«سيرة الوقت» لمعجب الزهراني، حياة فرد.. حكاية جيل

«سيرة الوقت» لمعجب الزهراني، حياة فرد.. حكاية جيل

كتاب الأكاديمي السعودي الدكتور معجب الزهراني «سيرة الوقت»، المركز الثقافي للكتاب، يحار القارئ والناقد المغرم بالتصنيف في أي خانة من الأجناس يمكنه إدراجه؛ أهو في السيرة الذاتية، سيرة فرد في علاقته بالجماعة أو سيرة جماعة يتقمصها ويحملها فرد على كاهله كما يبدو ذلك من ظاهر عنوانه، أم هو يتجاوز ذلك إلى جنس من الكتابة تختلط فيها الملحمة بالمأساة وتتوحد فيها المتناقضات، فيتصالح في المشهد الواحد بعينه الهزل والسخرية اللاذعة التي تنتزع منك البسمة والقهقهة انتزاعًا مع القلق الوجودي؛ وجع الكينونة والكائنات الذي إذا ما كنت مرهف الحس لَعَصَرَ قلبك ولربما اقتلع الدمعة من عينك اقتلاعًا؟

في سيرة الزهراني لا مسافة تفصل بين الماضي والحاضر، وبين قرية الغرباء في الجنوب الغربي للسعودية وباريس أم المدائن والغرائب جميعها. لا معنى للزمان والمكان خارج أنا الكاتب التي تنساب فيها الذكريات من قاع الطفولة السحيقة تجري جريان الماء في وديان تلك الربوع الخضراء في جزيرة من الصحراء حيث نشأ الكاتب وترعرع وانفتحت عيناه على الجمال، ليس جمال طبيعة المنطقة بحقولها وروابيها الخلابة وجبالها الشامخة فحسب، بل بجمال الحياة فيها وبساطتها وعفويتها وتسامحها قبل أن تعصف بها رياح التغيير كما يلحظ ابنها وتفقدها كثيرًا من بهائها، بهاء لطالما حفظه عبر العقود ابنها في ذاكرته ورعاه في مخيلته قبل أن يحبره في سيرته.

معجب الزهراني

سيرة وقت هو سيرة لكل الأوقات، لا هو بالسيرة الذاتية الكلاسيكية الصرفة التي عهدناها، ولا هو بالمدونة التاريخية والأنثروبولوجية في لغتها التقريرية التحليلية المقولبة، وإنْ كشف ما خفي عن القارئ من المجتمع السعودي- بل العربي على وجه العموم في الكثير من الأحيان- وما يعتمل فيه من حراك ومد وجزر سياسيا وفكريا وثقافيا، ما يغري بالمزيد من البحث فيه والتنقيب. للصعلكة في الجزيرة العربية تقاليدها الاجتماعية والأدبية العريقة وإنْ صح تصنيف لسيرة وقت فلربما لن يكون إلا في أدب الصعلكة والمروق عن المألوف الذي رعاه بعض شعراء الجزيرة في قصائدهم وقوافيهم. وكان الجاحظ هذا الذي فُتن معجب الزهراني به وأعد أول بحث جامعي عن أدبه هو مبدعه وإمامه نثرًا بعد قرون. الصعلكة غربة أو لا تكون، غربة مُحيرة بلغة فرويد، هذا الذي اتكأ عليه الزهراني كذلك أكثر من مرة ليعود محللًا ومفككًا لقشعريرة الجسد الأولى التي يشعر بها الطفل وهو يلتصق بريئًا طاهرًا بجسد أمه رغبة جامحة في أن يعود إلى رحمها من حيث أتى رافضًا لغربته في عالم كل ما أدركه منه في الحين يوحي بتوحشه، تليها قشعريرة ثانية وأخيرة تسمح بها الجماعة لبراءتها قبل أن يُعقل الجسد ويُقفل عليه إلى الأبد ولا يُفتح إلا بإذن من المنظومة: « استلقيت مرة على طفلة من قرابتنا، ويبدو أننا مثلنا دور العرسان حتى النهاية، ثم نمنا إلى أن جاء من أيقظنا وفرقنا بنهرة خفيفة لا تخلو من حنان. وأقول حتى النهاية لأن في جسدي خلايا مازالت تحتفظ بدفء تلك الأعضاء الغضة، وبعذوبة تلك اللحظة الهاربة».

قدر مؤلف «سيرة الوقت» أن يكون غريبًا، غريبًا حتى في غربته على سنة أبي حيان التوحيدي، وكأن الغربة في طينته وعرقه. ألم يُولد ويَنشأ في قرية «الغرباء» تارة تُنسب إلى جد مؤسس يبدو أنه كان متصوفًا جاء من بعيد فأنجبها من صلب غربته وطورا إلى «بيضة غراب» أسطورية فقست السلالة التي ينتمي إليها الكاتب ويصفها بالنكدة الماكرة، هذا إذا لم تكن – وهي رواية ثالثة لا يستبعدها المؤلف- أن يكون الجد المؤسس قد ارتكب خطيئة ما فرحل عن بلده وقومه وضرب في أرض الله الواسعة حتى حل بالمنطقة الخضراء، فطاب له المقام فيها: «فلم يتبق- يقول الزهراني- لجدي الشيخ من هوية حقيقية سوى غربته؟». وما العجب فيما يقوله معجب في ذلك: ألسنا كلنا بني آدم نحمل في جيناتنا آثار الخطيئة الكبرى والخطايا الصغرى المترتبة عنها وما أكثرها!

إذا كان ذلك كذلك فلن يكون كاتبنا إلا خير خلف لأحسن سلف. نعم معجب الزهراني سلفي إلى حد النخاع، ولكن على طرف نقيض مع السلفية التي عهدها طالبًا وأستاذًا جامعيًّا بتشكيلاتها المختلفة بما في ذلك من يُسمون بالإخوان المسلمين، وهنا يستحضر المؤلف أحدهم المصري أحمد جريشة أستاذه في الجامعة الذي خلع ثيابه في الفصل ليريهم آثار التعذيب على جسده في سجون عبدالناصر معلنًا أن كل مَن يخالف مبدأ الحاكمية كافر ويجب الخروج عليه! لقد ضاق المؤلف ذرعًا بهؤلاء. كانوا يرصدون حركاته وسكناته طالبًا ثم أستاذًا، ويهددونه متهمين له بالاستغراب والعلمانية، هذه «العلمانية» التي قبل أن يقف على معالمها من خلال دروس أستاذه في جامعة الملك سعود المغرم بالثورة الفرنسية راشد الخاطر، سفير دولة قطر لاحقًا والذي أنهى حياته بنفسه مثل خليل حاوي قرفًا من البؤس العربي المعمم والمؤمم مع اجتياح اسرائيل لبيروت سنة 1982م، وقبل أن يقرأ بنفسه لكبار منظريها ومفكريها الفرنسيين، وأن يتذوق حلاوة ثمارها مقيمًا في فرنسا كان قد خبرها في الحقيقة قبل ذلك طفلًا وشابًّا في قريته كما لربما في كل القرى السعودية قبل أن «يطمسها ويئدها كما يقول التشدد الديني الذي كان الناس البسطاء يقاومونه بالنوادر والأشعار والحكايات والنكات». يؤكد الكاتب «أن تدين الفطرة ظل إلى الثمانينات ممارسة يومية لا تعلو على الحياة… ثقافة قرانا كلها تبدو “علمانية عفوية” في العمق لأنها منظومة قيم وأفكار دنيوية مرتبطة بالعمل المنتج في المقام الأول، وهنا يصبح الدين كالأوكسجين في الهواء يتنفسه الناس دون أن يشعروا بحضوره السلطوي الثقيل كما سيحدث تالياً». ولا تظنن أن الزهراني علماني معاد للدين، أي بالمعنى الذي فهمه منها غالبية العرب المسلمين، فالرجل ألمح أكثر من مرة إلى تدينه الفطري: «فمنذ طفولتي عرفت بالتدين الصارم…. ولو كانت مدارسنا ومساجدنا مختطفة من قبل تيار الصحوة كما حدث لاحقًا، فلربما أصبحت شيخًا يُشار إليه بالبنان، أو لتوزعت حياتي في جهاد بطولي موهوم فيما بين أفغانستان والشيشان!». كما لا ينبغي أن تظنن أن الرجل وإنْ كان يصنف نفسه ضمن التيار التقدمي وينتمي إلى أدباء الحداثة العرب ومفكريها الأحياء والأموات الذين قرأ لهم بشغف طالبًا، وعرف بعضهم عن كثب أو ربطته لاحقًا صداقات حميمة ببعضهم الآخر مثل الطيب صالح وجمال الغيطاني والطاهر وطار وإلياس خوري من الروائيين، ومحمد أركون وسعيد بن سعيد وعبد الله العروي وعبدالرحمن بدوي من المفكرين والباحثين وغيرهم كثير حتى وإنْ كان رافضًا على الدوام للتحزب والتقوقع في جماعة تحصي عليه أنفاسه وأفكاره أنه من غلاة الثوريين متمرد على كل شيء بما في ذلك على النظام السياسي في بلده.

كلا لن تتفاجأ إذا قرأت إذن في سيرته اعترافه بالدور التاريخي والرئيس الذي قام به الملك عبدالعزيز بوصفه آخر الفرسان الكبار في جزيرة العرب كلها كما يصفه في خلق كيان وطني ودولة مركزية وحد فيها بين مناطق واسعة متباعدة جغرافيًّا وثقافيًّا تحت راية واحدة، وأنه يحمد الله أنه ينتمي إلى دولة ملكية لها تقاليد راسخة في الحكم وإدارة الاختلاف فحمته من المتطرفين الدينيين. يقول ذلك وهو يستحضر الرعب الذي كان يعيشه في فرنسا زملاؤه من الطلاب العرب الذين ينتمون إلى بلدان يحكمها العسكر بشعارات تقدمية من مخابرات بلدانهم، وخشيتهم من الملاحقة والتصفية الجسدية لمجرد رأي عابر أو فكرة طائشة أو حلم لشاب صغير لا يروق لحاكمه.

درء لثقافة الموت وانتشاء بالحياة

ومما يلفت الانتباه بشدة في كتاب «سيرة الوقت» وإنْ كان كل ما فيه في الحقيقة: جملة أو مقطعًا، ما أفصح عنه من آراء، أو ما رسمه بالكلمات من مشاهد يومية سواء في طفولته وفي قريته أو في رحلاته المتعددة وخاصة في فرنسا، لافتًا للانتباه بجرأته وبمشاعره المتدفقة صدقًا وشفافية وتجليًا، درءًا لثقافة الموت وانتشاء بالحياة دون أن تفارق البسمة محياه، وأن يجرك إلى الضحك معه على رغم الألم والمعاناة، فإن انتصار الكاتب للأنثى هو إحدى النقاط الأكثر إضاءة في نصه تشدك إليها شدًّا، وترغمك رغمًا عن أنفك حتى لو كنت لعقدة مرضية في نفسك من المعادين لها إذا لم تقف إجلالًا للأنثى، فعلى الأقل أن تخجل من نفسك ولو للحظة من أن تنظر إليها نظرة دونية: فتاة عشقتها في طفولتك الهاربة، حبيبة، وزوجة وأمًّا وحتى ضرتها، بل قل كما يقول الكاتب رفيقتها وصديقتها. ولا غرابة في ذلك فطفولة المؤلف وتكوينه النفسي والفكري على السواء لا يجعلانه إلا نصيرًا للأنثى اعترافًا نبيلًا لها بالجميل.

فالزهراني يتيم الأب منذ طفولته والذي يحمد الله على أي حال- حتى وإن تحسر على وفاة والده وحزن على ذلك ورسم له صورة جميلة في مخيلته من خلال الأخبار التي كان يتلقفها من معارفه- كما يقول إنه لم يكن يتيم الأم لأنه «هناك مثل شائع يفيد بأن اليتيم من أبيه يبقى في حضن أمه، واليتيم من أمه يُرمى فوق الدمنة (المزبلة)». قد خبر بالممارسة كيف تتحول الأنثى إلى آلة للتضحية. مات الأب وترك بيتًا عامرًا بأرملتين: أمه وضرتها- رفيقتها التي يُطلق عليها عمته، والتي يقول فيها وهي التي ترملت وهي دون الثلاثين ورفضت الزواج إنها « لا تقل كفاءة وعفة عن أكثر الرجال جدية ونبلًا» – وخمس بنات كبراهن على مشارف البلوغ، وثلاثة أولاد أكبرهم في حوالي العاشرة وأصغرهم المؤلف، هذا فضلًا عن جنين سيتبين لاحقًا أنه الشقيقة الصغرى للجميع.

ما العمل تتساءل وأنت تقرأ ما يقول، فإذا بالإجابة تأتيك سريعًا حتى وإن كنت تتوقعها لمعرفتك بصبر أمهاتنا وجداتنا العربيات العظيمات وإيثارهن في الغالب أبناءهن على أنفسهن، وتجندهن لذلك في مثل هذه الحالات” تقاسمت السيدتان الشابتان المسؤوليات بشكل عفوي وفعال جدًّا. نهضت أمي بدور تنظيمي جعلها تدبر البيت طوال النهار، وتطوف الأسواق الشعبية من وقت لآخر لتبيع الفواكه أو عقد البرسيم والشعير وما تيسر من الدجاج أو الغنم… وتولت رفيقتها مشقات العمل الزراعي فأبدت عليه صبرًا وإتقانًا يحسدها عليها كثيرون. وكم أكبرتها حين علمت لاحقًا أنها رفضت الزواج رغم شبابها الغض، وتعهدت بلبس ثياب الرجال حتى تنفك من ضغوط أعمامها، وظلت القابلة المفضلة لكل أطفال القرية». تتزاحم المشاهد الآتية من بعيد في ذاكرة المؤلف ولكن مشهدًا تكرر كثيرًا لا ينسى لكونه – على حد قول الكاتب- غريبًا ومرعبًا في عيون طفل ذكر بدأ يكبر شيئًا فشيئًا يستحضره ويسرده وفي سرده أكثر من دلالة، لعل أهمها تنم عن نزعة إنسانية تقطر رقة وشفقة على امرأتين ضرتين في الأصل دغمهما في امرأة واحدة وبادلهما حبًّا بحب: «نعم لمحت غير مرة آثار دم فوق المقعد الجلدي الذي تجلس عليه أمي أو عمتي طرف الملة، ولم أجرؤ حتى على السؤال. طبعًا أدركت لاحقا أن دماء الحياة تلك دليل أكيد على أنهن كن مزارع خصيبة مؤهلة للمزيد من الولادات!».

لكل ذلك يسخط الكاتب على ما يسميه بفكر التوحش الذي فصل بصفة تعسفية ومخالفة لمنطقي الطبيعة والثقافة الأنثى عن الذكر في المملكة العربية السعودية – وفي الحقيقة في كثير من البلدان العربية بدرجات متفاوتة من بلد آخر بما في ذلك في أكثرها ليبرالية – حيث بلغ هاجس الفصل بين الجنسين كما يقول: «في مختلف مؤسسات المجتمع بما في ذلك في المدارس والجامعات بالطبع، بل في بعض الأسر المنكوبة بأب أو أخ متشدد زميت حدًّا يخرج عن كل سوية عقلية أو أخلاقية، لأن فضاء البيت ذاته أصبح مقسمًا بصرامة بين الذكور والإناث، ولا اجتماع بين العالمين حتى وقت الأكل كما رأيت بنفسي في أغلب أسرنا المقيمة والمهاجرة!». ومن البديهي هنا أن يحن المؤلف في بلده إلى مرحلة العفوية والبراءة الطبيعية التي لم تكن تفرق بين الجنسين والتي عرفها طفلًا وشابًّا مثل أبناء جيله من المحظوظين مقارنة بالأجيال التي تليهم «حيث أصبحت رؤية النساء في ساحة أو طريق أو مزرعة شبه مستحيلة، فما بالك برؤية الوجه والجسد وتبادل السلام والكلام والضحكات!».

لا شك أن سيرة الوقت – حكاية فرد وجيل، سيظل لزمن طويل سيرة لكل الأوقات ـ فعلاوة على قيمته الأدبية والفكرية والأنثروبولوجية، فهو لا يؤرخ فقط لستين سنة من حياة صاحبه وإنما كذلك لمرحلة مهمة من تاريخ السعودية والتحولات التي عرفها مجتمعها، بل هو أكثر من ذلك من أفضل ما يقودنا على امتداد الحقبة الفاصلة بين النصف الثاني من القرن الماضي إلى اليوم، ولعله لعقود أخرى قادمة يقودنا إلى رصد المشهد الفكري والأدبي العربي عمومًا فيها، ولاستبصار ما يعتمل في مجتمعاتنا من حراك، من مد وجزر وعراك بين القوى التي تشد إلى الماضي والقوى التي تدفع إلى المستقبل.