الاقتصاد البنفسجي ركيزة التنمية المستديمة
برزت على مسرح الاقتصاد خلال العقدين المنصرمين جملة من المفاهيم في العلوم الاقتصادية لم تكن سائدة كمواضيع الاقتصاد التقليدية التي تتناول النظرية الاقتصادية الكلية أو الجزئية، وليست أيضًا في إطار مدارس الفكر الاقتصادي المعروفة. فنشأ مفهوم الاقتصاد المرتكز على المعرفة والاقتصاد البيئي والاقتصاد الرقمي وغيرها. ومنذ مدة لا تتخطى عشر سنوات بدأ الحديث عن أنواع وفروع أخرى من الاقتصاد ناتجة عن التطور أو عن الاهتمام المجتمعي والمؤسساتي بقضايا محددة، ومنها الاقتصاد الأسود، والاقتصاد الفضي، والاقتصاد الرمادي، والاقتصاد البنفسجي الذي سنتناوله في مقالنا هذا.
باتت إمكانات النظام الرأسمالي كنظام إنتاج واستهلاك مستديم اقتصاديًّا وإيكولوجيًّا واجتماعيًّا مع وصوله إلى النضوج في القرن الحادي والعشرين، تواجه تحديات عدة تتمثل في جملة من الأزمات، كالأزمة الاقتصادية والمالية العالمية، والبطالة المتزايدة، والأزمة البيئية المتفاقمة، وما أسماه بعض علماء النسويات أزمة الرعاية الناشئة. في هذا الإطار، يطرح الباحثون الاقتصاديون رؤية مستقبلية لنظام اقتصادي جديد يُكمل الاقتصاد الأخضر ويتصدى للتحديات النظامية المتعددة هو الاقتصاد البنفسجي، الذي أصبح مثار اهتمام العديد من المنظمات والمؤسسات الدولية.
لقد شهدت العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين اهتمامًا متزايدًا بمسائل الاقتصاد البنفسجي تجسد في تنظيم جملة من المؤتمرات والمنتديات العالمية التي تعنى بهذا الاقتصاد، منها منتدى الاقتصاد البنفسجي الذي نظمته منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم «اليونسكو عام » 2011م، بالتعاون مع المفوضية الأوربية، والمنتدى الإفريقي الأول حول الاقتصاد البنفسجي بمدينة مراكش عام 2016م، واحتضنت مدينة مستغانم في الجزائر الملتقى العلمي الدولي الأول حول الاقتصاد البنفسجي لدعم أبعاد التنمية المستديمة عام 2019م.
وسنتناول في هذا المقال نشأة الاقتصاد البنفسجي ومفهومه وفوائده وعلاقته بالتنمية المستديمة وتحقيق الاقتصاد المستديم.
أولًا- الاقتصاد البنفسجي: المفهوم والخلفية
يؤكد الاقتصادُ البنفسجي إعطاءَ الاعتبار للجانب الثقافي للاقتصاد. وهو اقتصاد يتكيف مع التنوع الإنساني في سياق العولمة مرتكزًا في ذلك على البعد الثقافي لتثمين السلع والخدمات. إن هذين الاتجاهين العمودي والأفقي يكمل بعضهما بعضًا. وإن تزايد أهمية البعد الثقافي الخاص بالمنتجات يرتبط بالحيوية الثقافية للأقاليم. إن الاقتصاد البنفسجي ذو طبيعة شمولية من حيث كونه يُثمن كل السلع والخدمات مهما كانت قطاعاتها، وذلك استنادًا على البعد الثقافي. إنه يختلف عن اقتصاد الثقافة الذي يرتكز على منطق القطاعات.
ترتبط نشأة الاقتصاد البنفسجي النابعة من أهمية الموروث والبعد الثقافي في المجتمعات بجملة من العوامل التي تعزز نمو هذا النوع من الاقتصاد، أو تساعد في توازن العوامل المرتبطة به التي تشمل التوازن الاقتصادي والسياسي للبُلدان، والتركيز على المجتمعات، وتعزيز الجودة، وتعزيز الابتكار الذي يسهم في الجمع بين المتطلبات المختلفة وتنمية المواهب.
ومن حيث المبدأ، إن الاقتصاد البنفسجي يأتي ترسيخًا لموضوع المسؤولية الاجتماعية للشركات التي تستمد جذورها من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي اعتمدته الأمم المتحدة في عام 1966م. وقد ظهر هذا المصطلح أول مرة في فرنسا في عام 2011م في الوثيقة التي نُشِرتْ في صحيفة لوموند الفرنسية من جانب المنظمين لأول منتدى دولي حول الاقتصاد البنفسجي برعاية كل من منظمة اليونسكو والمفوضية الأوربية. ثم نشرت أوّل مجموعة عمل مشترك بين المؤسسات استنتاجاتها حول الاقتصاد البنفسجي في عام 2013م بقيادة اليونسكو ومنظمات أخرى. وأشار التقرير إلى:
«الأعمال البنفسجية: هي الأعمال التي ترتبط مباشرة من حيث الغاية بالمحيط الثقافي (مثل مخطط تطوير، أو تحويل منزل قديم إلى متحف، أو منح الجوائز والأوسمة المتعلقة بالثقافة للمؤسسات التي تساهم في تطوير الجانب الثقافي».
«المهن البنفسجية: هي المهن التي تتكيف مع الثقافة (مثل وظائف الموارد البشرية أو وظائف التسويق والاتصال).
وهنا يتبين مدى ارتباط الاقتصاد البنفسجي بصورة كبيرة بقيم وثقافة المجتمع، وهو ما يضبط استجابة الإنسان ويضمن تفاعله الإيجابي، وبذلك تكون الثقافة أحد المحاور المساعدة في تطوير الاقتصاد؛ لذا فالاقتصاد البنفسجي معناه: الاقتصاد الذي يحمل قيمًا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بثقافة المجتمع. وهو ما يحقق استجابة وتفاعل الكائن المثقف «الإنسان»، فتكون بذلك الثقافة خادمة للاقتصاد وموصلة لأهدافه. وتوصف الثقافة بأنها القوة الناعمة ذات الأثر البالغ في الاقتصاد.
ثانيًا- ركائز الاقتصاد البنفسجي
يشير الاقتصاد البنفسجي إلى وجود نظام اقتصادي يعترف بالرعاية كمسألة اقتصادية وكمصدر دائم لعدم المساواة ما لم تُوَزَّعْ مسؤوليات الرعاية بالتساوي، فاللون البنفسجي هو اللون الرمزي للحركة النسائية في العديد من البلدان حول العالم. ويستلزم الاقتصاد البنفسجي أربع ركائز تهدف إلى التعرف إلى أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر، وتمكينها والحد منها وإعادة توزيعها، وتتمثل هذه الركائز في الآتي:
بنية تحتية عالمية لخدمات الرعاية الاجتماعية:
تتيح هذه البنية التحتية للأسر كافة الحصول على خدمات رعاية مدفوعة، مهنية وعالية الجودة للأطفال والمرضى والمسنين والمعوقين. وهذا يتيح تحويل بعض العبء من أعمال الرعاية المنزلية/ غير المدفوعة الأجر إلى الدولة، ومن خلال الإعانات العامة للمنتجين من القطاع الخاص/ أعمال الرعاية المدفوعة.
تنظيم سوق العمل لتحقيق التوازن بين العمل والحياة:
تحويل بعض العبء من عمل المرأة غير مدفوع الأجر إلى عمل الرجل من دون أجر، من خلال لوائح مثل: الأبوة وإجازة الولادة، وتقصير ساعات العمل.
تدابير خاصة تهدف إلى تخفيف عبء العمل غير المدفوع الأجر للأسر الريفية:
تعمل البنية التحتية المادية الريفية الفعالة على تقليل عمل النساء غير المدفوع الأجر في حمل المياه وجمع الحطب والزراعة وتجهيز الأغذية.
إطار بديل لسياسة الاقتصاد الكلي:
يمكّن هذا الإطار البديل لسياسة الاقتصاد الكلي من تنفيذ الركائز الثلاث المذكورة أعلاه، عن طريق إعطاء الأولوية لتوليد فرص العمل الكافية وخلق حيز مالي للإنفاق الاجتماعي.
ثالثًا- علاقة الاقتصاد البنفسجي بالتنمية المستديمة
يُعد الاقتصاد البنفسجي أحد المكونات الثلاثة للاقتصاد المستديم، وهي: الاقتصاد الاجتماعي والبيئي والبنفسجي. فالاقتصاد البيئي (الاقتصاد الأخضر) والاجتماعي يتضح من تسميتهما مجال اهتمام كل منهما، فالأول في قضايا البيئة والثاني في قضايا المجتمع. أما الاقتصاد البنفسجي فهو مجال اقتصادي يسهم في التنمية المستديمة من خلال زيادة الاعتبار وتثمين العائد الثقافي للسلع والخدمات، فالاقتصاد البنفسجي يراعي، ويركز على البعد الثقافي وهو مختلف عن اقتصاد الثقافة الذي يُعد قطاعًا في حدّ ذاته.
وتجدر الإشارة إلى أن الاقتصاد البنفسجي هو تحالف بين الاقتصاد والثقافة؛ لإضفاء الطابع الإنساني على العولمة للتوفيق بين التنمية الاقتصادية والاستدامة. إنه مجال واعد بوصفه نموذجًا قائمًا على التنمية الثقافية للخروج من الأزمات الاقتصادية، وتوجيه الاقتصاد المستقبلي، وكذلك تجديد الأنشطة الإنتاجية. إن مساهمة الاقتصاد البنفسجي في خلق البيئة الثقافية المتنوعة الثرية يجعله محور الارتكاز في تحقيق غايات التقدم والرفاه في المرحلة القادمة. إن النهج الشامل للثقافة يفتح مجالًا كاملًا جديدًا من المسؤوليات والفرص، مجال المسؤوليات؛ لأنه يضع الثقافة كنظام بيئي متنوع غني. يضيف هذا الاعتراف إلى مفهوم التنمية المستديمة مما يؤكد حقيقة أن البيئة البشرية لا تقتصر على الطبيعة: إنها طبيعية وثقافية واجتماعية في الوقت نفسه، كما أن النهج الشامل للثقافة، هو أيضًا مجال الفرد، حيث يعزز سلاسل القيمة التي تخلق الثراء والتي لم تُحَدَّدْ بشكل كافٍ في الماضي.