بواسطة سعيد بوعيطة - كاتب مغربي | يناير 1, 2024 | كتب
يسهم الفضاء السردي في رسم معالم النص الروائي وتحديده، وبناء الشخصية السردية من خلال علاقتها بذاتها وبغيرها من الشخصيات، وبمختلف العناصر التي تشكل عوالم النص. سواء من حيث الاتصال أو الانفصال المادي أو المعنوي. لعل هذا ما يؤشر عليه العمل الروائي الأخير للروائي السعودي خالد اليوسف «ارتحالات يعقوب النجدي»، الصادر في طبعته الأولى عن مؤسسة الانتشار العربي، الشارقة، 2023م، في 241 صفحة، من القطع المتوسط؛ إذ يتحدد فيه الفضاء على نحو بارز، ويعرف نوعًا من التحول من خلال الارتحالات المتعددة للشخصية المحورية (يعقوب النجدي). سواء كانت هذه الارتحالات إلى الفضاءات الجديدة المتعددة، أو إلى مخزون الذاكرة من خلال العديد من الاسترجاعات. منحت هذه الارتحالات دينامية خاصة للشخصية (الشخصيات)، وامتدادات عدة للفضاء. فيزج السارد (شخصية يعقوب النجدي) بالقارئ في دوامة هذه الارتحالات التي يتدرّج فيها بصعوبة نحو مدارج الحدث السردي وطبقاته، والفضاءات التي تتفتح منذ عتبة النص الرئيسة/ العنوان حتى آخر صفحة في المتن السردي للرواية.
الفضاء بين الانفصال والاتصال
حين استعار غريماس مصطلحي الانفصال/الاتصال من المنطق الرياضي، برهن من جهته على أن كل من المستويين، يحدث في مجال الشخصية والفضاء؛ لهذا، رأى أن وظائف الرحيل/ الانتقال، ترتبط بالانفصال. أما وظيفة العودة فعَدَّها شكلًا للاتصال بين الشخصية والفضاء. لكن في المقابل، نفى ميخائيل باختين العلاقة العضوية بين الفضاء والزمان، وعَدَّها علاقة تقنية ميكانيكية محضًا، وهو ما يجعلنا نستنتج أن الاتصال والانفصال، يمكن أن يحدثا في آنٍ واحد عبر حذف الزمن. لهذا، فإن الرحيل من زليفات (عطوة/ عقلة الطين) لشخصية يعقوب حمود إلى المدينة الكبيرة (الرياض)، لا تقابله العودة من هذه المدينة الكبيرة إلى الفضاء الأصل (عطوة/ زليفات)؛ لأن كل هذا خاضع لأي الفضاءين يمكن أن يشكل المكان البؤرة في نص «ارتحالات يعقوب النجدي». وذلك في محاولة للاقتراب من قانوني الطاقة السردية العزلة/ العلاقة، عبر مفهومين شكليين، هما الانفصال/ الاتصال. الانفصال عن فضاء قرية عطوة/ زليفات، والاتصال بفضاء جديد (فضاء الرياض، الكويت، العراق، القاهرة) بوصفها فضاءات حسية، تتحول إلى فضاءات إيحائية.
إنه تحول من العزلة/ الانفصال عن عالم ثابت، إلى حالة من الاتصال بالفضاء الجديد؛ ذلك أن قيام الوظيفتين في آنٍ واحد (على نحو مزدوج)، يؤدي إلى اختراق التضاد الواقعي لهما، وهو ما يجعل الأشياء (مكونات الفضاء) تحصل على رمزيتها وهي تملأ فضاءها/ مجالها بالتأثير. فإذا كان فضاء مدينة الرياض، مسرحًا للعمل (التجارة)، فإنه في المقابل كان ضمن زمن الرواية مسرحًا للتوقع والانتظار والترقب، وهو ما يجعل المتلقي يواجه (ضمنيًّا) تساؤلات السارد (الروائي الضمني/خالد اليوسف): هل يكتب الروائي عن الفضاء المرئي، أم يكتب عن فضاء آخر (خفي، استعاري)؟ هل تسعى الشخصية للعيش فيه، أم يجب أن تحلم لكي تعيش فيه وتعيش من خلال الذاكرة المرتبطة بالفضاء؟ وإذا كان المبدع يحيا في الفردوس الخفي، في اللامكان، فما طبيعة هذا الملكوت؟ أين يتموقع هذا اللامكان، في رقعة الوجود المرئي؟ هل لهذا المكان ملامح الوجود في العالم المحسوس، أم إن مكانه الحقيقي في العالم الذي يقع وراء المكان، ووراء الوجود المحسوس؟
خالد اليوسف
بهذه الرؤية الفنية المنبثقة عن هذه الأسئلة، يحيك الروائي خالد اليوسف نسيجه النصي الهجين؛ ليرسم السرد في هذا النص الروائي، شوارع المدينة التي تحملها الشخصيات السردية معها في حلها وارتحالها (شخصية يعقوب). كما أن تكرار رموزها، يرسم بيان الرحلة المحرض على الكتابة في التواتر وفي التوارد، وهو ما يجعل كل بصمة فضاء جديد، تمهر زوايا كل صفحة من هذا النص السردي. متحسسة خط طوافها وطواف الكاتب المتعهد بنسخها.
وإذا كان نص الروائي خالد اليوسف لا يكتفي بارتياد المجتمع السعودي المعاصر (الرياض، الخفجي،… إلخ) فحسب، بل يمتد إلى مجتمعات عربية أخرى (الكويت، العراق، مصر)، فإن وجه المدينة الأول/ العتيق (بلدة عطوة/ زليفات)، لا يتجلى في هذا النص الروائي إلا بوصفه بناءً محفورًا في ذاكرة السارد/شخصية يعقوب النجدي (البيوت الطينة/عقلة الطينة)، صحارى نجد الشاسعة، بلدة عطوة، أراضي آل رضيع ونخيلها،… إلخ. تشكل هذه العناصر وهي مجتمعة، العالم السردي الحقيقي والمتخيل لهذا النص السردي. فكل مواقع الانقطاع والارتحال والعزلة، تنبثق عن قالب النشوء البدئي لشخصيات الرواية. كما أن كل آفاق البحث عن بناء الذات بالتماس الفضاء الطوباوي (الممكن)، هي أصيلة لبؤر مؤمكنة. سواء بمعية شخصية الأب أو الإخوة؛ لذلك، فإن فضاء المدينة للشخصية عبارة عن فضاء (التمثيل المركب. المدينة فيه ما هي إلا صدى لمدن أخرى، وهي لا تحيا إلا إذا تنفست حضورها الكلي الذي يميزها من مكانها الوجودي).
تتفلّت عوالم الارتحال في هذا النص السردي، على شكل خيوط دلالية، تنساب وتنسدل من جوف وتخوم وإيقاع عتبتي العنوان «ارتحالات يعقوب النجدي» على نحو تشكيلي بطيء ولافت. تضع القارئ أسير فضاء قرائي بالغ التحول واللامحدودية الفضائية والتحفّز والخوف وسرعة التواصل مع الحراك الزمني السردي في الحدث الروائي، بحيث يجد نفسه محددًا ومقيدًا بمواجهة كل شيء في العمل، وعليه بإزاء ذلك أن يتهيّأ لمواجهة قرائية يشوبها الترقب ويغطيها الضباب؛ لأن الاتصال بفضاءات جديدة من جانب السارد/ شخصية يعقوب النجدي، تضع آفاق انتظار المتلقي أمام احتمالات عدة.
دينامية الشخصية وامتدادات الفضاء
تتميز رواية «ارتحالات يعقوب النجدي» بخريطة شخصيات نوعية فرضتها طبيعة المادة المسرودة، وتشتغل شبكة الشخصيات في سياق تكاتف شخصاني ملتحم على نحو شبه دائري، تتحرّك ضمن بؤرة مكان تدعم هذا التكاتف وتسوّغه وتجيب عن معظم أسئلته. وتعدّ شخصية «يعقوب النجدي» مركز هذه الشخصيات ومحورها ومحرق حراكها السردي وتجلياتها المشهدية، أما الشخصيات الأخرى المؤثثة لفضاء الشخصيات المتعددة في الرواية في نطاق التجاور والتعاضد والتوازي والتخالف في سياق الروابط العلائقية بينها، فتتميز بسكونيتها، باستثناء الشخصيات المرتبطة على نحو وثيق بالشخصية المحورية/ شخصية يعقوب النجدي (موسى البرق/ موسى المطوع/ موسى الرملة/ شخصية الأب/ شخصية فضيلة)؛ لكونها تدور في وضعها وتتشكل تبعًا لحركة وحضور الشخصية الرئيسة «يعقوب النجدي»، التي تبدو كأنها بؤرة الفعل السردي بوظائفه كافة.
لهذا، فإن الفضاء هو الآخر شهد قدرًا واسعًا وعميقًا من الكثافة المكانية المحتشدة في بؤرة معينة، واتسم بعدم محدوديته في البناء والتصوّر والوصف والعمل؛ ليعرف نوعًا من الامتداد تبعًا لدينامية الشخصية الرئيسة وباقي الشخصيات التي تدور في فلكها، وهو ما جعل الأماكن المعلنة والمسمّاة في النص الروائي بأسمائها، وذات الطبيعة المرجعية الواقعية المعروفة، والموسومة بـ«زليفات وقراها/ الرياض/ الخفجي/ الأسواق (السعودية)»، تشهد الحركة الدائرية للسرد الروائي في فاعلية استدراج المحكي واسترجاع تاريخيته ومضمونه على نحو بالغ القصدية. حيث يذهب بالرواية أحيانًا إلى منطقة تعبير وتشكيل خاصة يتحول فيها هذا النص السردي إلى «رواية سيرة مكانية/ سيرة شعب» في الوقت نفسه.
لهذا، تشتغل رواية «ارتحالات يعقوب النجدي» في تبئيرها السردي على شبكة آليات حداثية تلتئم في سياق واحد من أجل احتواء تجربتها والتعبير عن مقولتها؛ لكونها ترصد فضاء الانفصال/العزلة والحنين بوصفه الفضاء الأول للشخصية المحورية (شخصية يعقوب) المتجلّي في فضاء قرى زليفات وبيوتها الطينية، من خلال الوصف والسعي إلى تكثيف الأمكنة وتركيزها وترسيخ وجودها التاريخي والجغرافي والإنساني والرُّوحي.
وعلى الرغم من السياق الخطي السردي للحكاية أحيانا، فإن السارد العارف بكل التفاصيل الحكائية لهذا النص السردي، حسب تزفيتان تودروف، اعتمد على المشاهد السردية بصورة مونتاجية، تؤلف بين الوصف والحوار، كما تجلى في مشاهد حركية الأسواق (سوق المقيبرة/ ص:51، سوق البطحاء، ص: 73) وبيوت الضيافة (بيت شخصية موسى الرملة، ص: 84)، بكل ما تنطوي عليه هذه المشاهد وما تعكسه وما توحي به من حساسيات ورؤى وأفكار وقيم وحالات. لكن هذه الرؤى التي تتنوع بتنوع الفضاءات، تجعل الشخصية المحورية (شخصية يعقوب النجدي) حبيسة هذه الفعالية السردية لهذا النص السردي الكثيف. لهذا، تبدو أحيانا كأنها رهينة مركزية من رهائن الترحال وتغيير الفضاءات.
تكشف رواية «ارتحالات يعقوب النجدي» للروائي خالد اليوسف، من خلال سياق طاقاتها التشكيلية المعبّرة، عن روح الفضاء والزمن والحدث والشخصية، وعن توظيف فعّال ومثمر سرديًّا لجماليات السرد الروائي الحديث، الذي تجسد أساسًا في تحول الفضاءات وحكاية الشخصية (من خلال الارتحال) على نحو أصيل داخل الوحدات السردية والوصف الروائي. حيث شكلت حكايات الرواية، وامتداداتها في الفضاء النصي التخييلي منه والواقعي، جذورًا غائرة في أعماق الذاكرة والتاريخ على السواء.
بواسطة سعيد بوعيطة - كاتب مغربي | يناير 1, 2023 | كتب
تُعَدُّ الأديبة الكويتية ليلى العثمان من أهم الأقلام الأدبية الخليجية والعربية عامة. بدأت مسيرتها شاعرة، ثم انتقلت إلى الكتابة القصصية والروائية. تُرجِمت أغلبية أعمالها إلى لغات عالمية، واختيرت روايتها «وسمية تخرج من البحر» من ضمن أفضل مئة رواية في القرن العشرين. من أهم إصداراتها «امرأة في إناء» و«حلم الليلة الأولى» و«يوميات الصبر والمر». أنجزت عنها عشرات البحوث والدراسات النقدية. ولأول مرة يقع الاهتمام بها من طرف قلم تونسي هي الباحثة فاطمة بن محمود التي خصصت كتابها الأخير للتجربة الإبداعية لليلى العثمان: «ليلى العثمان والكتابة من الداخل» الصادر في طبعته الأولى عن دار الوطن للنشر، بالرباط، أغسطس 2022م (121 صفحة) من الحجم المتوسط.
تضمن الكتاب تقديمًا، ومجموعة من القراءات في المنجز السردي لليلى العثمان. ركزت فيه الباحثة على رواياتها: «صمت الفراشات» و«حكاية صفية» و«المحاكمة»، وعملين قصصين هما: «فتحية تختار موتها» و«حالة حب مجنونة»، إضافة إلى سيرتها الذاتية «أنفض عني الغبار»، واختتم الكتاب بحوار مع الكاتبة ليلى العثمان.
تشير الباحثة فاطمة بن محمود في تقديمها للكتاب إلى التزام الأديبة ليلى العثمان بالمجتمع الكويتي وانشغالها بقضاياه، وهو ما جعلها صوت المجتمع الكويتي الخارج من الحواري والأزقة، مثلما كان الروائي نجيب محفوظ صوت المجتمع المصري. تندد العثمان بالقيود الاجتماعية وتعلن رفضها، وتكتب عن المجتمع الكويتي في تفاصيله. تنطلق من الجزئي لتصل إلى ما هو إنساني/ كوني، وهو ما منحها مكانة مخصوصة في المشهد الأدبي العربي عامة. لهذا، تعمدت الباحثة تنويع قراءاتها للأديبة ليلى العثمان، فجمعت بين الرواية والقصة والسيرة الذاتية لتقدم، حسب وجهة نظرها، رؤية متكاملة إلى حد ما حول جانب من منجزها الأدبي (ص:9)؛ نظرًا لوجود خيط ناظم في كتابات ليلى العثمان (ص:10).
ليلى العثمان
ركزت الناقدة على العتبات النصية بوصفها مداخل رئيسية لرواية «صمت الفراشات»، سواء فيما يخص العناصر اللسانية (عنوان الرواية/ صمت الفراشات)، أو غير اللسانية (لوحة الغلاف). كما توقفت عند الشخصية المحورية (نادية)، بوصفها شخصية مدورة تمثل «وجهة نظر الروائي وهي المركبة التي لا تستقر على حال وتنكشف للقارئ تدريجيًّا ولا يستطيع أن يتنبأ بما ستفعله؛ لأنها تحافظ دائمًا على نوع من الغموض في ردود أفعالها ومواقفها، مما يجعلها تضفي تشويقًا على الرواية» ص:18. لهذا، اختارت ليلى العثمان، حسب الباحثة، تقنية السارد العليم الذي يتحكم في مسار الأحداث من خلال توظيف صيغة المخاطب. وهو ما سمح للسارد/ الروائية الضمنية، التوغل عميقًا داخل الشخصية وسبر أغوارها؛ لجعل المتلقي يتابع نمو هذه الشخصية ويستوعب تركيبتها النفسية ويتفهم انفعالاتها المختلفة. كما أكدت الباحثة أن الروائية اعتمدت طريقة الفلاش باك لبناء الزمن الروائي؛ قصد كسر النسق الرتيب لأحداث ووقائع النص السردي.
انطلقت الباحثة من مفهومي الذكورة والأنوثة والعلاقات القائمة بينهما، سواء على مستوى المجتمع أو الأدب. وناقشت من خلال ذلك قضايا عدة: الذكورة والأنوثة بين العلم والواقع، الذكورة والأنوثة بين المجتمع والأدب، سلطة الرجل/ مكانة المرأة، المرأة: الضحية والجلاد، عندما تتساوى لعبة الذكورة والأنوثة، العنف والعنف المضاد/ عدوانية الثقافة، لعبة السيادة والعبودية، من يتحمل المسؤولية؟ لتخلص إلى أن قراءة هذه القصص وفق مفهومي الأنوثة والذكورة، يجب ألا يأخذ المتلقي إلى منزلق يؤدي به إلى القول: إن ليلى العثمان تذهب به إلى «كتابة نسوية متطرفة»؛ لأن مثل هذا القول يجانب الصواب (ص:63). فليلى العثمان تنحاز في هذه القصص إلى المرأة بوصفها نوعًا من الانتصار للإنسان عامة؛ قصد خلق علاقة إنسانية ناضجة وواعية بين الرجل والمرأة.
الانتصار على الحياة
ركزت الناقدة كذلك على العتبات النصية، وذلك من خلال تناول العناصر اللسانية المتمثلة في الجملة الاسمية/ العنوان «فتحية تختار موتها»، وما تؤشر إليه من رموز ودلالات، وغير اللسانية/ الدلالية المشكلة من لوحة الغلاف. بعدها تناولت قضايا أساسية هيمنت على نصوص هذه المجموعة: الكتابة وتشريح المجتمع، الحفر في الموروث/ النبش في العادات والتقاليد، المرأة الحلقة الأضعف، كيف ينظر المجتمع الكويتي (قبل النفط) إلى المرأة؟ لتخلص الناقدة إلى أن ليلى العثمان قد ركزت في قصص هذه المجموعة على الأسلوب الاسترجاعي، وهو ما جعلها تنجح في التعبير عن المشاعر الانفعالية من خلال نقل العوالم الجوانية للشخصيات، ومشاعرهم وهواجسهم وتناقضاتهم.
انطلقت الناقدة في هذه المقاربة كذلك من العتبات النصية، اللسانية منها (عنوان الرواية: المحاكمة)، وغير اللسانية (صورة الغلاف ونوعية الخط)؛ لتناقش مستويات أخرى لهذا النص الروائي، حددتها فيما يلي: في العلاقة بين الدين والأدب، الأدب والدين وكتابة الذات، ليلى العثمان والمحاكمة، الإبداع والأحكام الأخلاقية، ميكانيزمات السلطة الدينية، معاداة الإبداع، غريمهم المرأة/ الحلقة الأضعف، المواجهة بكل الوسائل، المبدع والإيمان بالكتابة (وقد ركزت على مستويين: المستوى الانفعالي، المستوى الإبداعي). وخلصت الباحثة في هذا الجانب إلى أن التقنية التي وظفتها الأديبة ليلى العثمان في بناء رواية «المحاكمة» تتمثل في اهتمامها بالتفاصيل الصغيرة، كما خلقت نوعًا من التقاطع بين الذاتي والموضوعي، بين الخاص والعام. فيما اعتمدت طريقة الفلاش باك في التعامل مع الحدث من دون أن تحدث خللًا في البنية السردية.
ركزت فاطمة بن محمود في تناولها لهذه السيرة الذاتية على مجموعة من المكونات: الكتابة/ السحر، الكتابة بوابة خلاص، الكتابة بما هي حياة، لتخلص إلى أن هذا النص السردي يكشف للمتلقي مقاربة جديدة لفن الرواية من خلال تجربة إنسانية واجتماعية تتقاطع عوالمها النفسية والثقافية بشكل أو بآخر. وختمت الباحثة كتابها بحوار أجرته مع الأديبة ليلى العثمان (ص:107)، أثارت من خلاله العديد من القضايا الأدبية، والعوامل الموضوعية والذاتية التي ساهمت في تطوير التجربة الإبداعية للمبدعة ليلى العثمان.
بواسطة سعيد بوعيطة - كاتب مغربي | مارس 1, 2021 | كتب
زكريا محمد
تنطوي المجموعة الشعرية الجديدة «زراوند» للشاعر الفلسطيني زكريا محمد، الصادرة عن دار الناشر في رام الله، على خصائص شكلية مميزة؛ جعلتها مختلفة عما هو مألوف في الكتابة الشعرية العربية، ذلك أن الملمح الأساسي البارز على صعيد الصنعة البرّانيّة للديوان، ليس مجرد كسوة، بقدر ما يشكل انعكاسًا لمختلف الصور الجوّانيّة للذات الشاعرة بكل تجلياتها وكينونتها وتعدد أحوالها ومقاماتها. إن أول ملاحظة يسجلها قارئ هذا الديوان، غياب تسمية نصوصه وعنونتها. فقد جاءت جميع قصائد الديوان من دون عناوين. كما لا يحتوي على فهرس يشي بمحتوياته.
هكذا، يجد القارئ نفسه في مواجهة القصائد واحدة تلوى الأخرى منذ الصفحة الأولى (ص: 5) وصولًا إلى آخر الديوان (ص: 260). لكن حين يختار الشاعر التسمية/ العنوان، فإنه يسمي الديوان دون أجزائه (قصائده)؛ لهذا، فالعنوان الوحيد الذي يتركه الشاعر هنا هو العنوان الرئيس «زراوند». يدل هذا الأخير على تلك العشبة المعمرة التي تشبه الشعر في طبيعته المتحولة، عشبة معمرة، ولها أكثر من خمس مئة نوع، تعرف بأكثر من اسم ذي دلالة شعرية بالغة (غليون الهولندي، عنق الجمل، فقوس الغول، قثاء الحية،… إلخ). تنمو على أكمل وجه في تربة طينية ورملية. أليستْ تربة الشعر في أصلها تربة طينية، لزجة، ورملية متحركة؟ إلا أن اسم زراوند لا يرد في المجموعة كلها، إلا على الغلاف الأمامي؛ مما يجعل من «الزراوند» ذلك الاسم الجامع، بحيث تتحول دلالة عنوان الديوان إلى «كتاب الزراوند»، بمعنى كتاب الولادة. تؤشر هذه الأخيرة إلى التجدد والاستمرارية في الحياة والكون، لكن التجدد/ الحياة عند زكريا محمد وثيق الصلة بالموت.
دائرية الكون
تتوالى قصائد الديوان كأنها أنفاس متوالية غير مستقطعة؛ قصائد عارية من كل شيء إلا من تاريخ كتابتها المرقون في طرف الركن الأيسر للصفحة، ليشكل التاريخ عنوان القصيدة في علاقاتها مع الزمن النفسي والوجودي للشاعر، كما تشكل تاريخ أنفاس الشاعر وعذاباته في لحظة التجلي (لحظة المخاض العسير). كأن الشاعر زكريا محمد يريد أن يقول: لن أسمي قصائدي، فالتسمية موت وفناء؛ لأن كل مسمى (المعلوم المعين) لا بد له في آخر المطاف من ميتة مفترضة مجازية كانت أم حقيقية، لذا أيها القارئ، سأترك لك تواريخي، والتاريخ باق. بيد أن الشاعر لا يقدم تواريخه هذه وفق تسلسل زمني/ كرونولوجي. زمن الحدث المتحقق وفق شرط وجوده. فقد كتبت القصيدة الأولى عام 2018م، والثانية في العام 2019م، والأخيرة عام 2018م، وما قبلها في عام 2013م. وفق تسلسل قد يبدو للوهلة الأولى عشوائيًّا، لكن الشاعر جاء به عن قصد؛ ليشكل خلطًا للفواصل الزمنية، فواصل لحظة الكتابة بعضها ببعض، حتى يغدو الزمن دورة حياة هذه التواريخ/ القصائد، زمنًا دائريًّا، لا أول له ولا آخر، يعيش في نفسه إلى الأبد؛ لهذا، فالنص الشعري عند زكريا محمد، عبارة عن كون دائري لا يتوقف عن الحركة والدوران، شأنه في ذلك شأن حياة الإنسان، فالكون كما يقول في القصيدة الأولى: أيتها الكذابة، سوف أكسر غصنك، سوف أكسر/ المنبر الذي تعظين فوقه. الكون دائرة، وكل شيء/ يسافر من نقطة على محيط الدائرة ثم يعود إليها (الصفحة: 5).
تسافر قصائد الديوان على محيط الدائرة وحوافها ثم تعود إليها من جديد؛ لتشكل دائرية الكون في العوالم الشعرية لديوان «زراوند» المشدودة إلى جدلية الحياة الموت، ذلك أن الحديث عن الموت، في مجال الإبداع (فلسفة وأدبًا)، هو أشبه ما يكون بالحديث عن الشمس، التي أشرقت، ثم غربت، فأشرقت في مكان آخر. الموت غياب وحضور. غياب هنا، وحضور هناك. إنه، بعبارة أخرى، انتقال من الألفة إلى الغرابة والاغتراب. والمرء المغترب يتجدد بانتقاله إلى مكان غير مألوف؛ لأنه في هذه الحالة يستعير ثوبًا جديدًا يجعله يبدو في منظر غير معهود على حد تعبير عبدالفتاح كليطو، لهذا، فإن للاغتراب، علاقة وطيدة الغياب/ الموت، مثلما أن الألفة ترتبط ارتباطًا قويًّا بالحضور/ الحياة.
دائرية الكون ورمزية بنات نعش
هذا البعد الدائري للحياة/ الكون، جعل الشاعر زكريا محمد يوظف أسطورة بنات نعش من خلال عملية تناصية. بنات نعش الدائرات في الأفلاك بشكل دائري وبدون توقف. يقول في الصفحة، 124: وحين أموت ارفعوني إلى درب التبانة. ضعوني هناك/ في نعش (بنات نعش)، أريد أن أكون نديمًا للفرقدين/ أريد أن أكون قدحة صغيرة بين نجمتين/ لكن دعوني قبل ذلك أكتب مقطوعتين: مقطوعة/ للنهار، ومقطوعة لليل. مقطوعة للسيف ومقطوعة/ للضيف، فالشعر رحلة لا تنتهي.
ويقول كذلك في الصفحة، 140: اللعنة بنات نعش، موتهن يدمع عيني./ وكلما ظننت أنني ميت هبت الريح وتنفست من أنفي/ لا شيء يعتدّ به عندي، أصنع خريفًا من شظية مرآة،/ وألغي ربيعًا بضربة فرشاة./ قبضتي على عكازي، وقلبي يقفز بين الشوفان البري. وظف الشاعر زكريا محمد أسطورة بنات نعش للدلالة على سرمدية الكون. وتعاقب الحياة والموت التي تتقاطع في بعدها الدلالي مع دائرية الحياة/ الكون.
رؤيا الموت ودلالتها
يؤكد ألبير كامو في أغلب تصوراته الوجودية أن النظرة الإبداعية، في إدراكها للموت، هي نظرة إيجابية، تنظر إليه بوصفه وجودًا هناك، ولا تنظر إليه على أنه شر مخيف؛ لهذا سعى الشعر (الإبداع عامة) إلى التركيز على ذلك الوجود المضمر في الآنية، الـ(هنا) والـ(هناك)؛ لأن إمكانيات الوجود تتجاوز المتجلي/ المادي، لذلك أثث المبدعون أفضية عوالمهم هناك، قبل موتهم. يفتتح الشاعر زكريا محمد «زراونده» بفقرة تكاد تكون عتبة الولوج إلى عالمه الشعري:
فجأة رد لي الموت ما أخذه مني. وقفت عربته أمام/ بيتي، وأنزلت كل شيء: أحبتي الذين اختطفهم مني،/ أصدقاء طفولتي، والأمل بتنورته القصيرة/ لم يعد لدي ما أبكيه، أستطيع الآن أن أضع نعلي تحت/ رأسي كي آخذ غفوة طويلة (الصفحة: 5).
يحضر الموت في هذه الافتتاحية على عكس ما جسدته نصوص الشاعرة الأميركية إيميلي ديكنسون (1830- 1886م) التي هيمنت على قصائدها هواجس الموت ودلالاته. فعلى الرغم من حضور الموت عند كلا الشاعرين، فإنه لا يأتي ليأخذ الشاعر زكريا محمد إلى العالم السفلي كما هو الشأن مع الشاعرة ديكنسون. لكنه يعيد إلى الشاعر كل شيء أخذه منه. هذه الإعادة التي تعمل على تجدد الحياة أو الأمل بتنورته القصيرة إلى نقطة البدء (نقطة الخلق الأولى).
فبعد أن يكمل الموت دورته المفترضة، يعيد الأشياء إلى أصلها في هذا الكون الدائري؛ ذلك أن الموت ذاته حصان يجري على محيط الدائرة الكونية. يحمل حمله ثم يفسخه. يأخذ القتيل ثم يرده. يجري الموت في هذا المحيط (الكون) الذي يشكل معادله الموضوعي ديوان «زراوند» الذي لا يكفّ كذلك عن الدوران حول نفسه، فلا نهاية للزمن/ الحياة، بل يحكمه تعاقب الحياة والموت من خلال نوع من التناوب بين الإثبات/ الحياة والنفي/ الموت. يقول الشاعر: ردت الفاختة ثانية: لا، لا، الموت حراث، يصيح/ ببغلته: دي…دي، ويشق ثلمه الطويل، ثلمه لا/ يتوقف أبدًا، وبغلته لا ترتد (الصفحة: 5). يتكرر هذا التناوب وتعاقب الأدوار في العديد من قصائد الديوان (الصفحات: 5، 9، 10، 23، 34، 43، 61، 63، 93، 99، 104، 111، 116، 144، 210، 224، 233، 237، 25). يحضر الموت من خلاله بقوة. إنه كَسّار النوافذ كما يقول الشاعر استدار رأس الرجل على كتفه، وأجاب: أنا الموت كَسّار النوافذ، وأنت يا صغيري حصاني (الصفحة: 9). إنها الطريق التي يمشي فيها الشاعر ثم يعود منها. لكنها الطريق التي سوف تفضي به إلى باب آخر للحياة. لا يعرف عنه الموت شيئًا، ولا يستطيع أن يأتي منه، ذلك الباب الذي سوف يدخله الشاعر بعد أن تضرب نسرين بمندفها الموت في داخله، ويضرب طائر الطنان بجناحيه ماضي الشاعر ومستقبله إلى حياة لن يأتي إليها الموت قبل أن تتفتح زهرة الكتان (الصفحة: 183)، ولأن الموت بعربته وبغلته حاضر بقوة في محيط الدائرة (الديوان)، التي تتعاقب فيها فصول الحياة، فإن الشاعر يمجد الطبيعة بمعجم زاخر بأسماء الحيوانات والنباتات، والطيور،… إلخ. إلا أن هذا التمجيد لا يحتفي بالطبيعة في حد ذاتها، بقدر ما يحتفي بقوتها التدميرية التي تعادل الموت، إلا أن الموت هنا لا يعني كما يشير شاكر النابلسي العدم، لكن يعني التجدد والبداية. أما الدلالة الجديدة للموت التي عبّر عنها الشاعر زكريا محمد، فتحمل معنى الخلود والديمومة والتجدد. بهذه الرؤيا الإبداعية، نحت الشاعر زكريا محمد من بسيط الكلام جواهر فريدة. إنه لا يصف، لأن الوصف هو الظل. كما أنه لا يحكي؛ لأن السكوت هو الأصل، بل يبني عوالم شعرية ذات أبعاد فلسفية، تقاطعت في بعض جوانبها مع الرؤية الشعرية للراحل محمود درويش التي جسدت كذلك رؤية وجودية، ترى في الموت نقطة البدء نحو الحياة/ الوجود، وهو ما يجعل تجربة الشاعر زكريا محمد، من التجارب المميزة التي تناولت دلالة الموت بعمق فلسفي، ورؤية وجودية مختلفة.
بواسطة سعيد بوعيطة - كاتب مغربي | سبتمبر 1, 2020 | كتب
قبل أن نلج العوالم النصية للمجموعة القصصية «مفارقات» للقاص السعودي فهد الخليوي الصادرة في طبعتها الأولى عن نادي جدة الأدبي (2018م)، تستوقفنا العتبة الأولى/ العنوان «مفارقات». التي هي في الوقت نفسه عتبة ثانوية/ عنوان النص الثالث والثلاثين من المجموعة القصصية (ص41). إن ارتباط العتبة الرئيسية للمجموعة بهذا النص الفرعي، يشي بأن هذا الأخير عبارة عن نواة النص العام/ المجموعة، تتشظى وتتناسل من خلالها بقية النصوص القصصية، سواء على مستوى المعجم أو الدلالة.
إن قراءة أولية لهذا النص النواة (نص مفارقات)، يجعلنا أمام نوع من المفارقة بين الأنا «هل توجد في بلدك مهزلة بهذا الحجم من القرف؟» الصفحة: 41 والآخر «أجابني ضاحكًا: شبكة الصرف الصحي في بلدي أسسها الاستعمار منذ عشرات السنين» الصفحة: 41. إذ تهدف هذه المفارقة إلى إثارة نوع من السخرية «هتفت أمامه بحماس: يحيا الاستعمار» الصفحة 41. إن بناء هذا النص النواة ودلالته، هو الذي حدد عنوان هذه القراءة النقدية. فعلى الرغم من كونه جاء مزدوج الدلالة، فإن هذه الازدواجية مترابطة في الوقت نفسه. ذلك أن الأولى المرتبطة بالمفارقة، تؤدي بالضرورة إلى الثانية المتجلية في السخرية. لهذا، تعد الثانية، نتيجة للأولى. لقد نشأ مصطلح المفارقة في إطار فلسفي. إذ ارتبط بالفيلسوف كانط. وصولًا إلى شليغل، وكيرك غارد؛ إذ عمل هؤلاء على إرساء مفهوم المفارقة في البلاغة والنقد الحديث.
بين المفارقة والسخرية
إذا كانت المفارقة تكشف عن تناقضات الحياة التي لا يستطيع فيها الإنسان الوصول إلى حقيقة واضحة ومطلقة، فإن السخرية تسلب الشخص قدراته، تعريه من كل ما يتخفى فيه ويتحصـن وراءه؛ لذا، فالمفارقة تصنع السخرية. إن السخرية بهذا الفهم، مفهوم مرادف لمفهوم الضحك. سخرية وضحك بوصفهما موقفًا ورؤية للحياة والكون. من خلال هذا التصور العام، سنحاول استجلاء خاصية المفارقة في النص القصصي، ومثالنا على ذلك المجموعة القصصية «مفارقات» للقاص فهد الخليوي. إن قراءة نصوص هذه المجموعة القصصية، تجعلنا نحدد مجموعة من أساليب وأنواع السخرية: سخرية الأشكال، سخرية الفعل والحركة، سخرية الموقف/ الرؤيا، سخرية الطباع والصفات.
سخرية الأشكال
ترتبط السخرية في هذا الإطار بالتغيير الذي يطرأ على سلوك شخص متمسك بالعادات والتقاليد الاجتماعية. فيغدو كل ما هو مخالف للمألوف، مثيرًا للسخرية. لقد تجلى هذا الأسلوب في نصوص عدة من مجموعة «مفارقات»، أهمها: أحفاد، فساد، مأزق، محاضرة، مكابدة، جحود، طاغية، شجاعة. تتحقق السخرية في هذه النصوص القصصية، من طريق مجموعة من المؤشرات المرتبطة بالحكاية؛ إذ تجعل المتلقي يقرؤها وفق مقاصدها الساخرة. ففي قصة «لص» نجد مفارقة بين الوعي القائم/ السائد (غالبًا ما يكون مغلوطًا) والوعي الذي يجب أن يكون (الصحيح).
يقول السارد في الصفحة 53: «سأل السيد بعض أعوانه: هل أحصيتم ثروات الأرض؟ أجاب أحدهم: كل شيء أحصيناه وحفظناه في خزانتك، لكن الجوع تفاقم في البلاد سيدي. قال: خذوا القليل من الفتات وأطعموا كلابي». تكمن سخرية هذا النص القصصي، في حمله لتلك الدلالة المقلوبة والسائدة في المجتمع. فيما يحاول السارد (الكاتب الضمني)، تعرية زيف ما هو سائد. أما في قصة «جحود»، فيقول السارد في الصفحة 56: «استخدم نفوذه القوي، وأوصل صديقه الحميم للمنصب المرموق. ذات دورة زمنية، تنخر نفوذه. طرق باب صديقه الحميم، لم يفتح. اندلقت من عينيه دمعتان، أزالهما بمنديله، ثم مضى». في هذا النص القصصي، نجد تقابلًا بين الحالة الأولى/ العلاقة الأولى للشخصيتين والحالة الثانية/ العلاقة الثانية بين الشخصيتين. إن العلاقة بين عنصري الصداقة والانتهازية في هذا السياق، تشكل تنافرًا على مستوى الدلالة لتلك العلاقات غير السليمة. كما نجد هذا التنافر والصراع، في قصة «انتقام متأخر». يقول السارد في الصفحة 64: «حملوا جثة الطاغية من قصره إلى مدفنه الصغير. وعندما انفض الجمع. تسلل إلى المقبرة، وأطلق النار على الجثة. وهي في غاية الطراوة». يقدم هذا النص القصصي نوعًا من المفارقة/ التعارض بين السلطة (من خلال شخصية الطاغية) والشعب. يحلم الشعب (الشخصية) بالانتقام. لكن السلطة/ الطاغية لم تمنحه ذلك إلا بعد موتها. يقدم السارد هذه العلاقة في شكل ساخر، محمّلًا بتناقضات الواقع وصراعاته. إن الشيء نفسه نلمسه في قصة «شجاعة». يقول السارد في الصفحة 60: «هجم ذئب جائع في الهزيع الأخير من الليل على قرية صغيرة. واختطف من إحدى حظائرها خروفًا سمينًا، وكان الكلب الموكل بحراسة الحظيرة ينظر إلى المشهد برعب وصمت. عندما حمل الذئب غنيمته على ظهره، واختفى في مجاهل الصحراء، بدأ الكلب ينبح». إن السخرية في هذا النص (كما في النصوص التي أشرنا إليها)، لا تتحقق على مستوى الكلمة أو الوحدة المعجمية، بل على المستوى المقامي. تحمل دلالة ترمي إلى ازدراء وتحقير وتعرية واقع اجتماعي واقتصادي غير متوازن.
سخرية الموقف/ الرؤيا
يعتمد هذا الأسلوب من السخرية على إعلان موقف/ رؤيا والإتيان بغيرها. في «مفارقات» تجلى هذا الأسلوب في النصوص القصصية التالية: عناق، ضياع، مأزق، عصابة، إرهاب، عولمة. يعد النص «عولمة» من أبرز النصوص التي تحمل هذه الميزة/ سخرية الموقف. يقول السارد في الصفحة 46: «لا أحد يتصور في قريتنا الغارقة في الرمال والعزلة، أن العالم سيصبح في يوم ما قرية بحجم شاشة صغيرة. وأن الأرض هي في الأصل كروية وليست كما يعتقد الأوصياء بأنها خط أفقي يهدي إلى الصراط المستقيم». بهذا تعيد نصوص فهد الخليوي بناء الواقع من خلال رؤيا أو فانتازم. وكأنها وصف لما في هذا الواقع من عوج ومسخ. فهي تتوسل إلى ذلك بأدوات عدة، أهما السخرية والهزل والباروديا؛ إذ يكون النص القصصي على موعد مع الواقع. من أجل سبر غوره وكشف حسابه في مرآة قيم أخلاقية وجمالية متأصلة ومتطورة. كما نلمس الشيء نفسه في قصة «مهرج». يقول السارد في الصفحة 61: «صعد إلى المنصة، كانت عشرات الميكروفونات تحيط به من كل جانب حتى تعذر على الحضور رؤيته بوضوح».
تعمد هذه النصوص القصصية إلى السخرية المكثفة والمتفجرة من ثنايا التقابلات: المهرج/ كثرة الميكروفونات (في قصة: مهرج). كما تتجلى الخاصية نفسها في قصة «كمين». يقول السارد في الصفحة 59: «قال المذيع لمضيفه: تفضل قل ما تريد، أنت على الهواء مباشرة. في اليوم التالي، قبضوا على ضيف البرنامج». يحمل هذا النص نوعًا من التقابل بين حرية التعبير ونقيضها، بين المسؤول الذي ليس كذلك. تعمل هذه التقابلات على تحويل دلالة النص القصصي، وإعطائه أبعادًا عدة. تشي بعمق بمفارقات الواقع مأساة الراهن. كما تكشف في الوقت نفسه عن علائق زائفة. ومفارقة صارخة في الأيديولوجيا المموهة التي تلوح بشعارات وتطبق أخرى.
سخرية الصفات/ الطباع
على الرغم من ارتباط هذا الأسلوب (سخرية الصفات) بالفن المسرحي، فإنه يتجلى كذلك في النص السردي؛ إذ يعكس عيوب المجتمع من خلال أفراده. كما ينقل عيوب الإنسان من خلال نماذج بشرية. فتبدو طباع الناس متناقضة؛ لذا فسذاجة الإنسان وتناقضاته، يغذيان هذه السخرية. تجلى ذلك في المجموعة القصصية «مفارقات» في نصوص عدة. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: قصة «وخزة ضمير». يقول السارد: «مد يده أمامي متوسلًا القليل من النقود لكي يدفع وجبة الظهيرة، كنت مشغولًا بأمور تافهة، تجاوزته دون أدنى اهتمام، تذكرته بألم وعدت إليه، وفي جيبي بعض النقود لكنه غادر المكان». لا تقدم السخرية في هذا النص القصصي، حكمًا أيديولوجيًّا جاهزًا أو استنساخًا مباشرًا لتفاصيل الواقع. بل عبارة عن تشكيل فني آثر الاستهزاء والازدراء من موضوع معين أو شخصية أو فعل. تشخص موقفها وتضعه موضع تساؤل. تكشف السخرية في هذه النصوص عن الأبعاد الإنسانية وتعري نقائضها من خلال المفارقات. تضفي على النص من خلال ذلك البناء، بعدًا دراميًّا. تجعل عين القارئ منفتحة على هول هذا الواقع من خلال الرؤيا التي قدمها القاص فهد الخليوي بأسلوب مميز. أضفى على نصوصه القصصية أبعادًا وأساليب شعرية وجمالية.