حسن إدلبي: عند الفنان الحقيقي يصبح الإنسان عجينة يسيطر عليها بتشكيلاته، أيًّا كانت؛ واقعية أو كاريكاتيرية
بحسب الدراسات الأكاديمية عُدَّت بعض اللوحات المضحكة التي وجدت على جدران الكهوف بداية انطلاق فن الكاريكاتير، وهو ما يعني أن هذا النوع من التعبير يعد من أقدم الأنواع الفنية التي لجأ إليها الإنسان، واستخدمها للتعبير عن مكنونات نفسه. ولكن هذا يعني أيضًا أن الفن فيه من الفطرة ما دفع الإنسان لاستخدامه منذ فجر التدوين للتعبير عن نفسه والتواصل مع الآخرين، وربما ترك رسائل لنا أن هناك من مر من تلك الأمكنة. رسام الكاريكاتير حسن إدلبي أحد الذين يحاولون منذ سنين طويلة أن يتركوا رسائل أنهم مروا أيضًا من هنا، وحاولوا أن تكون رسائلهم ملونة ممتعة حينًا، تعتمد على القراءة، قراءة الوجوه، وذات حكاية مرة أخرى، تعتمد على الموروث الشعبي، وذات أبعاد تشكيلية في أحيان أخرى.
حسن إدلبي، الأكاديمي الذي دخل الساحة الفنية متسلّحًا بكل أنواع المعرفة الفنية؛ لينتج على مساحات ضيقة، فنًّا يحولها إلى مساحات تتسع للعالم، ليجيبنا عن بعض ما يمكن أن يرد إلى ذهن أي متلقٍّ ينظر إلى لوحة كاريكاتيرية، وليتحدث عن تجربته الجديدة، وردود أفعال الجمهور على معارضه الأخيرة.
● كيف استقبل الجمهور المعارض الأخيرة ذات النكهة المختلفة جدًّا؟
■ استقبلها بحفاوة ودهشة وأسئلة كثيرة. أولًا: أردت أن أثبت أن الكاريكاتير الحقيقي يتكئ على الرسم الأكاديمي في ظل ونور، وكتلة، وتكوين. وهو مرحلة متقدمة من الرسم الذي يتجاوز الواقع، ويبتعد من التشويه، فكثير من التجارب جمعت بين الكاريكاتير، والتشكيل، عند الفرنسي دومييه مثلًا وغيره، حتى دافنشي له رسوم كاريكاتيرية. عند الفنان الحقيقي يصبح الإنسان عجينة يسيطر عليها بتشكيلاته، أيًّا كانت؛ واقعية أو كاريكاتيرية، باختصار الفن ينبع من مكان واحد، ويتفرع هنا وهناك. الفنون بأنواعها تلتقي في هذا النبع وتنطلق منه لتقول كلمتها بلهجة بصرية فريدة.
● في زمن سيطرة التكنولوجيا والحب الافتراضي، هل الوقت مناسب للعودة إلى التراث وتحديدًا لعنترة وعبلة، الحب العذري والفروسية؟
■ القضية أساسًا رمزية، فالكثير من الشخصيات التراثية التي ما زالت تلعب دورًا في مورثنا الشعبي، وما زال لها حضورها، لها رمزيتها التي بإمكانها حمل رسائل وأفكار مختلفة تستطيع إيصالها بطريقة سريعة وبسيطة وممتعة، فأنت بمجرد أن تذكر اسم جحا مثلًا، سترى الابتسامة قد رُسمت على وجه المتلقي. وإذا ما ذكرت قيسًا أول صورة سترد للذهن هي صورة العاشق الولهان. وقد اخترت عنترة لسبب مهم، هو أنه شخصية تحمل الكثير من الإيجابيات، فهو العاشق الفارس صاحب القضية، الكريم، الشجاع، ولذلك رأيت أن بإمكانه حمل الكثير من الرسائل التي أردت إيصالها إلى الجمهور، ومنها رسائل لها علاقة بثورة الاتصالات، والتقنية الحديثة. أما الحب الافتراضي فمن الممكن أن يتحول إلى حب حقيقي، وأنا لي تجربتي الخاصة، فقد تعرفت إلى زوجتي على الفيس بوك، وكان ذلك منذ أكثر من ست سنوات. هي تحب الفن وتصميم الأزياء، ولذلك تم التعارف بشكل سريع، ثم اللقاء لاحقًا، والزواج، وتحول الحب الافتراضي إلى أسرة أنتجت «معرض عنتر وعبلة».
● ما الذي أضافته تجربة الزوجي في العمل، خصوصًا في المعرض الأخير، على لوحات حسن إدلبي؟
■ بما أنني متزوج من امرأة تهوى الفن أصلًا، فقد أضاف العمل المشترك مع زوجتي الكثير، والأهم أنه أضاف اللمسة الأنثوية، فأنا خلال العمل سابقًا والآن وبعد شراكة في الحياة لسنوات عدة كنت دائمًا أستأنس برأيها كزوجة وفنانة وكانت تقدم رأيها بمنتهى الصراحة والعفوية. والحياة والفن متداخلان في بيتنا أصلًا، فمرسمنا هو بيتنا، ولذلك التراكم الفني والمعرفي موجود لديها، وهذا ما وفر لي نظرة نقدية فورية لما أقوم بإنجازه، ثم جاءت فكرة المعرض المشترك بخصوص «عنتر وعبلة»، فكانت الفرصة سانحة لتضع لمساتها على اللوحات مباشرة.
● بين التشكيل والكاريكاتير أي المدرستين وفرت مساحة أوسع لتعكس أحاسيسك عبرها؟
■ أنا مزاجي جدًّا فيما يخص العمل، ولذلك أعتمد على الارتجال ككل الفنانين الذين لا يستطيعون التخطيط للعمل المقبل، هناك طاقة كامنة لدى الفنان ينتظر الوقت المناسب لإطلاقها، وتوقيتها عمومًا غير محدد، هي لحظة بإمكاننا إطلاق اسم لحظة الإلهام عليها، وغالبًا لا يمكن التحكم فيها، وهي تنعكس إما على شكل لوحة تشكيلية أو كاريكاتيرية وأنا لا أسعى لها إلا في ظروف معينة، ولكن غالبًا هي من يفرض شكل العمل والأهم أنها مساحة للتعبير والتواصل مع المتفرج الذي يتممها بعد قراءته لها.
الزمن من سيحدد قيمة اللوحة
● أمام هذا الكم الهائل من الأعمال الفنية من رسم ونحت وتصوير ضوئي، على مواقع التواصل الاجتماعي من بات يحدد قيمة العمل الفني وأين أصبح دور النقاد الفنيين؟
■ بعض اللوحات التي تنشر لوحات جيدة وبعضها عادي ومكرر. من سيحدد قيمة هذه اللوحات هو الزمن. فخلال كل العصور ظهر الكثير من الفنانين الذين تحدثت عنهم الصحف ولكن من وصل إلينا واستمر هم الفنانون الذين سبقوا زمنهم برؤاهم وأسسوا لمدارس فنية ما زال أثرها موجودًا حتى اليوم، كفان غوخ وسيزان، وعدد من الفنانين الآخرين. أما النقاد الفنيون فهم موجودون وهناك أسماء عديدة على الساحة الفنية ولكنها قليلة باستطاعتنا أن نذكر الفنان والناقد السوري أسعد عرابي، والرسام والناقد اليمني عمر عبدالعزيز، والشاعر والخطاط اللبناني سمير الصايغ، والمصري أحمد عكاشة، هناك عدد من النقاد الآخرين العرب المهمين الذين ما زالوا يلعبون دورًا مهمًّا ومؤثرًا على الساحة الفنية العربية.
● نعود إلى الكاريكاتير مرة أخرى؛ ما مميزات الوجه المثالي للوحة كاريكاتيرية لحسن إدلبي؟
■ أن يكون الوجه واضح الملامح، وأن يمتلك خصوصية وتأثيرًا، تحفظه من أول مرة، ولا تنساه، هذه هي المواصفات الأنسب للرسم. وأكثر ما أرتاح لرسمهم هم الممثلون؛ لأنهم يمتلكون كاريزما، وخصوصية، وإلا لما ترسخوا في ذاكرة الناس. الممثل لكي ينجح يجب أن يمتلك مواصفات هي التي تساعدني على الرسم، وتعطيني مستمسكات أتكئ عليها لأذهب بعيدًا في اللوحة الكاريكاتيرية.
وجوه بخيلة
● هل يوجد وجه عصيّ على فن الكاريكاتير؟
■ هو عكس ما ذكرته سابقًا، وجه ليس له خصوصية، وأقرب إلى الحيادية. أنا أسميها الوجوه البخيلة. أما الوجوه الكريمة، فهي الوجوه التي تعيرك نفسها بسهولة؛ لأنها وجوه لها موقف. مثلًا عادل إمام وعمر الشريف وجهان كريما الملامح، ولهما موقف، وقِسْ على ذلك. لا علاقة لوسامة الشخص بالموضوع أبدًا أو العكس.
● ما الحدود المسموح بها عند المبالغة لتحقيق الطرافة في العمل الكاريكاتيري؟
■ المبالغة هنا لتحقيق الطرافة التي هي الغرابة في الوقت ذاته. وكلما طرحت سؤالك في اللوحة بطريقة فيها طرافة وغرابة ستأتيك إجابات من المتلقي أطرف وأغرب. والكاريكاتير فن ليس للإضحاك أساسًا، إنما هو مفارقات مضحكة ومبكية أحيانًا. فربما يكون الكاريكاتير حزينًا، والقضية الأساسية هي أن تقدم إما أسئلة أو إجابات طريفة، والملامح الخارجية مضافًا لها أحاسيس ومشاعر الرسام هي من يشكل العمل، والحدود أحيانًا متغيرة لأن شكل الموديل متغير، ومشاعر الفنان متغيرة أيضًا فالحدود يرسمها الواقع الآني.
● متى يلجأ فنان الكاريكاتير للكلمة في اللوحة الفنية؟
■ عند الضرورة القصوى. فأفضل الرسوم الكاريكاتيرية، الرسوم التي لا تحوي مفردات أبدًا. الحديث ضمن لوحة الكاريكاتير يضعف اللوحة ويحدّ من عدد من يفهمها. اللوحة التي تحوي مفردات، لوحة محلِّيَّة، بينما اللوحة العالمية، هي اللوحة التي يفهمها الجميع. اللوحة الكاريكاتيرية مثل أية مقطوعة موسيقية أو منحوتة، حتى إن المسابقات العالمية تشترط في اللوحات المشاركة أن تكون لوحات من دون تعليقات، وأن تكون بصرية تقرؤها العين.
● أهم ما ميز عام 2020م على مستوى العالم وباء كورونا، وقد رأينا أن غالبية مستخدمي وسائل التواصل تعامل مع الأمر بطريقة ساخرة، وكلٌّ على طريقته؛ في رأيك ما الذي ميز ردود الأفعال تلك؟
■ كورونا تحوَّلَ إلى شاغل الناس في كل أنحاء العالم خصوصًا أن عَدَّاد الموت لم يتوقف حتى الآن، ولأن السخرية تعدّ أحد أهم أسلحة المواجهة، لذلك رأينا الكثير من الفنانين قد وجدوا موضوعًا جديدًا لأعمالهم خصوصًا مع الحظر الذي فرض على الناس، وما توقعه الجميع من ظهور آثار جديدة على العلاقات داخل كل أسرة وموقف كل فرد تجاه الآخر خلال الحجر، الذي سيؤدي حتمًا إلى تغير في الحالة النفسية وخصوصًا الأزواج غير المعتادين على قضاء ساعات طويلة في بيوتهم. ولذلك رأينا الكثير من الأعمال الساخرة التي صورت المرأة وكأنها السجَّان والرقيب والشخص المستبدّ في زمن الحجر، الذي حاصر الزوج بعد منعه من الخروج من البيت اضطراريًّا إلى حيث كان يقضي وقت فراغه بصحبة أصدقائه. أعتقد أن السخرية هنا خففت قليلًا من ثقل الحجر بعد أن حاولت الالتفاف عليه باللوحات المضحكة التي تُدُووِلَتْ بكثرة.