«لا حرب في طروادة» لنوري الجراح.. جهنميّة الخراب الأسطوري

«لا حرب في طروادة» لنوري الجراح.. جهنميّة الخراب الأسطوري

يذهب الشاعر السوري نوري الجراح (1956م) في كتابه الشعري الجديد «لا حرب في طروادة» (منشورات المتوسط) نحو البكائيات الخافتة التي تتجلّى واضحة في نصوص المجموعة الممتدة على 176 صفحة من القطع الوسط، والمقسّمة إلى أحد عشر جزءًا منها الملهاة الدمشقية، كلمات هوميروس الأخيرة، الطالع بالعجلة ومعه الإكليل، آلام نرسيس، يأس أوديسيوس… كلّها تندرجُ ضمن هذا الواقع الجحيمي لعالم مدينته الأثيرة دمشق، العالم الديستوبي الخرب الذي ولده العنف، وكأنّ النصوص مجتمعة تأتي على هيئة مرثيّة هائلة للمدينة التي خرابها جزءٌ من الخراب الكبير للبلاد.

نوري الجراح

يعمل الجراح على توثيق دقيق للحظات المأساويّة لهذا العالم الخرب ويستحضرها كصورٍ شعريّة خاطفة وسريعة كما حين يقول: لو كنتُ غيري في شتاءٍ أطول/ لكان خيالي أسرع من عربة محارب/ وسيفي أمضى. هذا المحيط الخرب والتغريبة والشتات السوريان يحاول أن يوظّف نوري لأجلهما الأسطورة الإغريقية التي يشير إليها بدايةً مع جزيرة ليسبوس كبوّابةٍ لهذا الشتات، بل إنّ دمشق وخرابها لا يختلفُ بمنظور صاحب «حدائق هاملت» عن خراب طروادة المريع إثر سقوطها بيد أجاممنون الإغريقي، ليبدو هذا أشبه بإيجاد روابط شعرية بين عالمين متوازيين: عالم أسطوري أخبرتنا به إلياذة هوميروس وأوديساه، ويُسقَط على عالم الشاعر الدمشقي الواقعي المعيش اليوم، بل إنّ العالم الأسطوري هنا ليس أكثر من بابٍ واطئٍ للهروب من شبح عالمه الحقيقي الذي ترتفع فيه الحدّية والعنف الهمجيان، والذي يراه بعين الوحشة لمنفيّ عنها: وكلّما وطأت قدمٌ/ لطخةً/ في الظل/ أكون هناك في طرف الساعة/ دم الموعد ولباس الصريع».

هذا وعلى الرغم من هذا الخراب الجحيمي، فالجراح لا يحاول تكريسه والإقرار به بقدر ما يرغب في إنكاره، هذا النكران البادي للعيان من العنوان «لا حرب في طروادة»، الذي يتجوّل بين دفتي الكتاب كاستنكارٍ وسخرية سوداء من القدر الذي حول عالمًا جميلًا لقباحةٍ لا تنتهي. بل إنّه يحاول جاهدًا التخفف من حرارة الجحيم والهروب من قيعانها بالاستعانة بتأملات خاصةٍ بالشاعر كما في قسم القيثارة والريح، حين يقول في قصيدة النزول من قلعةٍ في الجبل: «كانت الأرض شاردة/ مع الريح/ ومقبلة/ مثل غيمةٍ على حصان/ عندما نزلنا ورأينا الغروب يمرح في السهل»… حتّى إنّه يستعين بالحب كتبريدٍ لهذه الحرارة في قصيدته أنشودة المصرع. بيد أنّه لا يقدر على الخروج من هذه المتاهة اللعينة بفعل أنّه فاقدٌ للشعور وللذاكرة بشكلٍ نهائي وتام، شأنه شأن كثرٍ أكلهم هذا الفقدان وهذه الوحدة: «الظلال الباردة امتصت نور البيت/ وفي جنبات الحديقة/ خطوتي/ يتيمةٌ/ كغبش الفجر».

مشاهد الموت

تلاحظ ملامح الحياة اليوميّة تحضر بخفّةٍ في النصوص، هذه الحياة اليوميّة هي في نظر الشاعر ألفة الناظرين لمشاهد الموت والقتل والدمار لدرجةِ أنّهم لم يعودوا يأبهون بها، كأنّها ليست سوى جزء من روتين يومي: «لكأنّ دم الأبطال/ ألوانٌ خفيفة يلهو بها طفلٌ في الزقاق». فيكون في النهاية ذلك الهسيس الخفيف الأقرب للصمت هو الفضاء اللامتناهي للشاعر وعالمه، صمتٌ موحشٌ حتى مع الهروب من الجحيم: «وصلتُ إلى جزيرةٍ/ لا يسكنها ساكنٌ آخر إلا الهواء».

يتجلّى في المجموعة النفس الملحمي الحكائي، فنوري يحاولُ أن يعطي النصوص أبعادًا زمانية ومكانيّة مختلفة، فكان السرد وتداخله هو الوسيلة التي بررتها ثيمات النصوص، وتسريد الشعر لم يعد بالطارئ الجديد على الأدب، بل إن تداخل الشعر بالسرد كان له حصّة طويلة من الجدل منذ أن ظهر مصطلح قصيدة النثر حتى اليوم، بل إن روجعت الأعمال الأدبيّة بمختلف الثقافات في مختلف العصور سنجد أن الشعر يرغب بشدّة في التخفف من بنيته الغنائيّة ولغته التصويرية الإيعازية، ويتّخذ من السرد مهربًا من ذلك، ولا يمكن حصر أمثلة على ذلك. فعربيًّا يمكننا ذكر ملحمتي «سيف بن ذي يزن» و«تغريبة بني هلال»، أو حتى حكايات امرئ القيس في معلّقته أو سرديّات عمر بن أبي ربيعة في «وهل يخفى القمر»، بل لا يمكن نسيان الملاحم التاريخية التي هي بمنزلة الأساطير لتلك الشعوب، كجلجامش لشعوب بلاد ما بين النهرين، والإلياذة والأوديسا لهوميروس الإغريقي، وإنيادة فيرجل والإدّا الأيسلندية والكوميديا الإلهيّة لدانتي… ومع ظهور مصطلح قصيدة النثر الذي عد جنوحًا نحو التجديد الشعري والخلق من النثر شعرًا، ظهرت أسماء كثيرة أرست قواعد تسريد الشعر في قصيدة النثر نذكر منها: ألويزيوس برتران، وشارل بودلير، وستيفان مالارميه، وبيير لويس، وبول كلوديل…

رصانة لغوية متينة

قد تظهر فرادة صاحب «قارب إلى ليسبوس» في ترك هذه الملحمية الأدبية تأخذ امتزاجًا خفيفًا بالغنائية التراجيدية الطويلة، ونلحظ ذلك في اختلاف الضمائر في النصوص، فتارة يخاطب الشاعر نفسه وتارةً يخاطب الآخرين، ولعل ازدواجيّة الخطاب الشعري هنا مردّها الحال الكابوسي الذي رسا على سوريا وترك آثارًا عميقةً من الصعب اندمالها بسهولة. لعلّ من الأمور التي تخفّف من حدّية النص هو تلك الليونة التصويرية التي تسير في النص، فالصورة الشعرية وإن كانت قد كتبت برصانةٍ لغويّة متينة إلا أنها تحمل من الليونة ما يجعلها كأنها خرجت كما هي بادية، ولو أنّها بدت مطعّمةً ببعض الملامح السوريالية اللطيفة: كانت الأرض شاردة/ مع الريح/ ومقبلة/ مثل غيمةٍ على حصان. وما اتخاذ التصوير الشعري لدى الجراح لهذا المنحى إلا استرداد هجائي لعالم الشاعر الحقيقي بشكل محض. وهذا ما يبرز لنا المعجم الدمشقي للعنف والموت المرعبيْنِ (حرب، جثّة، برق، حريق…) متداخلًا نوعًا ما مع المعجم الإغريقي للأسطورة واللجوء (ليسبوس، بروميثيوس، نرسيس…).

ويبقى لنا ذلك السؤال المتكرر حول قدرة الفاجعة والديستوبيا على خلق الشعر في عالمهما، بل ربّما قد تأخذ الشعرية هنا أسسًا رؤيويّةً يبدو فيها الشاعر موصفًا لعالمٍ هو خارجه جسديًّا فقط من دون أن تُفارِقه رُوحه، ولما نسأل عن العودة إلى الجمال المنشود لدى الشعراء لأجل عوالمهم المتعددة سيكون الجواب عندهم أيضًا، وعند نوري كان كالتالي: ما أبعد الطريق إلى دمشق.