتْه يتناول الطعام في مطعم، فتقدَّمت إليه، ووجهتْ إليه طلبها ببساطة. فوافق وأعطاها الحوار الوحيد الذي وافق عليه، أو هو الوحيد في حدود ما كنت أعرف على الأقل. أحاطت بذلك الحوار جلبة كبيرة، أعني أن تلك التلميذة وجدتْ نفسها فجأة تتواصل مع أناس من شتّى أرجاء البلد، وهو الأمر الذي جدّد في نفس سالنجر عزمه على ألّا يُدلي بحوار مرة أخرى.
رجل فريد لا يريد من أحد أن يكلمه
فكّرت أنني ينبغي أن أقرأ حوار بلاني لتحضير نفسي على الأقل. كان في إيغل زميل يدعى من بين كل أسماء الدنيا جيفرسن توماس (قال: إنه واجه في الجيش مواقف عصيبة حين كان عليه أن يقدِّم نفسه باسم عائلته أولًا) هو الذي ساعدني في العثور عليه وسط الملفات القديمة. أبدى الرجل تعاونًا. وتبيّن أنني وهو نشترك في تاريخ الميلاد. استغرقنا ساعتين ونصف الساعة إلى أن عثرنا على الموضوع الذي استمعت إليه من خلال جهاز مسجلي الشخصي.
مررت كذلك بمتجر كتب كليرمونت. وهو متجر كتب صغير ولكن لكونه الوحيد هناك، فقد كان سالنجر يأتي إليه من كورنيش أحيانًا. تكلمت عنه مع صاحبة المتجر. قالت: إنه رجل فريد حقًّا، يختلف عن أي زبون يمكن أن يراه أحد. يأتي ولا يريد من أحد أن يكلمه. وإذا سئل إن كان بحاجة إلى مساعدة، يكتفي بهز رأسه ويمضي مبتعدًا… حكت أن ابنتها كانت معها في المتجر ذات مرة حينما جاء، فابتهجت أشد البهجة، وجاءت بنسخة من كتاب له طالبة توقيعه. فاستدار على عقبيه ومضى عنها. شخص عجيب.
أقمت في وندسور بفيرمونت، في فندق صغير اسمه فندق وندسور. وسالنجر بالطبع يعيش في كورنيش، قبالة نهر كونيتيكت في نيوهامشر، وهي من أصغر القرى. ووندسور هي أقرب مكان من بيته. بدا الفندق هناك أشبه بالفنادق الصغيرة القديمة، شديد البدائية، ما من هواتف في غرفه، لكنه قائم في منطقة ريفية جميلة وسط كل تلك التلال. وندسور نفسها تقع على بعد قرابة سبعة أميال. قضيت بعض الوقت من ليلتي في الغرفة أستمع إلى حوار بلاني وأحضِّر أسئلتي، جاعلة كل سؤال منها على رأس صفحة من دفتري ذي السلك الملولب. كان سالنجر قد قال في الحوار: إن هولدن كولفيلد شخصية سيرية، وإنه وجد راحة عظيمة في أن يحكي للناس عن نفسه في مطلع حياته. فكرت أن أسأله عن ذلك، وعما إذا كان يخطّط لجزء ثانٍ من «الحارس في حقل الشوفان». كان قد تحدث مع بلاني عن رغبته في السفر إلى إندونيسيا. فكرت هل فعلها وذهب إلى هناك، وما الذي يتذكره عن عمله في فرقة الترفيه على سفينة في جزر الهند الغربية. فكرت أني قد أسأله عن الحلم الأميركي. وما انتهيت في تلك الليلة إلا وفي دفتري ما يزيد على عشرين سؤالًا.
أتى الصباح التالي باردًا. ففي الليل هبّت مقدمات عاصفة قطبية، فتكوّن ثلج على المسبح المجاور للفندق. كنا في وسط يونيو وأنا أرتدي الثياب المعتادة في صيف بيتون روج. وكنت من حسن الحظ قد وضعت في حقيبتي سترة طويلة الكمين. ولولا تلك السترة لكنت تجمدت هناك حتى تساقطت أعضائي. سقت إلى وندسور. هي بلدة ريفية صغيرة للغاية ـ كل شيء يتركز في شارع مين ويقطعه شارع الجسر المفضي إلى الجسر المسقوف على نهر كونيتيكت. كان أول ما فعلته أنني ذهبت إلى الصيدلية. وقلت للرجل الجالس وراء النَّضَد: إنني مهتمة بمحاورة جيه دي سالنجر. قال لي: أنت صحافية. امشي. لن يقول لك كلمة. فقلت في نفسي: يا إلهي، هذه أول مرة أذكر فيها اسمه فكأنّ بابًا انصفق في وجهي. لم أكن لأحتمل المزيد من مثل ذلك. فرجعت إلى الشارع.
تبين أن كومنز كورنر الذي قرأت عنه في قصاصة ملفي عن سالنجر لا يعدو حفنة متاجر في بناية خشبية قديمة مبسوطة؛ متجر بقالة، متجر شراب، حلاق، بائع آيس كريم، ولو أنه من نافلة القول: إن أحدًا لم يكن ملهوفًا على شراء آيس كريم في ذلك الصباح. ذهبت إلى متجر البقالة في كومنز كورنر، وقلت للجالس وراء النَّضَد: إنني قرأت أن جيه دي سالنجر غالبًا ما يتردد على المكان. بدت عليه الحيرة، وقال: لا، لا يظن ذلك. لكنه كان مهذبًا. لم يكن كالرجل في الصيدلية. الحق أن هذا الرجل لم يكن يعرف فعلًا من يكون جيه دي سالنجر. طلبت منه أن يفكر، أن يفكر بشدة.
ففعل ذلك، ثم قال بعد وهلة: يعني الاسم ليس غريبًا. عندي ذلك الزبون الغريب فعلًا الذي يأتي مرة في الأسبوع ليتسوق. وفي واقع الأمر، عندنا لهذا الرجل رقم هاتف غير مدرج في الدليل، وهذا أمر غير طبيعي بعض الشيء في هذه الأنحاء. قال: إن الرقم مسجل لديه لأن الرجل زبون للمتجر. واستلّ الرقم، ومما زاد الأمر تأكيدًا اسم جيه دي سالنجر على البطاقة. قلت: «آها». ولم أطلب منه الرقم، فقد كنت على يقين أنه لن يعطيني إياه، لكنني طلبت منه أن يتصل لي به. اتصل بالرقم، ثم أعطاني السماعة. كانت مديرة منزل جيه دي سالنجر. عرَّفتها بنفسي وقلت: إنني أود مقابلة السيد سالنجر. توترت للغاية وقالت: إنها يجب ألّا تتكلم معي. وقالت: إن السيد سالنجر لا يرغب في محادثة أحد، ولا يرغب في مقابلة أحد، ولا يريد أي مضايقات. وقالت: إنها لو ساعدتني سوف تتعرض لمشكلة كبيرة. حاولت أن أطمئنها. قلت لها: لست مضطرة يا جميلة أن تساعديني، فقط أخبريني كيف يمكنني أن أرى السيد سالنجر. هذه المرَّة بدت في منتهى التوتر فلم تكد تقوى على الكلام. قالت: إن عليّ أن أكتب إليه رسالة وأبعثها. زُمْت. قلت: إن أسبوعًا قد يمر قبل أن يرى الرسالة. قالت: إنني لو أعطيت الرسالة للفتاة في مكتب البريد فإن السيد سالنجر سوف يتلقاها. لا بد أنها شعرت بارتياح كبير حينما شكرتها وأغلقت الخط. حسن، اشتريت بعد ذلك لنفسي دفتر ميد بسلك ملولب ذا غلاف أزرق لأكتب فيه رسالة إلى جيه دي سالنجر. فلم يبد لي لائقًا أن أرسل إليه على ورقة من دفتري الصحفي وكان قطعه صغيرًا بحيث قد أحتاج منه إلى ما بين خمس صفحات وعشر لمجرد أن أقول له: إنني أريد أن أقابله. اشتريت أيضًا قلم بيك جافًّا بتسعة عشر سنتًا.
رسالة إلى سالنجر
خرجت بالدفتر إلى الشارع ولمّا لم تكن في وندسور أرائك فقد جلست على حافة الرصيف لكتابة الرسالة. وقلت لنفسي: يا إلهي، ماذا ستقولين لجيه دي سالنجر؟ مساء الخير! أعني أنه يتلقى أطنانًا وأطنانًا من الطلبات، ما الذي يمكن أن يجعله يرد من بينها جميعًا على رسالتي؟
بدأت بأن عرفته بنفسي، بأنني أكسب عيشي من الكتابة. لم أشر إلى «الحارس في حقل الشوفان» أو أي من أعماله. صحيح أنني كنت أقرأ «الحارس في حقل الشوفان» مرتين في السنة، لكن سالنجر لم يكن من كتَّابي المفضلين، فلم أكن أجد نفسي في شخصياته. كان ما يفتنني وأنا بعد فتاة في ساوث كاونتي بالميسيسيبي، حيث الذكور والإناث شديدو الانعزال بعضهم عن بعض، وكان لي أخوان أكبر مني، أن قراءة «الحارس في حقل الشوفان» أشبه بفتح باب سري على عالمهما الذكوري الخاص. تعلمت منها بحق، وتعرفت يقينًا إلى مهارات الرجل الأدبية. بالطبع لم أقل شيئًا من ذلك في الرسالة. قلت: إنني لست فتاة جاءت لتغتصب أيًّا من خصوصيته، ولكنني امرأة تعول نفسها بالكتابة وتود بشدة أن تقابله. كنت أريد أن أعرف إذا كان لم يزل يكتب. قلت له: إنني روائية. وقلت له: إن الكتابة
شديدة الصعوبة.
ثم أوضحت له أنني أقيم في فندق وندسور الذي تخلو غرفه من الهواتف. ولأنه لا يستطيع الوصول إليّ فقد أخبرته أنني سأعاود المجيء إلى كومنز كورنر في التاسعة والنصف من صباح اليوم التالي وأنتظر لثلاثين دقيقة. فإذا لم يحضر، سأعاود المجيء في التاسعة والنصف من صباح اليوم بعد التالي لأنتظر ثلاثين دقيقة … وقلت: إنه لو لم يحضر فإنني سوف أرجع إلى بيتون روج؛ لأنني لا أملك نفقات الإقامة في وندسور لوقت أطول من ذلك.
قلت له: إنني سأكون جالسة في سيارة بينتو سماوية عند المنعطف تمامًا في الطريق القادم من الجسر المسقوف، وإنني طويلة، خضراء العينين، ذات شعر ذهبي أحمر. أنهيت الرسالة بقولي: «إنني لن أبذل جهودًا أخرى للوصول إليك، لا خوفًا من كلاب الحراسة والأَسْوِجة، بل لأنني لا أريد أن أغضبك أو أتسبب لك في حزن». ثم أضفت ملحوظة قلت فيها: إنني «أرى بوضوح لماذا تعيش في هذه المنطقة. جمالها أخَّاذ. كثيرًا ما أجد نفسي أهمس بذلك».
أخذت الرسالة إلى مكتب البريد، وقلت: إن معي رسالةً إلى جيه دي سالنجر. تلقيت نظرة غريبة وأنا أسلِّم الرسالة. بدا الناس في وندسور مُصرِّين على حمايته. حماهم الله. بعدما فعلت ذلك ذهبت واشتريت المزيد من البطاريات لمسجلي. كنت قد أصبحت بالغة الحذر. والجو في النهاية كان شديد البرودة، فلعلَّه أثَّر سلبًا في البطاريات التي اصطحبتها معي فصارت لا تعمل. ورأيت من الأفضل ألا أترك شيئًا للمصادفة. ثم اشتريت ثماني زجاجات من شرابي المفضل «تاب» [وهو شراب من المياه الغازية المراعية للحمية]. أشرب التاب مثلما يشرب الناس الخمور: أبلعه بلعًا. رجعت بالتاب إلى فندق وندسور وهنالك انهرت. كان الأمر مثيرًا. كنت، حتى تلك المرحلة، في غاية الثقة في نفسي.
تذكرت كم كان سالنجر لطيفًا مع النساء حينما كتب قصصه وكتبه. في بعض الأحيان كان شديد الفظاظة مع الرجال، لكنه كان رقيقًا مع الإناث. هولدن في غاية الحنو على أخته في «الحارس في حقل الشوفان». سيكون الأمر كالسكين في الزبد. لكنني عدت، في غرفتي بالفندق، ففكرت في جميع الأسباب التي قد تحمل جيه دي سالنجر على عدم الحضور. وأصابني ذعر حقيقي. كم أكره الفشل. حاولت أن أفكر فيما أشجِّع به نفسي ـ قلت لنفسي: إن «إدموند هيلاري» تسلَّق قمة إفرست في السنة التي صدرت فيها «الحارس في حقل الشوفان». فلم يفلح ذلك. استأتُ كثيرًا، وبدأت أشتم وأذرع الغرفة في قلق محاولةً أن أهدئ نفسي بشرب التاب وأخيرًا قلت لنفسي: تمام، وخرجت فتسولت بعض الفاكهة الطازجة، فأنا آكل الفاكهة بقدر ما أشرب التاب.
في منتصف الليل استيقظت وأنا أعرف أن جيه دي سالنجر سيحضر. عرفت ذلك وحسب. وبلغت مني الإثارة أن أخذت أقول لنفسي: الآن اهدئي يا بيتي إيبس. أمرُّ أحيانًا بهذه الحالات. دائمًا ما أعرف أن الأمور المهمة ستحدث قبل حدوثها. دائمًا ما أعرف مسبقًا أن أناسًا سوف يموتون. تأتيني مثلما تأتي التجليات. استيقظت في الرابعة وفتحت التليفزيون. اندلع الجحيم في البيئة. اندلع بركان جبل سانت هيلين. الوعاظ في التليفزيون ينتحبون على الجحيم واللعنة والدمار. أتذكر أنني قلتُ لنفسي: إن كارثة طبيعية كتلك هي وحدها القادرة على أن تمنعني من محاورة جيه دي سالنجر. كنت واثقة تمامًا. تركت عند الإفطار إكرامية تبلغ خمسة دولارات. كنت أعرف أنه سوف يظهر.
يمشي كالمطارَد
سقت إلى كومنز كورنر في سيارتي البينتو. اشتريت شراب التاب من هناك. ثم استقررت بالسيارة على بعد خمسين ياردة من الجسر المسقوف العابر بنهر كونيتيكت. كنت أعرف أن سالنجر لا بد أن يعبر الجسر ليأتي إلى وندسر. كان من المصادفات العظيمة أن الجسر يجري إصلاحه. فكان لزامًا على الناس أن يتركوا سياراتهم في موقف السيارات في ضفة نيوهامشر، ثم يعبروا الجسر سيرًا. عرفت أن سالنجر سوف يظهر سائرًا. فتحققت من الكاميرا واستعددت للقطة اقترابه. وجَّهتها إلى الجسر المسقوف. أخرجت المسجل وجهزته. كنت أعرف أن سالنجر سوف يرتاع من مرأى المسجل، ولكن أيضًا سيكون من الجنون أن أتكلم معه وأنا أدوِّن في وجهه. فقلت: اللعنة، سأدسُّ المسجل أسفل قميصي وأخفيه بسترتي الطويلة الكمين. وكان عمل ذلك صعبًا من دون أن أبدو مشوهة بطريقة ما. قلت لنفسي: يا إلهي، لا أريد أن يتصور جيه دي سالنجر أن لي نهدًا مكعبًا. هكذا أزحت المسجل أخيرًا إلى كم قميصي، فجعلته عند إبطي بحيث أستطيع أن أثبته على جسمي بذراعي. وفكرت لو أنني أبقيت مرفقي مثنيًّا فقط، فكل شيء سيمضي في هدوء.
بدا كما لو كنت انتظرت داخل البينتو لثلاث سنين. وكنت قد بدأت أقرأ للتو مقالة في عدد صباح ذلك اليوم من بوسطن غلوب عنوانها «ما الحظ؟» عندما حدث في الموعد بالضبط -أي في تمام التاسعة والنصف- أن خطا من سواد ذلك الجسر المسقوف … جيه. دي. سالنجر.
لم يبد شكله كما قدَّرت أن يكون. كان له شعر أبيض. وذلك أفزعني. خرج من قلب الظلام، فأضاءت الشمس شعره كأنها نار على منارة. كنت قد رأيته في جميع صوره التي اطلعت عليها بشعر أسود. لم أكن أبحث عن هولدن كولفيلد لكنني على الأرجح كنت أفكر في هولدن كولفيلد. ليس ذلك وحسب، ولكنني اندهشت من حدَّة الرجل. كان يمشي كالمدفوع أو المطارَد، بكتفين مرفوعين على جنبي الأذنين … كان جريًا تقريبًا. لم ينظر يمينًا أو يسارًا، لم تَحِدْ عيناه عن وجهتي. لم أكد أراه حتى تحسست ما تحت قميصي وفتحت المسجل، ثم فتحت الباب وغادرت سيارتي البينتو. ظلّ يتقدَّم باتجاهي. كان يتأبَّط حقيبة جلدية. سار متقدّمًا إليّ، وقال «بيتي إيبس؟» كمن يقول بالطبع: إنه رأى رسالتي أو سمع بخبرها. أخطأ في نطق اسمي. قال: «إيبيس». تصافحنا واقفين بجوار البينتو. كان يرتدي بنطالًا من الجينز، وحذاءً رياضيًّا، وقميصًا من تلك القمصان الشبيهة بالسترات. بدا في قوام رائع ـ شديد النحول، في صحة جيدة. بعدما صافحني، تراجع بضع خطوات. هو رجل طويل للغاية فكان يطلّ عليّ بعينيه شديدتي السواد باديتي البريق. قلت لنفسي: اللعنة، لقد صافحت للتو يد جيه دي سالنجر، ثم أدركت أن مسجل سوني يوشك أن يسقط. كنت قد بدأت أشعر به يوشك على الانزلاق من جنبي. وكان ذلك رهيبًا. ضممت ذراعي إلى بطني لأمنعه من الوقوع أكثر من ذلك. وإذ ذاك أدركت أن لدي تسعًا وعشرين دقيقة فقط قبل أن ينتهي الشريط ويصدر المسجل صفيرًا. وفكرت أن ذلك الصفير لو صدر وأنا واقفة قبالة جيه دي سالنجر وسمعه صادرًا من وراء سترتي، فسوف يغشى عليّ. كان أمرًا رهيبًا. لا يمكن أن تتصوروا كم كان رهيبًا.
بدا عليه التوتر بقدر ما بدا عليّ. يداه كانتا ترتعشان. هنالك كان جيه دي سالنجر وقلت لنفسي: اللعنة، لن يقف الرجل ساكنًا. أقصد أنه كان واضحًا تمامًا أنه لا يحب وجوده هناك… وأنه سوف ينطلق في أي لحظة. قلت لنفسي: يا رب يا كريم، هيا يا إيبس، إذا لم يكن لك أن تنالي منه إلا إجابة سؤال واحد فخير لك أن يكون عن هولدن كولفيلد، فهو الذي يريد الجميع أن يعرفوا المزيد عنه.
في البداية، شكرت السيد سالنجر على مجيئه. قال: أنا في الواقع لا أعرف لماذا جئت. ليس هناك ما يمكن أن أقوله لك. الكتابة مسألة شخصية جدًّا. فما الذي جاء بك إلى هنا؟ قال: إن رسالتي كانت وجيزة جدًّا. كنت في غاية التوتر. قلت: إنني لم أجئ من أجل نفسي فقط يا سيد سالنجر، بل كناطقة باسم كل من يريدون أن يعرفوا لو أنك لم تزل تكتب. إذ ذاك لا بدّ أن يكون قد عرف أنني صحافية. ففي نهاية المطاف كنت أقرأ أسئلتي من صفحة في دفتري، كما كنت أدوّن ملاحظات.
سألت عن كولفيلد. أرجوك أخبرني، هل سيكبر؟ هل سيكون للحارس في حقل الشوفان جزء ثانٍ؟ جميع قرائك يريدون أن يعرفوا إجابة هذا السؤال. كانت البلدة كلها فاغرة أفواهها. أعني الجميع. الشيخ في مكتب كومنز كورنر ألصق أنفه بزجاج الشبّاك. والواقفون في المغسلة خرجوا ووقفوا على الرصيف. ومن شبابيك الشقق في الجهة المقابلة من الشارع أطلّتْ وجوهٌ. ظللت ألحُّ على هولدن كولفيلد. قال: إن كل شيء موجود في الرواية. اقرئي الرواية مرة أخرى، كل شيء فيها. هولدن كولفيلد ليس إلا لحظة من الزمن متجمِّدة. فسألته: حسنًا، هل يعني ذلك أنه لن يكبر، لن يكون للرواية تكملة؟ قال: اقرئي الكتاب.
كل سؤال طرحته عن هولدن كلوفيلد رد عليه بقوله: اقرئي الكتاب. كل شيء في الكتاب. لا مزيد حول هولدن كولفيلد. مرارًا وتكرارًا. إلا في المرة التي سألته فيها، إنْ كانت الرواية سيرية. حينما استشهدت له بما قاله في حواره مع تلميذة وندسور عن صباه الذي كان شبيهًا بصبا هولدن، بدا عليه انزعاج شديد من ذلك. قال: من أين حصلت على كل تلك المادة؟ وحَدَجَني بنظرة قاسية. تصوَّرتُ أنه سوف يقول: اقرئي الكتاب مرة أخرى، ولو كان قالها لكنتُ وطِئتُ قدمَه. لكنه في هذه المرة قال: لا أعرف… لا أعرف. لقد نسيت كل ذلك. لا أعرف الآن المزيد عن هولدن. فانصرفت عن هولدن كولفيلد، وبدأت أسأله عن أشياء أخرى. يا يسوع، لقد أردت فقط أن أطرح عليه سؤالًا فيجيبه. بدأت أقلب صفحات دفتري.
إيبس: هل زرت إندونيسيا؟
سالنجر: لا أريد فعلًا أن أتكلم عن شيء من هذا.
إيبس: قلتَ للآنسة بلاني: إنك ستذهب إلى لندن من أجل فِلْم. هل فعلتَ؟
سالنجر: من أين جئتِ بكل هذا الكلام القديم؟
إيبس: هل عملت على فِلْم أو شاركتَ فيه؟ هل ستفعل شيئًا من ذلك في المستقبل؟
سالنجر: هل يمكن أن ننتقل إلى شيء آخر؟
إيبس: طبعًا. لكن على سبيل المزاح، هل تتذكر اسم السفينة التي عملت عليها في فرقة الترفيه؟
سالنجر: نعم، ذي كونجسبلوم [The Kungsbolm].
إيبس: كنتَ في قوات مكافحة التجسس. كم لغة تتكلمها أو كنتَ تتكلمها؟
سالنجر: الفرنسية والألمانية، لكن ليس لدرجة الإجادة. وبضع عبارات بالبولندية.
إيبس: في ضوء خلفيتك العائلية، لماذا الكتابة؟
سالنجر: لا أستطيع أن أجيب بدقة. ولا أعرف إن كان بوسع كاتب أن يجيب. الأمر مختلف في حالة كل شخص. الكتابة فعل شديد الشخصية. يختلف في حالة كل كاتب.
إيبس: هل اخترت الكتابة اختيارًا واعيًا، أم انجرفت إليها؟
سالنجر: لا أعرف. (صمت طويل) لا أعرف فعلًا. لا أعرف وحسب.
الرد على الأسئلة يؤلمه للغاية
شعرت برغبة شديدة في تاب. كان الرد على الأسئلة يؤلمه للغاية. لكنه بقي واقفًا. سارعت بأسئلتي. قلت: إنني سمعت أنه يمارس الكتابة في ورشة خرسانية مخصوصة خلف بيته. سألته إن كان يكتب هناك فعلًا. قال: أرتب المنطقة التي أعمل فيها بالطريقة التي تعجبني، لتكون مريحة. لكنني لا أريد أن أستفيض في هذا. لا أريد أن يتوافد الناس عليها محاولين أن يتسلقوا السور ويختلسوا النظر من الشبابيك. قال، أكون مرتاحًا، وهذا يكفي. أكون مرتاحًا، هكذا قال، وهذا يكفي.
سألته إن لم يكن النشر مهمًّا. قال: إن هذا سؤال سهل لا يستغرق وقتًا على الإطلاق لكي يجاب. قال: إنه لا ينوي النشر. الكتابة هي المهمة بالنسبة له، وأن يُترَك وشأنه فيستطيع الكتابة. أن يُترَك في سلام. لم يستطع أن يخبرني بالسبب الذي يجعله يريد أن يُترَك في سلام، ذلك ما شعر به وهو في الابتدائي، وهو في الكلية، وقبل دخوله الجيش وبعد خروجه منه. وما يشعر به الآن، أيضًا. يا ربي، كم ظل يلحّ على ذلك. سألته، لماذا إذن نشر أصلًا أي شيء إن كان يشعر بهذه القوة أن النشر يربك حياته الشخصية؟ قال: إنه لم يتوقع أن يحدث ذلك. قال: إنه لم يتوقعه، ولما وقع، لم يرده. كان معناه أنه لن يعيش حياة طبيعية. كان عليه أن يضع الطرق القريبة من بيته تحت الحراسة. أبناؤه عانوا. ولماذا لا تكون حياته له وحده؟
سألته لو كان الأمر كذلك، فلماذا تكبد عناء مقابلتي. لماذا لم يبقَ على قمة جبله متجاهلًا رسالتي؟ قال: أنت تكتبين، وأنا أكتب. كان مجيئه إليَّ مجيء كاتب لكاتب. ثم بدأ يسألني عن كتابتي. هل نشرت كتابًا بعد؟ يا رب السماوات. جيه دي سالنجر يسأل بيتي إيبس عن عملها! قلت له: إنني كتبت رواية وأعطيتها لناشر محلي، هو ساذرن ببليشنج، ولكن في أثناء تجهيز العقد، انفصل الزوجان اللذان كانا يديران الدار وضاعت المخطوطة. وليس لدي نسخة إلا من ثلثيها الأولين. قلت لسالنجر: إنني غاضبة من نفسي لعدم احتفاظي بنسخة، وغاضبة منهما أن أضاعا عملي، وإنني لا أجد في نفسي روحًا لإعادة كتابة القسم الضائع. أطرق سالنجر، وقال: إن النشر شيء وحشيٌّ، وحشيٌّ. قال: إن كثيرًا جدًّا من الأمور التي لا يمكن استشرافها تقع بعد النشر. وقال: إنني قد أكون أسعد حالًا إذا لم أنشر أبدًا. قال: إن في عدم النشر سلامًا.
ثم بدأنا نتحدث عن التوقيعات. سألته: لماذا يكره أن يوقِّع للناس؟ فقال: إنه لا يؤمن بكتابة الأوتوغرافات. وإنها حركة لا معنى لها. ونصحني ألا أوقع مطلقًا لأحد. قال: إنه لا بأس في أن يوقع الممثلون والممثلات بأسمائهم؛ لأن كل ما يمكن أن يقدّموه للناس هو وجوههم وأسماؤهم. لكن الأمر مختلف مع الكتّاب. لديهم أعمالهم يقدمونها. ولذلك ففي توقيعهم الأوتوغرافات رخص. قال: إياك أن تفعلي هذا. وما لكاتب يحترم نفسه أن يفعل ذلك. عمومًا، بصفة شخصية لم أكن فكّرت في الأمر تفكيرًا جديًّا من قبل. أعني أن أحدًا لم يكن قد طلب مني توقيع أوتوغراف، أو هي مرَّة واحدة؛ إذ ظنَّت فتاة صغيرة أنني جين فوندا. ووقعت لها بجين فوندا، لم أرد أن أُوذِيَ مشاعر البنت.
أهل السياسة يحاولون أن يضيِّقوا الآفاق
حاولت في مواضيع أخرى. سألته عن النظام في الكتابة. قال: إن النظام لا يمثل مشكلة، الأمر أنك إمَّا تريدين الكتابة أو لا تريدين. أسلوبه؟ يعني، قال: إنه لا يعرف الكثير عن أسلوبه في الكتابة. من الواضح أن كل كاتب له اختياراته. قراراته. لكن الحقيقة أنه ليس لديه ما يفيد به فيما يتعلق بسؤالي. فجرَّبت السياسة. قال: أنا لا أكترث بأهل السياسة. ليس بيني وبينهم أيُّ شيء مشترك. يحاولون أن يضيِّقوا الآفاق، وأنا أحاول توسيعها. قال: إنه ما من سياسي على الإطلاق يحتلّ مكانًا بارزًا في ذهنه. جرَّبت الاقتصاد ـ التضخم، البطالة، الطاقة… إن كان لديه أي آراء يدلي بها في هذه القضايا. لا. قال: إنه ليس بينها ما يمسّه شخصيًّا. أو يمس منطقته. ولا يعرف الكثير عن هذه الأمور. تلك كانت إجابة زلقة؛ كونه لا يعرف. كانت تتسبب لي في توتر فائق. وهو أيضًا كان في غاية التوتر. أخذ ينقِّل حقيبته، فيبرزها أمامه، ويدسّها تحت إبطه.
ثم دار هذا الحوار.
إيبس: سمعت أنك تفضل الطعام العضوي. هل تعتقد أن تناول الأطعمة المزروعة عضويًّا أمر مهم؟ سالنجر: نعم، أو أنني لا أبالي. إيبس: هل صحيح أنك لا تأكل الأطعمة المقلية ما لم تكن معدة بزيت الفول السوداني المستخلص على البارد؟ سالنجر: نعم. إيبس: وما السبب؟ سالنجر: هل لديك معلومات عن الفوارق بين الزيت المستخلص على البارد والزيت المستخلص بطرق أخرى؟ إيبس: نعم. أنا لا أستعمل زيت الفول السوداني لكنني أقصر استعمالي على الزيوت المستخلصة على البارد. أجعل الإضافة إلى جميع أطباق السلطة من الزيوت المستخلصة على البارد من أنوية المشمش والسمسم ودوَّار الشمس. ومع قليل من الأعشاب تلقيها تحصل على طبق سلاطة مذهل.
لم أكن أعرف كم من الناس قد يكونون مهتمين بآراء سالنجر في زيوت الطعام، فرجعت إلى شيء أكثر عمومية. ألقيت عليه سؤالي عن الحلم الأميركي؛ هل يؤمن به؟ قال: بنسختي منه، نعم. حينما سألته، إن كان يمكن أن يوضح؟ قال: لا، لستُ مهتمًّا. قلت: إن الدستور فيما يبدو نصٌّ كَتَبَه رجال من أجل رجال، وإنه ربما لم يكن موجهًا للنساء. فجاء رده هادئًا. سالنجر: لا تقبلي ذلك، لا تتبعيه. من قال: إنه ليس لك حق في الحلم الأميركي، من يقول هذا؟ هذا مريع. مرعب. لا تقبلي ذلك. الحلم الأميركي للأميركيين جميعًا. والنساء أميركيات أيضًا. هو لك أنت أيضًا. هيا. طالبي بما تريدين…
بعد وقت تساءلت، إن كان سالنجر سيتوقف عند هذا الحد، ولم يكن في ذلك بأس؛ لأن شريط التسجيل كان يقترب كثيرًا من النهاية حيث يعلو صوت الصفير. لم يكن بوسعي أن أنظر إلى ساعتي لأعرف المتبقي من الوقت؛ لأنني لو رفعت ذراعي لأنظر لانزلق المسجل اللعين من فوره ولَمتُّ في مكاني. لو علم سالنجر ما كان يجري فلعله كان ليبتسم. والحق أنه ابتسم مرتين. المرّة الأولى حينما حدث في منتصف حوارنا -ولا أعرف أمن إحباط أو خوف أو رهبة أو ماذا- أن بدأت الدموع تسري على وجهي… يا إلهي، كان أمرًا محرجًا، ولم يكن بوسعي أن أمسحها فإحدى يدي تتحرك بقلم الرصاص القصير والأخرى كانت وتدًا لتثبيت المسجل. ابتسم سالنجر متعاطفًا عندها، ومدّ يده ومسح تلك الدموع بظاهر مفصل إصبعه، ثم مسح إصبعه في بنطاله. والمرة الثانية التي ابتسم فيها كانت عندما سألته: إذا كان يكتب حقًّا كل يوم، فما الذي يعمل عليه؟ ابتسم وقال: لا أستطيع أن أخبرك بهذا. وأعتقد أنني فهمت ما يعنيه.
أريد أن أبقى وشأني
أخيرًا مضى سالنجر لإحضار بريده. دخلت إلى كومنز كورنر لإحضار عبوة زجاجات تاب الثماني. لا بد أنني بقيت بالداخل لقرابة عشر دقائق. وفيما أخرج من كومنز كورنر رأيت سالنجر يرجع إلى الشارع من مكتب البريد. قفزت إلى البينتو، وغيّرت الشريط، ودسست المسجل مرة أخرى أسفل قميصي، وأدرته، ثم تناولت الكاميرا والتقطتُ ثلاث لقطات لسالنجر الذي استوقفه صاحب متجر كومنز كورنر الشاب. خرج ذلك الشاب فوضع يده على ذراع سالنجر. واضح أنه أراد مصافحة سالنجر. فاهتاج سالنجر. عبر الشارع بسرعة متجهًا إلى البينتو، ومال على الشباك أمام وجهي مباشرة مقتحمًا إياي بالفعل. وبدأ تقريعي. كان يرتدي نظارته هذه المرة. بدت عيناه أكبر كثيرًا وراءها.
إليكم ما قاله: بسببك، هذا الشاب الذي لا أعرفه، ولم أقابله قط، كلمني. سار نحوي ببساطة في الشارع هناك، وكلمني. بهذه البساطة. سار إليّ ووضع يده على ذراعي وكلمني. وهذا لا يعجبني. جيراني تلقوا اتصالات بسببك وأنا لا أحب أن أتسبب في إزعاج جيراني. أريد أن أبقى وشأني، لخصوصيتي. لذلك انتقلت للعيش هنا، طلبًا للخصوصية، في مكان أستطيع أن أعيش فيه حياة طبيعية وأكتب. لكن أشخاصًا مثلك يطاردونني. أنا لا أريد أن أبدو فظًّا. كل ما في الأمر أنني شخص يقدر الخصوصية. أمقت التطفل. أمقت الأسئلة. لا أحب أن أتكلم مع الغرباء. لا أحب بصفة خاصة أن أتكلم مع أي أحد. أنا كاتب. اكتبي لي رسائل إن أحببت. لكن أرجوك لا تأتي إليّ.
كنت أعرف في تلك اللحظة أنه ليس لديّ ما أخسره. فبينما بدأ يستدير قلتُ له: أنا آسفة لأنك غضبت يا سيد سالنجر، لكن رجاءً انتظر. لحظة أخرى من فضلك. هل تسمح لي بالتقاط صورة مقربة لك؟ بدا عليه الارتياع. بالطبع لا، لا. ليكن يا سيد سالنجر، ليكن. ها أنا أنزلت الكاميرا. أنزلتها يا سيد سالنجر، أرأيت؟
بينما هو متوقف لوهلة، طرحت عليه سؤالًا إضافيًّا: قل لي بصراحة، هل تكتب فعلًا؟ تصورت أنه سوف يجري. لكنه أجاب: فعلًا أكتب. لقد قلت لك. أنا أحب الكتابة وأؤكد لك أني أكتب بانتظام. كل ما في الأمر أنني لا أنشر. أكتب لنفسي، لمتعتي الخاصة. وأريد أن أُترَكَ وشأني لأفعل ذلك. فاتركيني وشأني. لا تأتي إليّ هنا مرةً أخرى. ومضى. وبينما هو متجه إلى المدخل المعتم للجسر المسقوف التقطتُ له صورة. قبل أن يتسنى لي العثور على شيء آخر أسأله عنه كان قد سار راجعًا إلى الجسر المثقوف الذي اختفى في ظلامه.
بعثت لسالنجر نسخة من الموضوع الذي كتبته لأدفوكيت. وبعد أحد عشر يومًا تلقيت صورتين ضوئيتين من استمارتي شراء فارغتين بُعثتا إلى نيويورك. كانتا موقعتين منه، ومبعوثتين من وندسور، وموجهتين إليّ عبر أدفوكيت. لم أدرِ إطلاقًا إن كان هو الذي بعثهما إليَّ. كان أمر الشراء موجَّهًا إلى شركة شوكليت سوب في نيويورك وقد طلب فيهما السيد سالنجر حقيبتين مدرسيتين كبيرتي الحجم، ومغلفتين تغليف هدايا، من الدنمارك (سعر الواحدة 16.50 دولارًا) وكان العدد الحالي من نيويوركر قد نشر إعلانًا عنهما. والآن لماذا بعث ذلك لي؟ أوشك بسبب التفكير في ذلك أن يصيبني الجنون.
بعد نشر المقالة، ظهر كثير من هذا العبث الشبحي، شيء يدفع المرء إلى الجنون. امتلأ لديّ ملف ضخم بعروض العمل، والرسائل، والطلبات… بدا الناس يظهرون من العدم موجهين طلبات إليّ. حاولت شركتان سينمائيتان معي لكي أذهب وأقنع سالنجر بعمل فِلْم! أعتقد أن ذلك كان لإفهامي ما الذي مر به السيد سالنجر شخصيًّا فحوَّله إلى الشخص الذي رأيته.
أريد أن أقول لكم: إن الحوار الذي أجريته مع جيه دي سالنجر كان أصعب ما حاولته في حياتي. يليه في الصعوبة الحوار الذي أجريته مع إدوِن دبليو إدواردس، محافظ لويزيانا السابق، عن المقامرة ـ فذلك اقتضى مطاردته خلسة في لاس فيغاس طوال ثلاثة أيام. لكنه لا يقارن بجيه دي سالنجر. عينا سالنجر… أغرب سواد عيون، وأغرب لمعة، بدتا كأنهما تنفذان في المرء. شديدتا الغرابة. أعني أنهما عجيبتان، عجيبتان. في صيف ذلك العام قررت أن أذهب إلى إنجلترا. وحاورت الممثل الإنجليزي جيمس ميسون. كان شديد السهولة مقارنة بجيه دي سالنجر. قابلني مرتديًا سترة وردية. بدا رائعًا. وددت لو أمضغه مضغًا.