حياة عمامو: لا توجد موضوعية مطلقة في التاريخ… ومهمة المؤرخ التأويل وملء الفراغات
تنفي الباحثة والأكاديمية التونسية حياة عمامو وجود حقيقة مطلقة، لا في التاريخ ولا في غيره، موضحة أننا كلما تقدمنا في العلم ألغينا ما حققناه سابقًا. وبالتالي، انطلاقًا من وجهة نظرها هذه، لا توجد مواضيع قُتلت بحثًا؛ لأن الموضوع يمكن أن نتناوله بطرق مختلفة، وبخاصة مع وجود ما يسمى بالمقاربات المتعددة الاختصاصات.
وتشدد صاحبة «النصوص العربية وقضية التأويل»، في حوار مع «الفيصل» على عدم محاولة إسقاط المفاهيم التي أتت بها حضارات ومنظومات وأنساق وأيديولوجيات أخرى على ماضٍ، كان يتشابه فيه العالم. وتشير إلى أن الحكم الاستبدادي، لم يكن خاصًّا بالعرب المسلمين، إنما كان متفشِّيًا في كل أصقاع الدنيا شرقًا وغربًا، وأن الخلط بين الدين والسياسة، كان موجودًا في كل أنظمة الحكم التي واكبت وجود الإسلام وتطوره.
وتؤكد أن التعامل مع المصادر غير المباشرة يجب أن يكون شديد الحذر، وأننا يجب أن نستعمل فيه النقد، والنقد الصارم خاصة؛ من أجل أن نستخرج ما يمكن أن يكون قد وقع فعلًا.
نشرت الباحثة والمؤرخة حياة عمامو، عددًا من الكتب المهمة وعشرات الدراسات، التي منحتها مكانة مرموقة في أوساط المؤرخين والمفكرين العرب، ومن هذه الكتب «المفاوضات بين النبي محمد وأهل يثرب والهجرة من مكة إلى المدينة»، و«أصحاب محمد ودورهم في نشأة الإسلام» و«السيرة النبوية: مناهج، نصوص وشروح».
في هذا الحوار تتطرق حياة عمامو إلى قضايا تخص التاريخ والتأويل وخلفيات المؤرخ، والمصادر المباشرة وغير المباشرة.
● يَجْمَعُ الذاكرة والتاريخ والتراث، خيطٌ ناظم يتمثل في الماضي بوصفه مسرحًا لهذه الأحداث، وإلى ذلك هنالك اختلاف كبير بينهم، كيف تفسرين ذلك كمؤرخة؟
■ التاريخ هنا يختلف اختلافًا كليًّا عن الذاكرة والتراث؛ لأن التاريخ هو دراسة الماضي، على عكس الذاكرة والتراث، والذاكرة على ما أعتقد جزء من التراث؛ لأن الذاكرة يمكن أن يُعَبَّرَ عنها بالتراث اللامادي. بالنسبة لي كل من التراث والذاكرة تعتبر أشياء مهمة لدراسة التاريخ. إن التاريخ هو علم نتناوله عبر اعتماد معطيات متعددة، تتركز أساسًا على ما يسمى بالتراث والذاكرة لإعادة قراءة وصياغة ما مضى، يقول جاك لوغوف في هذا الصدد: إن الناس دائمًا وأبدًا يحبذون الذاكرة على التاريخ، على أساس أن التاريخ وقع تبريره وتوظيفه وتغييره بما يتماشى والأيديولوجيات السائدة، في حين أن الذاكرة هي من قبيل الأشياء التي تخوض في التلقائيات والعفويات، فهي تعكس الواقع أكثر من التاريخ الذي ربما وقع التلاعب فيه، وإلى ذلك يؤكد جاك لوغوف أن التاريخ هو الدراسة عبر توخي قواعد علمية، وهذه القواعد العلمية تتمثل في المنهجية أساسًا.
فالذاكرة والتراث هو كل ما نرثه عن أجدادنا، كل ما يتجمّع لنا من معطيات تاريخية، في حين أن التاريخ هو اعتماد المنهج والمقاربات لدراسة كل من الذاكرة والتاريخ لاستخراج دراسات لفهم ما وقع. وفهمُ ما وقع يكادُ يكون من باب المستحيلات؛ لأننا لا نستطيع أن ندركه بأكمله، فلا بدّ من وجود فراغات، وهذه الفراغات تختلف من دارس إلى دارس في التاريخ. إذن هنا أريد أن أتطرق إلى مسألة مهمة جدًّا كثيرًا ما تُطرَح، وتتمثل فيما يمكن تسميته بالموضوعية. فالموضوعية في التاريخ والعلوم الإنسانية بصفة عامة لا تكون حاضرة بصفة مطلقة، فالموضوعية أن نتوخى المناهج العلمية، وليس أن نصل إلى نتائج حقيقية؛ لأن الحقيقة التي مضت ومرّت وقع إعادة إنتاجها بطرق مختلفة، لذلك فإن ما نتوصل إليه هو جزء من الواقع، وليس كل الواقع.
كل ما هو إنساني ليس مُطْلَقًا
● يُعَدُّ علم التاريخ علم المعطيات المتعددة والحقائق النسبية، فلا وجود لحقيقة مطلقة، وفي ضوء ذلك يكون الزمن كفيلًا بفرز ذلك، حيث إنه كلما طال الزمن قلّ المستفيدون من تزويره. كمؤرخة، كيف يقع تعاطيك مع المصادر والوثائق والمعطيات، وعلى أي أساس تتعاملين معها؟ فمن خلال قراءة للتاريخ العربي الوسيط، نجد أن المفكر هشام جعيط يقر بإلغاء المصادر التي ظهرت بعد القرن الثالث للهجرة، وهو الأمر الذي يؤكده كذلك المفكر السوري جلال صادق العظم، الذي يرى أن تلك الحقبة لم تخلُ من التوظيف الأيديولوجي والسياسي، وخصوصًا في عهد الدولة الأموية التي وقع خلالها أكبر تجميع للأحاديث النبوية. ونجد أنك تطرقت إلى ذلك في كتابك «السلطة وهاجس الشرعية»، بمعنى كيف نحدد مصداقية المصادر؟
■ كل ما هو إنساني لا يمكن أن يكون مُطْلَقًا، فكل الدراسات التاريخية حتى غير التاريخية لا يمكن أن توصل إلى حقيقة مطلقة، أكاد أجزم بأنه لا توجد حقيقة مُطْلَقة لا في الحاضر ولا في المستقبل، وينطبق هذا على العلوم الصحيحة، وإلا قُتِلَ الهاجس الإنساني فينا نحو التجديد والتطور.
إن هذا التطور العلمي وتواصل الاكتشافات وتقدم الأنساق بصفة عامة، يمكن أن توجد في كل علم، وتعدّل في المستقبل ما كنا نعدُّه في السابق حقيقة، وهذا يرتبط بالموضوعية؛ لأن الموضوعية لا تهتم بالوصول إلى الحقائق، فالحقيقة تختلف من مدرسة إلى مدرسة ومن زاوية إلى زاوية ومن إنسان إلى إنسان، فعندما أدرس حدثًا معينًا يمكن أن نقول على سبيل المثال الفتنة الكبرى، من الزاوية التي ننظر إليها يمكن أن نستخرج حقائق قد تكون في بعض الأحيان مناقضة لما توصل إليه غيرنا، هنالك أيضًا مسألة الأحداث التي تقع بصفة مادية، وهنالك ما نتصوره مثلًا في المخيال والوهم، والتخيل.
والمخيلة تلعب دورًا مهمًّا جدًّا في التاريخ، المخيال الشعبي والمخيال العالمي والكوني. أسوق لك مثالًا بخصوص المخيال الكوني، من العلماء في التاريخ الوسيط مثل الطبري، يمكن عدّه عالمًا بأتم معنى الكلمة، إلا أن ما يورده من روايات حول حدث ما فيه إقصاء لبعض الروايات الأخرى، مثل وجهة النظر الشيعية، وإن حرص على أن يجمع أكثر ما يمكن من الروايات، ولكن استعراضه لهذه الروايات يحمل خلفية أيديولوجية، وهذا لا يمكن أن ينقطع مع الإنسان، ما دام الإنسان هو من يرصف الأحداث التاريخية، ويحاول أن يستنبط منها أشياء.
لا بد أن نراعي في ذلك هذا التوظيف الذي نقوم به من دون أن نقصد أن نكون موالين لناس من دون ناس آخرين، هذا عمل إنساني والعمل الإنساني يقع الأخذ فيه في الحسبان ما يروج في مخيلة الباحث ومخيلة الدارس، ومدى فهمه المميّز والاستثنائي والانتقائي. إذن، يمكن أن نفهم معنى حدث معين أو ظاهرة معينة بطرق مختلف.
● إذن، التاريخ علم إنساني، والسمة الإنسانية هي سمة غير متكاملة، هل هذا إقرار بأننا لن نصل ونبلغ الحقيقة المطلقة أبدًا، وخصوصًا أنّ هذه النقطة نجدها متواترة ضمن الفصل الثاني من مؤلفك «تصنيف القدامى في السيرة النبوية»؟
■ الحقيقة المطلقة لا توجد لا في التاريخ ولا في غير التاريخ، بدليل أننا كلما تقدمنا في العلم ألغينا ما حققناه سابقًا. من وجهة نظري هذه، لا تُوجَد مواضيع قُتلت بحثًا؛ لأن الموضوع يمكن أن نتناوله بطرق مختلفة، وبخاصة مع وجود ما يسمى بالمقاربات المتعددة الاختصاصات، هذا من شأنه أن يجعلنا ننسّب كثيرًا فيما نتوصل إليه من نتائج، إذن فالتاريخ عند جاك لوغوف علم، ولكنه علم بمناهجه وليس بنتائجه. ومن وجهة النظر هذه، النتائج تأتي في مرحلة التأويل، والتأويل يأخذ كثيرًا من ذات الإنسان، ومن فكره، ومن خلفياته. إذن تختلف النتائج باختلاف المقاربات وباختلاف التأويل وباختلاف المنهج الذي نتوخاه، وباختلاف الخلفية التي ننطلق منها خاصة.
مصادر أنجزت بخلفيات مختلفة
● على أي أساس تنتقين مصادرك، بقصد إثراء مدونتك التي نجدها حاضرة في غالبية مؤلفاتك، سواء «السيرة النبوية: مناهج، نصوص وشروح»، أو «السلطة وهاجس الشرعية في صدر الإسلام»؟
■ ثمة اختلاف بين المناهج والمصادر، أنا أعتمد على المصادر باعتماد منهجيات ما، فمصادر التاريخ الإسلامي الأول، أو تاريخ الإسلام المبكر، كما يصفه الكثير من المؤرخين وتحديدًا الأستاذ جعيط والأستاذ راضي دغفوس وغيرهما من أساتذة درسوا في الجامعة التونسية، هي مصادر غير مباشرة. إذن لا نشتغل على الأرشيف بحكم أن الأرشيف غير موجود في ذلك الزمن، والأمر لا يتعلق بالمسلمين وحدهم، إنما يتعلق بكل الأمم التي سبقتهم والتي تعايشت معهم، بحكم عدم وجود الأرشيف وبحكم عدم وجود الآثار في كل الميادين وبحكم عدم وجود الكثير مما نسميه بالوثائق المباشرة أو المصادر المباشرة. فنحن نتعامل مع مصادر غير مباشرة، وهذه المصادر غير المباشرة، أُنجِزتْ بخلفية ما، أُنجِزتْ بخلفية التخليد خلافًا للمصادر المباشرة، التي تُنجَز بطريقة ليست فيها أية خلفية، مثلًا، فحين تقوم بصياغة عقد بيع أو شراء يكون عبارة عن وثيقة إدارية يمكن عدّها محايدة، لا يوجد فيها أي هدف لتخليدها أو شيء من هذا القبيل.
لذلك، فإن التعامل مع المصادر غير المباشرة يجب أن يكون شديد الحذر، ويجب أن نستعمل فيه النقد والنقد الصارم خاصة؛ من أجل أن نستخرج ما يمكن أن يكون قد وقع فعلًا. فالمنطلق من خلال اعتمادنا على هذه المصادر لا يتمثل في اعتمادها كلية، وإنما يتمثل في انتقاء ما يمكن أن يكون قد حدث فعلًا، وبالتالي فالمؤرخ مطالب بملء الكثير من الفراغات عبر فرضيات، عبر استنتاجات، وهذه الفرضيات وهذه الاستنتاجات تقوم على جزء بسيط مما يعده حقيقة. لذلك لا يمكن أن تؤدي بنا إلى إعادة تركيب ما وقع فعلًا، وإنما قد تؤدي بنا إلى تركيب ما وقع في ثلاثة أرباعه أو في نصفه أو في ربعه، إلى آخره، ونحن ننتظر دائمًا وأبدًا تطور هذه المناهج ووجود مصادر أخرى وتقارير التنقيب على الآثار؛ لتعديل رؤيتنا لكثير من الأشياء.
● لكن على الرغم من هذا، نجد الكثير من الوثوقية والدوغمائية حاضرة في التعاطي مع المصادر التاريخية في عدد من الكتب والمؤلفات الكلاسيكية التي تقدمها كمسلمات يبنون على أساسها بحوثهم، فهل غياب الرؤية النقدية والتعامل مع تنزيل المصادر في سياقها التاريخي يؤدي إلى صياغة وسوء فكري وإضافة لَبْس على التاريخ الإسلامي المبكّر، وتعطيل تقديم طروحات جادّة في هذا المبحث؟ مع أننا نجد محاولة لتفسير هذه المسألة في كتابك «السيرة النبوية: مناهج، نصوص وشروح»، إلا أننا لا نجدها بالعمق المطلوب.
■ في الحقيقة، المؤرخون سواء كانوا من مؤرخي الغرب -ولا أريد أن أطلق عليهم مؤرخي الاستشراق- أو من المؤرخين المسلمين؛ تناولوا التاريخ الإسلامي بمقاربات متعددة، ويمكن تقسيمها إلى ثلاث مقاربات، هنالك المقاربة الوصفية، وهي التي تبحث فيما يوجد في المصادر، وتحاول إعادة تركيبه على أساس أن كل ما يوجد في المصادر لا يرقى له الشك، وهذه اشترك فيها العرب المسلمون خاصة، وكذلك الكثير من المستشرقين ساهم في كتابة تاريخ المسلمين المبكر بطريقة وصفية وليس بطريقة أخرى. وهنالك المقاربة النقدية، وهذه المقاربة بدأت منذ القرن التاسع عشر، وتوسعت في القرن العشرين، وهي موجودة إلى الآن عند كثير من المؤرخين الغربيين وكذلك عند عدد من المؤرخين التونسيين، تأثرًا بهشام جعيط وتأثرًا كذلك بالمدارس الغربية عامة.
وهنالك مقاربة أخرى مهمة جدًّا لم ننتبه إليها كثيرًا في التاريخ العربي الإسلامي المبكر، وهي المقاربة التشكيكية. هذه المقاربة التشكيكية وُجِدَتْ مع المقاربة النقدية، ومن أكبر أقطابها في بداية القرن العشرين هنري لامنس، الذي ينزع كل موثوقية عن المصادر العربية الإسلامية، ويرى أن كتابة تاريخ المسلمين الأول يكاد يكون مستحيلًا. ولكن هذه المدرسة أخذت منحى جديدًا مع نهاية القرن العشرين، فرأت أن ما يوجد في المصادر العربية الإسلامية لا يعبر عن حقائق ووقائع تاريخية، بقدر ما يعبّر عن تصورات كُتِبتْ في نسق تاريخ مختلف عن نسق حدوثها، ومن ثم لا يمكن اعتماده في كتابة تاريخ المسلمين الأول، وللقيام بهذا العمل يجب الاعتماد على المصادر السريانية بما في ذلك غير المباشرة منها؛ لأنهم عدُّوها الأقرب زمنيًّا.
وفي رأيي هذا لا يعني شيئًا، أن نكون قريبين في الزمن لا يعني أن تكون المصادر أكثر صدقية؛ لأن المصدر العربي الإسلامي الذي كتب في القرن الثالث سبّاق على مصادر أخرى، ولكن هذه المصادر غيّبت لأنها وجدت بشكل آخر أو بطريقة أخرى في مصادر القرن الثالث، ويجب الأخذ في الحُسبان أنه قبل القرن الثالث للهجرة كانت الروايات يقع نقلها مشافهةً لا مدوَّنة، وهي سِمَة من سمات العرب في حقبة ما قبل الإسلام والإسلام الأول.
وهذا لا يعني أن ما كان يتداولونه من أخبار ينقلونه بطريقة حرفية؛ لأن التدوين بدأ مع عمر بن عبدالعزيز، إلا أن التدوين لم يكن حركة رسمية، أي حركة دولة وذات نطاق واسع، إنما كانت مبادرة شخصية فقط، يمكن أن نضمها إلى التصرفات الشخصية التي يقوم بها الإخباريون بصفة عامة. إذن، عندما يتعلمون أو يتلقون تعليمًا، كانوا يأخذون رؤوس أقلام في أوراق، للاستعانة بالتذكُّر؛ لأنه كان ينعت بالعجز من يفتح كتابًا بدلًا من الاستعانة بذاكرته. وعدم التمكّن مما يعلمه، إلى آخره. كانت العامة تحتاط من الاعتماد على شيء مكتوب عندما تطلب معرفة ما.
ضرورة التأويل
● هل يمكن عد التأويل مقاربة نستطيع بواسطتها معالجة حِقَبٍ أو أحداث تاريخية، وإلى أي مدى تواكب الجامعات العربية هذه المقاربة، خصوصًا أنك اشتغلت على التأويل في مقالتك المحكمة «النصوص العربية وقضايا التأويل»؟
■ التأويل أمر ضروري؛ لأن المنهج العلمي يقوم على ثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى هي تجميع المادة، أما الثانية فهي تصنيفها، أما الثالثة فهي تأويلها. بالنسبة للتجميع والتصنيف لا تتدخل الخلفيات الإنسانية لمن يقوم بدراسة تاريخ ما، وإنما في التأويل يحدث ذلك. في التأويل يبرز الجانب الذاتي في فهم الأشياء؛ لأن التاريخ في نهاية المطاف هو فهم وتفهّم لما حدث في الماضي؛ لأن ما حدث في الماضي يهم الحاضر، ولأنه لا يمكن فهم الحاضر من دون أن نحل ألغاز الماضي، ومن دون أن نفهم الحاضر على ضوء ما حدث في الماضي، لا يمكن أن يكون لنا استشراف أو أرضية يمكن أن ننسج على منوالها المستقبل.
في الحقيقة، مسألة التأويل ليست في متناول كل الناس، ولذلك نرى -خاصة- في مناقشة أعمال الطلبة دائمًا وأبًدا أنه وقع استعراض المعلومات، ولكن من دون أن يقع التعليق عليها. التعليق عليها في جزء منه تأويل، ولكن التأويل لا يتمثل في التعليق فقط، إنما يقوم على النقد أيضًا. فعندما أتعرض لحدث ما، أقول: ربما هذا الحدث لم يقع بهذه الطريقة، وإنما من قاموا بنقله فيما بعد تأثروا بالمناخ. على سبيل المثال، من نقلوا المعرفة بصفة عامة في القرنين الأول والثاني، هم تأثروا بالصراعات السياسية والمذهبية في زمنهم. لذلك لا يمكن -بصفة عفوية ولا شعورية- أن نمنعهم من إسقاط هذا الزمن وتأثيراته. فمثلًا موسى بن عقبة أو قتادة بن عمر، وأيّ راوٍ من الرواة في بداية القرن الثاني، لا يمكن أن نمنعه من أن يتأثر بالصراعات الأيديولوجية والسياسية والمذهبية التي وجدت في زمنه، ليسقطها على الصراع بين علي وعائشة أو على واقعة الجمل، أو حتى على ما حدث في هجرة العرب من شبه الجزيرة العربية نحو الشام أو العراق، إلى آخره. هذا الأمر إنساني ولا يمكن أن ننعت هؤلاء بأنهم تحيزوا أو كانت لهم خلفيات أيديولوجية.
● أرى أنك تحذرين من إسقاطات الواقع المعيش، حول إبداء رأينا عمّا حدث منذ ثلاثة عشر قرنًا أو أكثر. ونقصد به الحقبة التأسيسية للإسلام، لكن، كيف يصحّ ذلك والحال أن الدين كوني في بعده المكاني، ومطلق في تعاطيه الزمني، ألا يلغي هذا البعد القدسي والهالة الدينية؟
■ ما أقصده، ألَّا نحاول أن نسقط المفاهيم التي أتت بها حضارات ومنظومات وأنساق وأيديولوجيات أخرى على ماضٍ، كان يتشابه فيه العالم. مثلًا الحكم الاستبدادي، لم يكن خاصًّا بالعرب المسلمين بل كان متفشِّيًا في كل أصقاع الدنيا شرقًا وغربًا. الخلط بين الدين والسياسة، كان موجودًا في كل أنظمة الحكم التي واكبت وجود الإسلام وتطوره، وإنا نقول أكثر من هذا؛ الإسلام في أول عصره لم يخلط بين الدين والسياسة، حيث إن الرسول لم يترك وصية لمن يخلفه على أمور الدنيا، كما أن انقطاع الوحي هو فرصة للذين سيأتون من بعده للاجتهاد في أمور الحكم.
لقد حاول المسلمون أن يتأقلموا مع أنظمة الحكم في شبه الجزيرة العربية، ولكنهم لم يعادوا المؤسسات التي وجدوها في الأقطار التي توسعوا على حسابها مثل العراق، فعمر بن الخطاب بمجرد توسعه على الإمبراطورية الساسانية، أدخل ما يسمى بالدواوين، وأدخل العُملة كالدينار والدرهم. وفيما بعد ذلك وقع تطوير نظام الحكم في العهد الأموي، الذي، بحسب الرواة، أطلق الحكم من الخلافة إلى الملك العضوض، هذا الملك العضوض جاء تأثرًا بالبيزنطيين حتى في مسألة «البروتوكول»، ثم هذا الخليفة الذي كان يسمى بخليفة رسول الله، وأصبح يسمى بخليفة الله.
هذا المزج بين الديني والسياسي هو من تأثير الحضارات المجاورة. فالملك كان يسمى بالإله عند الفرس، وعند البيزنطيين كان سيزارو بابيز، أي الربط بين البابا والقيصر. ولم يكن هذا المزج بحكم ما يوجد في القرآن أو سنة النبي، بدليل أن عمر بن الخطاب عندما توسّع على حساب الحضارات المجاورة وتحديدًا البيزنطيين والفرس، أدخل العديد من الأحكام الفقهية الجديدة.
فاطمة المرنيسي والنسوية
● هذا يحيلنا إذن إلى مفهوم الترويض الثقافي، أي مراعاة الخصوصية الثقافية والانفتاح على روح العصر الكونية…
■ يمكن أيضًا أن نطلق عليه مفهوم «الأقلمة الثقافية»، وهو التيار النقدي ضد التفكير العقيم والدوغمائية والوثوقية، ويجب المبادرة بطيّ صفحة الماضي المظلم، نحو حاضر أفضل. للأسف في خضم هذا الاجتهاد، أتذكر فاطمة المرنيسي النسوية المرموقة، التي بدأت مسيرتها الأكاديمية على أساس أنها ناقدة شديدة لأحكام الإسلام والمسلمين، لكنها لاحقًا أصبحت تبحث عما يوجد في الإسلام؛ لتبرر انخراطها في هذه الحركة النسوية، فوصلت إلى حدّ اعتبار أن النبي كان «نسويًّا»؛ لأنه كان يحترم المرأة، وأنه كان يطمح إلى إنشاء المساواة بين المرأة والرجل، غير أن عمر بن الخطاب، كما تذكر، منع ذلك؛ لأنه لا يخدم الطبقة الأرستقراطية.
المساواة لم تكن لتطرح في مثل ذلك العصر والسياق، وهو أمر يكاد يكون مستحيلًا؛ لأن المجتمعات بطريركية. وقد لا نبالغ بالقول حين نقول: إننا نحن في هذا العصر لا نستطيع إنجاز المساواة. يذهب بعضٌ إلى المبالغة بالقول: إن المجتمعات قبل الإسلام كانت مجتمعات أموية «بطريركية»، ويسوقون أمثلة نساء كانت لهنّ حظوة في ذلك العصر، مثل هند والخنساء، اللتين اكتسبتا تلك الحظوة لموقعهما الاجتماعي وثروتهما وانتمائهما القبلي، لا لأن المناخ الاجتماعي كان مساعدًا على صعود المرأة المناصب العليا. وهذا موجود على امتداد تاريخ المسلمين، حتى في القرن التاسع عشر، في عهد البايات التونسيين، هذا العهد الذي أصبحت فيه المرأة «عورة»، وتطورت نظرة المرأة من وقت إلى آخر.