قانون يانته الإسكندنافي في طريقه إلى الزوال!
إلا أن ذلك قد يشكل مقدمة في غاية الأهمية للقول: إن ما حدث لا يعفي من القول إن تبدلات عميقة صارت تضرب المجتمع السويدي في العمق، بالعلاقة الوثيقة مع قانون يانته، الذي تحكَّم بمسار الحياة الاجتماعية في هذه البلدان ذات الطبيعة الخاصة مشافهة، وثقافة، من دون أن يتحول أبدًا إلى قانون جزائي يمكن اللجوء إليه في القضاء والمحاكم في حال المخالفة الصريحة لبنوده، كما هي الحال مع القوانين المرعية النافذة في الدول.
بالطبع زيارة بياعة – الحلو قد تندرج في سياق آخر، يمكن التدليل عليه بأمثلة من دول أخرى وضعتها مواقع التواصل الاجتماعي، ومقولة القرية الكونية الصغيرة تحت الأضواء، وهي قد تكون ذريعة أو مدخلًا لمناقشة تعلو وتخفت هنا في الشمال الأوربي؛ إذ بِتْنا نسمع ونشاهد ونقرأ عن جيل إسكندنافي جديد، صار يتململ من قانون يانته «الجائر» الذي لم يعد يشبع رغبات وتطلعات هذا الجيل، فلم تعد البساطة، وأقل ما يمكن الحصول عليه، والاكتفاء والرضى، من مفرداته الأثيرة، بل إن مواقع التواصل الاجتماعي في البلدان الإسكندنافية صارت تحفل بما يتناقض مع هذا القانون الغامض والصريح. الغامض لأن أحدًا لم يُشَرْعِنْهُ، أو يسنّه على غرار القوانين التي تنظم حياة الناس في الدول المعاصرة، والصريح بطبيعة الحال؛ لأن شعوب هذه الدول، الأكثر رفاهية وسعادة في العالم، عاشوا بِهَدْيِهِ نحو تسعة عقود من دون إبداء اعتراض أو تململ في السابق، قبل انفجار الوفرة الاستهلاكية الكبرى، كما يحدث الآن؛ إذ لا تخلو مواقع التواصل من انتقادات تطوله بشكل شبه يومي.
صار ممكنًا العثور على سيدة سويدية تعرضت للتنمر والتعنيف اللفظي على سبيل المثال في مكان عملها، وانتقلت لتؤسس مشروعها الشخصي، وهي تبدي تململها من القانون الذي لا يزال يتحكم في المجتمع السويدي عبر ثقافة متجذرة لا يمكن التفلت منها بسهولة كما قد يخيل لبعضٍ، ولكن للزمن كلمته أيضًا، والزمن هنا متبدل بسرعة غير مسبوقة، ولم يعد مستغربًا على سبيل المثال لا الحصر أيضًا أن يخرج فتى سويدي مراهق من حصص المدرسة الثانوية الخاصة بمناقشة مفتوحة لقانون يانته، ليصرخ من أعماقه هذه المرَّة بأنه ضاق ذرعًا بالقانون، وإنه يريد الاختلاف والتميز، وقد تجد صرخاته صدى لدى مراهقين آخرين في عموم الدول الإسكندنافية.
هذا يحدث اليوم بشكل متسارع، فثمة ثغرات في القانون، ليس مصدرها الأساس أي خرق على جبهة القضاء، وإنما هذا التوسع الطوفاني غير المسبوق في انتقال الصورة والمعلومة عبر الشبكة العنكبوتية، التي انتقلت مع الوقت لتصبح مرآة عاكسة لقيم مجتمعية جديدة صارت تهدد وحدة دول بأكملها، وليس فقط وحدة مجتمعات متماسكة قامت عبر قرن تقريبًا، على تخفيض ما من شأنه إعلاء مكانة الفرد على حساب الآخرين، ومكرسة لنظام تكافل اجتماعي قلَّ نظيره في المجتمعات المعاصرة، وفي حادثة تكشف أيضًا نوع هذا النظام، فإن البحث غير المجدي عن أخطاء وعثرات وزيرة الخارجية السويدية السابقة مارغوت فالستروم مثلًا من بعض صفوف المعارضة التي علا صوتها في وقت سابق، لم تُفضِ إلى أكثر من التلويح بمساءلتها عن كيفية حصولها على شقتها في العاصمة ستوكهولم من دون أن تنتظر دورها في الصف، وهو هنا قد يستغرق أكثر من سبع سنوات لمن ينوي الإقامة في العاصمة، أما في المدن الرئيسة الأخرى، فقد ينتظر المرء نحو خمس سنوات ليحصل بدوره على شقة جاهزة للسكن.
ما قانون يانته؟
لا يمكن الحديث عنه من دون لمحة تاريخية تعود بنا إلى الدانمارك، ففي هذا البلد الإسكندنافي، وفي مدينة نوشوبينغ مورس، وفي سنة 1933م تحديدًا، صدرت رواية مطبوعة بعنوان: «لاجئ يغادر خطواته» لكاتب دانماركي اسمه آكسل ساندموسه (1898 – 1965م) قضى معظم سِنِي حياته لاحقًا في النرويج بسبب أن أمه كانت نرويجية، وهو الذي استطاع أن يبني في روايته معادلًا فنيًّا وأدبيًّا لمدينته التي نشأ وترعرع فيها، وأطلق عليها «يانته لاند»، وفي هذه المدينة المتخيَّلة التي تحولت إلى متنفس شخصي أيضًا للكاتب نفسه الذي اخترع بطلًا موازيًا يمقت الناس الذين لا همَّ لهم سوى إشعار الآخر بالإحباط، ويغادرها على أمل صلاحهم في يوم ما، ولكنه يخط وراءه سلسلة من الوصايا الشبيهة بالوصايا العشر، لكنها لا تحمل أبعادًا دينية من أي نوع، إنما مجرد وصايا يمكنها أن تنظم حياة مجتمع بشري بتكافلية أكبر، وتعاضد أمتن، حتى يتمكن الفرد ببساطة من أن يقوم بالابتكار، والبحث الدؤوب عما يمكن من إفادة بناء المجتمع الذي ينتمي إليه، وكلما زادت البساطة في التعبير عن المضمون؛ تقارب الناس بعضهم من بعض، وخفتت حِدَّة الحسد والغيرة، وقويت هذه المجتمعات، واشتد عودها التكاملي من الداخل.
وقد يختلف اثنان هنا عما إذا كان قانون يانته بحذافيره مجرد قواعد أدبية أم وصايا أخلاقية، وسواء جاءت الإجابة منحازة لهذه أو تلك، فإن التذكير بها مهم من حيث إن كثيرين صاروا يعتقدون في إمكانية اندثارها في المستقبل في المدى المتوسط القريب؛ بسبب من هذه الوفرة الاستهلاكية الهجومية التي عمَّت العالم، ولم يعد بالإمكان تفاديها لمجرد أن كاتبًا شابًّا شعر يومًا بالسخط على المجتمع الذي كان يقيم فيه وكان يتجاهله ويقلل من أهميته، من أن يخط رواية كاملة ينشد فيها صلاح الناس في مجتمعات منغلقة نسبيًّا، أسست لقيم البساطة أو للتميز في البساطة، وهذا قد يفسر لاحقًا بشكل من الأشكال كيف أن الحياة الاجتماعية في هذه البلدان تتميز بالبساطة والزهد، وكيف أن إمبراطورية «إيكيا» السويدية على سبيل المثال احتلَّت العالم ببساطة منتجاتها، حتى يومنا هذا ما زال بعضٌ يتندَّر على عالم الأوبئة السويدي أندرس تينغل، الذي ملأ حياة السويديين في أيام الكورونا بتحليلاته ونصائحه وتوجيهاته حتى تحوَّل إلى «القائد الفعلي» للبلاد ما زال يظهر بملابس بسيطة، ويضيف بعضٌ من عنده ساخرًا أنها غير مكوية تمامًا، ولكن التحولات الجذرية العميقة في القرية الكونية الصغيرة تطول الجميع، والوصايا أو القواعد ستتحول مع الوقت إلى مجرد قراءة أدبية لا يعول عليها كثيرًا في العصر الحالي، كما تقرأ في مقالة أو كتاب يذكران بها:
احذر أن تعتقد أنك شخص مميز. احذر أن تعتقد أنك في مثل مستوانا.
احذر أن تعتقد أنك أذكى منَّا. احذر أن تتخيل أنك أفضل منَّا. احذر أن تعتقد أنك تعرف أكثر منَّا. احذر أن تظن أنك أكثر أهمية منَّا. احذر أن تعتقد أنك تصلح لشيء. احذر أن تضحك علينا. احذر أن تعتقد أن أحدًا يكترث بك. احذر أن تعتقد أننا سوف نتعلم منك شيئًا.
وصايا لم تتحول إلى بند جزائي
بقيت هذه القواعد أو الوصايا تنظم حياة الناس الإسكندنافيين حتى يومنا هذا دون أن تتحول إلى بند جزائي ملزم لهم، وإنما كانت بنودًا أخلاقية نظمت حياتهم في البيت والشارع والمدرسة والعمل، حتى أولئك الذين لم يطّلعوا عليها، ولم يعرفوا تفاصيلها، واكتفوا بالاستماع لمن هم أكبر منهم سنًّا، أو لم يطّلعوا حتى على رواية آكسل ساندموسه التزموا بها بحكم التربية التي نشؤوا عليها، وعاشوا بين أقرانهم متشربين بها، دون أن يخطر ببالهم يومًا، أنه سيجيء الوقت الذي لا يرحم؛ ليعيد تقييم هذه القواعد/ الوصايا بشيء من الخبث والمكر اللذين يتناسبان مع إيقاع العالم الجديد الهادر، العالم الذي يعيد تشكيل الأجيال بهوية وأنساق واحدة، ولكن على قاعدة البحث عن الاختلاف الذي يسعى إليه شُبَّان هذه المعمورة اليوم، بنوع من التمرد المتنامي في صفوفهم.
أما كيف أثارت زيارة بيَّاعة – الحلو الباذخة شجون الكتابة عن قانون يانته، فإن هذا ما كان ليحدث بالطبع لولا التسابق المحموم على الصورة التي تعيد تشكيل ثقافة الناس، ليس فقط في إسكندنافيا التي ما زالت تقاوم، وترفض أن تستسلم ليقين قد تمثله الزيارة التي جاءت في وقت يمكن أن تتحقق فيه، لولا حجم التبدلات التي صارت تعصف بها، وبالجيران المحتملين للبذخ بذريعة الاختلاف، وليس التعالي على قيم سادت قرنًا تقريبًا، وبدا مع الوقت أنها تترنح تحت عنفية ضربات قيم الاستهلاك التي تغزو العالم برمته.