منصور خالد… صورة ليبرالي يكتنفها التشويش

منصور خالد… صورة ليبرالي يكتنفها التشويش

من يكتب عن المفكر السياسي والليبرالي السوداني الكبير منصور خالد، الذي غادر دنيانا الفانية قبل شهرين. سيتعين عليه اختبار شاق لسيرة مثقف عاش حياته قفزًا على أزمنة جاوز فخاخها بقوة المعرفة ونزاهة الضمير، وشجاعة الرأي، في ظروف لم تكن لتسمح تناقضاتها الأيديولوجية الحادة بهامش للتفكير الحر.

بين منصور، ابن الأسرة الصوفية العريقة في (أم درمان)، ومنصور المقبل على حياة في أطوار الحداثة؛ ثمة معيار دقيق سيكون ملاذًا لخريج (كلية الخرطوم الجامعية)، آنذاك، حيال مستقبل عرف خلاله العالمَ الحديث ودرس في جامعاته العريقة: (ماجستير من جامعة بنسلفانيا، ودكتوراه من جامعة باريس) متشبعًا بثقة أكسبها له أساتذة بريطانيون كبار؛ في جامعة الخرطوم؛ انعكس نمط حياتهم في رؤية العالم من زاويتي الحرية والمعرفة، إطارًا لرؤية ليبرالية انسلك فيها منصور في مواجهة أهم معضلتين شكلتا هاجسًا وجوديًّا لأنتلجنسيا الأحزاب السودانية.

فمن جهة، كان الإخوان المسلمون يترجمون اغترابهم عن العصر بثقافة النص ذاهلين عن ثقافة التاريخ، ومن جهة ثانية؛ بدا الشيوعيون أكثر اغترابًا عن الدين في مجتمع يمثل الدين جزءًا حيويًّا من حياته. وحيال توترات كهذه؛ طور منصور جدلًا خلاقًا بين ذينك التناقضين؛ بعيد من الأيديولوجيا. لقد أضمر منصور رؤيةً للدين عبّرت عن فهم مقاصدي للشريعة حصَّنه من تأثير أيديولوجيا إسلاموية فخخت مفاهيم الإسلام في المجال السياسي.

عدا بداياته الأولى، كأفندي من طبقة جامعية نسجت مثالاتها على نمط الطبقة الإنجليزية؛ شكل منصور، بعد ذلك، رؤيته الخاصة في تفسير أصول قضايا الهوية والسياسة في السودان على نحو غاير مسلَّمات النخب العربية للشمال النيلي. فقد كان منصور مدركًا لخطر الإسلام السياسي على مستقبل السودان، منذ أن تحدث في كتابه الأخير «شذرات من وهوامش على سيرة ذاتية»، 4 مجلدات، عن فحوى رسالة بينه وبين الترابي في الستينيات: «كتبت للترابي أنني أنعطف نحو اليسار، وربما كان ذلك تأثرًا بتعبير شائع عند يساريي فرنسا… عن تلك الرسالة رد الترابي برسالة بدأها بقوله: أما أنا فقد اخترت طريق الميمنة» ثم علق منصور: «ويا لها من قالة كان لها ما بعدها»!

الفجر الكاذب

في الثمانينيات؛ حين أعلن الجنرال نميري (بإيعاز من حليفه الترابي) ما سمي بـ« قوانين الشريعة» (أُعْدِمَ بموجبها المفكر محمود محمد طه عام 1985م) أصدر منصور كتابه الشهير: «الفجر الكاذب لنميري وتحريف الشريعة»؛ لخص فيه مآل تجربة نميري بالقول: «إن النظرة اللاتاريخية لا شك أنها ستقود المجتمع الإسلامي إلى ظلام دامس شهدنا نماذجه في سودان النميري عام 1984م». فما تنبأ به منصور؛ حدث مع انقلاب البشير في عام 1989م؛ إذ شهد السودان الجريمة الكاملة لتطبيقات الإسلام السياسي 30 عامًا. هكذا فيما كان منصور يكتب عن الإشكالات الجنينية في تعويق الوعي العام للنخب السودانية منذ الستينيات، محذرًا من تداعياتها في كتابه المشهور؛ «حوار مع الصفوة» تعيّن عليه، بعد ذلك، الكتابة عن التداعيات ذاتها حين أضحت واقعًا، فكتب عن نظام مايو؛ كتبًا مثل: «السودان النفق المظلم: قصة الفساد والاستبداد» و«الفجر الكاذب لنميري وتطبيق الشريعة»؛ ليصبح ما كتبه ضد انقلاب نظام الإنقاذ الذي جلب مشكلات عويصة حول قضايا الحرب والسلام وأزمة الهوية وانفصال الجنوب؛ مادة نظرية رصينة في كتبه التي صدرت فيما بعد؛ مثل: «السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام .. قصة بلدين» في مجلد ضخم، «جنوب السودان في المخيلة العربية» في جزأين «تكاثر الزعازع وتناقض الأوتاد» وصولًا إلى كتابه الأخير في 4 مجلدات «شذرات من وهوامش على سيرة ذاتية».

اشتغل منصور عميقًا على تفكيك أنظمة صناعة الوعي الوطني المزيف، مبينًا خطورة ما تنطوي عليه إذا لم تُصَغْ برؤية وطنية صحيحة. فما يظنه كثيرون مسلَّماتٍ في قضايا الهوية الوطنية السودانية ليس كذلك؛ إذ كشف منصور، مبكرًا، عن المسكوت عنه من تناقضات أصول وعي المواطنة التي أصبحت صفاتها (بفعل سياق فاعليات معينة) محصورة في فهم وسلوك أوتوقراطِيَّيْنِ عكسا اقترانًا شرطيًّا يحصر نموذجًا مثاليًّا للمواطنة على مواطني الشمال. وكانت آثار هذا الاقتران في اللاوعي الجمعي للشماليين فادحةً، عبر المصاير التي أدخلت مستقبل السودان في نفق مظلم، بلغ ذروة ظلامه مع انقلاب 30 يونيو 1989م، الذي فجَّر تناقضات القنابل الزمنية الموقوتة للتهميش في الجنوب والغرب والشرق.

انحياز منصور خالد إلى جانب الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الزعيم الوطني الجنوبي الراحل الدكتور جون قرنق في الثمانينيات؛ ضخ تشويشًا مزدوجًا حول صورته في مناخ التحزيب السياسي، يمينًا ويسارًا، فبدت صورة منصور في الوعي العام، لكثير من السودانيين صورةً تكتنفها تصورات مشوشة ومشوهة بفعل أنظمة تأثير ووسائل إعلام لم تعكس الصورة الحقيقية لمنصور خالد، كما هي في أفكاره ومواقفه وكتاباته. وفي تقديرنا، إن عجْز السودانيين في توصيف الحيثية المستحقة لمنصور تعددت أسبابه، في أجهزة إعلامية، وأنظمة تعليم، و أجندات حزبية سياسية.

التصالح مع هوية متعددة

يعترف منصور بأنه من جيل أدمن الفشل، لكنه على المستوى الشخصي والفكري، انحاز لمواقف وطنية تقتضيها ضرورة التصالح مع هوية السودان المتعددة؛ حيال جذوره الإفريقية، وما يعنيه ذلك بالأساس من مواجهة شرسة للثقافة الشعبوية العربية في الشمال ونظامها الأوتوقراطي في المجال العام. وهو خيار لم ينعكس سلبيًّا حيال نظرته الرصينة للهوية الثقافية العربية للسودان، فرؤيته المعرفية كانت تفصل بين تقاليد ثقافة عربية أوتوقراطية شعبوية للشمال عبر نماذج ضارة ونابذة للآخر، وبين هوية ثقافية عربية عامة للسودانيين؛ لذا، حين سئل منصور عن لغة دولة جنوب السودان بعد الانفصال، أجاب: العربية. فأغضب أنصار الإفريقانية الديماغوجية في السودان! لم يختبر منصور خالد وعيه العميق في تدبير تصوراته وقناعاته من فراغ، بل من تجربة في قلب السياسة السودانية (كان سكرتيرًا لمكتب رئيس الوزراء عبدالله خليل في الحقبة الديمقراطية الأولى للسودان 1956 – 1958م) كما عمل، على مراحل متقطعة؛ وزيرًا للشباب والرياضة، ثم وزيرًا للتربية فوزيرًا للخارجية منذ عام 1970م إلى 1977م، ثم خرج من السودان ليستأنف عمله في الأمم المتحدة؛ إذ كان لمنصور اهتمام بالغ الأهمية بقضايا التنمية المستديمة والسلام. فهو الذي كتب تقرير الأمم المتحدة للتنمية المستديمة لعام 1987م بعنوان: «مستقبلنا المشترك» أو ما يعرف بتقرير «برونتلاند» حين كان نائبًا لرئيسة لجنة إعداده.

لطالما فرق منصور خالد تفريقًا بصيرًا بين الدولة الوطن؛ فالدولة عنده:  «ظاهرة قانونية لكيان أو كيانات تحتل رقعة من الأرض محددة المعالم. وبحلول الحكم التركي نشـأ السودان كدولة لا كوطن» أما الوطن فهو، بحسب منصور: «ظاهرة تعبر عن كيان اجتماعي ثقافي يشعر كل عضو فيه بالانتماء إليه ويتشارك جميع أهله عواطف وقيمًا وخيالات ورموزًا، وهذا أمر يعسر تحقيقه في كيان تستحقر فيه جماعة من أهله جماعات أخرى» كتاب «شذرات من وهوامش على سيرة ذاتية» كان منصور خالد، صاحب مشروع فكري سياسي لمستقبل السودان، عكف عليه بمؤلفات ملأت الدنيا وشغلت الناس، لا من ناحية عناوينها ومادتها فحسب، بل كذلك، من ناحية أسلوبها الأدبي المسبوك في تفاصيل فكر سياسي دقيق، عكس ثقافةً موسوعية في الأدب والسياسة جميعًا.