«الاشتياق إلى الجارة» للحبيب السالمي سؤال الهوية بين متاهة الذاكرة والصراع مع الآخر
«ليس بالضرورة أن تكون الأشياء العميقة معقدة، وليس بالضرورة أن تكون الأشياء البسيطة ساذجة. إن الانحياز الفني الحقيقي هو كيف يستطيع الإنسان أن يقول الشيء العميق ببساطة» تنطبق هذه المقولة الجميلة للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني بشدة على المشروع الروائي للكاتب التونسي الحبيب السالمي. كما تجد تأصيلها في روايته الأخيرة الصادرة حديثًا عن دار «الآداب» في بيروت والموسومة بـ«الاشتياق إلى الجارة»؛ إذ تواصل هذه الرواية مثل بقية أخواتها العشر السابقات لعبة البساطة المخاتلة والاشتغال على التفاصيل الصغيرة والقصص المنسية في زحمة المدن الكبرى وسرعة الأيام. وكل ذلك من خلال لعبة غواية ماكرة وساخرة وقصـة حب غير مألوفــــة تجمع أستاذًا جامعيًّا ستينيًّا بخادمة خمسينية لا شيء يجمع بينهما في الظاهر سوى أنَّهما تونسيّان ويقيمان في العمارة ذاتها.
البداهة الخادعة
منذ العنوان «الاشتياق إلى الجارة» يعرف قارئ هذه الرواية أنه أمام قصة ثنائية تقوم على الازدواجية ويتجاذبها طرفان، منذ الفقرة الأولى والصفحة الأولى، يتعرف إلى غالبية الشخوص والفضاء الوحيد الذي يتحركون فيه. فكل الأحداث تقريبًا تقـــــع في عمارة من خمسة طوابق، في أحد الأحياء الباريسية. فضاء مغلق مكثف يحاصر فيه السالمي شخصياته ويراقبهم من كوة القص المسترسل، وخطوات الجيران على سلم العمارة صعودًا ونزولًا فنتعرف إلى سكـــان العمارة من أول درجة في السلم «الآن صرت أراها عدة مرات في اليوم. اسمها زهرة. لكن أغلب سكان العمــــارة التي نقيم فيها معًا يسمونها «مدام منصور». وآخـرون يسمونها «الخادمة» أو «التونسية»، تمامًا مثلما يسمـــــــون مدام رودريكيس، وهي السيدة التي تأتي كل مساء لإخراج حاويات القمامة من العمارة ووضعــها على الرصيف، بـ«البرتغالية»، والسيد غونزاليس الذي يقيم وحده في شقة في الطابق الخامس من العمارة بـ«الإسباني». فرحت زهرة حين اكتشفت أن تونسيًّا آخر، عداها وعدا زوجها منصـور وابنها الوحيد كريم، هو من بين سكان العمارة». هي لعبة التنوع الاجتماعي والثراء الثقافي والتعدد الإثني في هـــذه العمارة التي تختلـــط فيها الجنسيات والأعـراق والرتب الاجتماعية، اختصارًا لأحياء باريس وفرنسا التنوع حيث يعيش الفرنسي والتونسي العربي والبرتغالي والإسباني والإفريقي والأميركي اللاتيني.
يكتشف القارئ العلاقة الملتبـة وغير المتوقعـة بين كمال عاشور وجارته زهرة. ويسقط في غـــواية الأسئلة -كما يسقط كمال عاشور في غواية جارته- حين يكتشف عالمهما المتباعد. هو أستاذ جامعي يدرس الرياضيات ومتزوج من بريجيت الفرنسية الموظفة ببنك، ويسكن شقة فخمة ويعيـش على الطريقة الفرنسية وابتعد من أصوله. وهي الخادمة البسيطة الفقيرة المتشبثة بأصولها، المتزوجة من منصور الرجل الفوضوي الغريب الأطوار، فضلًا عن ابنها المعوق كريم.
الغواية المخاتلة
تبدأ علاقة الأستاذ الجامعي كمال عاشور بزهرة حذرة ومتعالية. هو المتعلم النخبوي المثقـف الذي يعيش في برجه العاجي. يكتشف العالم من حوله مصادفة فيعجب في أمره. وسرعان ما تتغير العلاقة وتتحول إلى الارتياح. هي علاقة متحولة متناقضة غامضة كعلاقة النخبة بعامة الناس وبالمجتمع وعلاقة المثقف بمحيطه؛ لذلك في البداية عاملها هي وعائلتــها بمزيج من الحذر والتعالي. كأنه يخجــــل من أصوله التونسية «صرت أتحاشاهـــــم حين اكتشفت أنهم تونسيــون مثلي وهو سلوك شائع لدى عدد من التونسيين. لم تدم هذه المرحلــــة سوى بضعة أشهر تمكنت خلالها من السيطرة على ارتباكي إلى حد كبير والتخلص من إحساسـي بالخجل والعـار». ولكن بمــــــرور الأيام تتطور العلاقة ويتغيــــر الإيقاع وتتبدل قواعد اللعبة فيشعر بالارتياح: «أول إحســـاس ساورني هو الارتيــــاح، فأنا منذ وقــــت طويل لا أخالــــط سوى الفرنسيين بحكم عملي في جامعة فرنسية، وبحكم أني متزوج من فرنسية». وشيئًا فشيئًا تنكشف شخصية زهرة للقارئ، ويكتشف مثله مثل سي عاشــــــــور أنها ذكية وتتقن الحديث بالفرنسية ومهذبة ومكافحة ومناضلة من أجل لقمة عيشها وعيش عائلتها. وهي مالكـــة مثله لشقة جميلة في الطابق الخامس في العمارة. فيـــزداد احترامًا لها ويعجب بها وبشخصيتها.
الانزلاق إلى الحب
هو الغريب وهي الغريبة. يتساءلان ويتواشجـــان ويتقاربان ويتباعدان. ثم تبدأ لعبة الغواية يستغل الكاتب/ الراوي هذا التطور في العلاقة ليمارس على القارئ لعبة إغـــــــــواء أخطر وأجمل. إنها لعبة التشويق والتقطيــــــع القصصي الذكي بل الخبيث؛ إذ يخيل للقارئ أن كل شيء يقع مصادفة. تمرض زوجة كمال عاشور بريجيت وهو في عمق لعبـة الإغواء وفي لج الهوى فيقترح على زهرة أن تشتغــــل عنده وتساعده في تنظيف البيت مرة في الأسبوع كل يوم ثلاثاء «في الفترة التي بدأت فيها لعبة الإغواء مع زهرة أخذت صحـة بريجيت تتدهور». وهنا تأخذ الأحداث مجرى آخر، وتبلــغ منطقة اللاعودة؛ إذ يتوه القلب في متاهة الأحاسيس اللذيذة ويطـــــل على هاوية الانفـــــــلات من عقال العذرية إلى برزخ الحب والغيرة؛ حتى الإدمان، «وذات يوم شعرت وأنا أتطلع خفية إلى خصلة تدلت من شعرها، حين انحنت لالتقاط قلم سقط من بين يديها على الأرض، أن ما بيني وبينها تجـــــاوز لعبة الإغواء البريئة إلى ما هو أقوى، وسرعان ما فهمت أن الإحساس اللذيذ الذي بــــدأ يتسرب إلى نفسي منذ فترة هو حب. نعم حب».
ثنائية المثقف والعامي
تحيلنا رواية «الاشتياق إلى الجارة» إلى ثنائية المثقــــف والعامي، وثنائية النخبة والشعب والــــــدروس الكبيرة التي يجب استخلاصها والتي أعطتها الخادمة زهرة للأستاذ الجامــعي كمال. كأننا أمام تبادل وانقلاب للأدوار بين المثقف والعامي، ربما هي رمزية عن الشبــاب المعطل والمهمش الذي أعطى دروسًا كبيرة للنخبة التونسية والعربية إبان ثـــوراث الربيع العربي التي أظهرت أن الشعوب العربية أنضج من نخبها. فزهرة إضافة إلى حساسيــــتها وذكائــــــها وتوقدها وحرفيتها العمليـــــــــة وإتقانها اللغة الفرنسية، تحاول كل مرة الترفيــــــع من قدراتها وتفاجئ الأستــاذ عاشور -والقارئ أيضًا- بأسئلتها المحرجة وملاحظاتــــــها الذكية وتصميمها على مزيد التعلم والوعي والتثقيـــــف كما في موضوع الكتابة والقراءة «أريد أن تعلمني القـــــــراءة والكتابة بالعربية. قالت لي زهرة بغتة ذات صباح… فوجئـــــــت بطلبها. كنت أتوقع آنذاك أن تطلب مني كل شيء إلا أن أعلمها القراءة والكتابة. وما لفت انتباهي هو العزم وقوة الإرادة
والتصميم الذي في نبرتها».
وزهرة دائمًا تدفع كمال عاشور إلى التفكير وإعادة التفكير ومراجعة أفكاره ومعلوماتــه كما في الحديث عن درجة حرارة جهنم وعن الكفر والإيمان والعقيدة والإسلام والحديــــث عن الموت وأسئلة الدهشة والفلسفة والقضاء والقدر والجنة والنار والدين والعلمانية. ونستشف هذا الدور الخطير الذي تلعبه زهرة من إقرار كمال عاشور بذلك «لم أكن أتوقــــــع أن أقرأ من جديد تحت ضغط خادمة وقارئة مبتدئة رواية كنت قد قرأتها سابقًا. تساءلت عما إذا كان حب الزين يرمز إلى شيء ما، وعما إذا كنت سأدرك مغزى الرواية.. عجيب.. كل هذا لم يخطر ببالي ]أبدًا[ من قبل. هناك أناس بسطاء يدفعونك بتلقائيتهم وذكائهم الفطري إلى طرح أسئلة لم يسبق أن طرحتها على نفسك، أنت المتعلم المثقف؟».
وزهرة تقضّ مضجـع الأستاذ عاشور بأسئلتها الغريبة والتلقائية، وتعيد له الحيرة الأولى، حيرة وقلق السؤال الفلسفي المعرفي؛ أليس الســـــــؤال هو أقرب الطرق للحقيقة كما تعلمنا الفلسفة؟ وهي تدفعه إلى مراجعة أفكاره وإلى التفكير في قضايا جديدة كل مرة «كنت أمنِّي النفس بأن أنام قليلًا، فأنا أحب القيلولة. لكن ما إن أغمضت عيني حتى قفزت إلى ذهني كل تساؤلات زهرة عن جهنم وبخاصة عن طبيعة النار التي توجد فيها. لم يحـدث ]أبدًا[ أن فكرت في العقاب الإلهي».
وفوق هذا كله تعطي زهرةُ كمالَ عاشور درسًا في الإنسانية والتسامح وحب الآخر. وذلك حين تقنعه بمرافقتها لجنازة مدام ألبير ووجوب الترحم عليها. بل إن كمال عاشور يصــــــل إلى مرحلة الحســــــــد والغيرة منها حين يدخل بيتها ويكتشف ذوقها الفني الراقي من خلال اللوحة الفنية المعلقة في الصالون. «استرعت انتباهي لوحة فنية تمثل صورة امرأة اكتشفت فيما بعد أنها صورتها. كانت معلقة على الحائط مقابل الكنبة إلى جوار صورة رسمت فيها بخــط كوفي جميل عبارة «بسم الله الرحمن الرحيم». لم أكن أتصور أن أجد لوحة فنية في بيتها. أعترف أني شعرت في لحظة خاطفة بما يشبه الحسد، فأنا لا أملك أي لوحة».
الأنا والآخر
يحضر بقوة في «الاشتياق إلى الجارة» سؤال الهوية وبأشكـــال مختلفة. ويعد هذا السـؤال سؤالًا مُلِحًّا في كل روايات السالمي؛ إذ يحفر برمزية جميلة ويذهب بعيـدًا في وعــــــــي الشخصيات ونفسياتهم المتقلبة. ويكتشف القارئ من بين السطور هذا الصــراع الدفيـن بين الأنا والآخر. إنها لعبة جديدة مخاتلة، لعبة إثبات الذات والهوية؛ أليست «الهويـــــة هي حلبة الصراع الحقيقية بيننا وبين الآخر» كما يؤكد المفكر عبدالوهاب المسيري. ربما هي اللحظة المتوترة العنيفة المعولمة في عالمنا المعاصر التي تدفع أكثر لمحاولة استحضـــار الهوية والدفاع عنها. فهذه الهوية هي الحصن الأخير الذي سيحتمي به الإنسان اليوم للدفـــــاع عن خصوصيته وكينونته وإنسانيته في ظل هذا العالم المــادي المتناقض الذي يسعى إلى تدجينه وجعله مجرد رقم تجاري وروبوت في مصنع؛ لذلك يحـــاول كمــال عاشور التأكيد من أول صفحة أنه مختلـــــــــف عن الفرنسيين -الآخر- إذ يقول: «كانت تتصور أنــــهم كلهم فرنسيون. استغربت ذلك، فكل ما في وجهي من ملامح يدل على أنني لست فرنسيًّا. صحيح أن الفرنسيين ليسوا كلهم شُقْرًا بِيضَ البشرة زُرْقَ العيون، بل هناك فرنسيون يشبهون العرب إلى حد ما. لكنْ هناك فرق واضح بيني وبين هؤلاء».
ويتواصل هذا البحث عن الهوية من وراء أكمة القــــــــــص والتخييل ولعبة السرد المكثف والمخاتلة واقتفاء آثارها في دهاليز الذاكرة ومتاهات الماضي وخندق الغربة وأسئلة العولمة الحارقة. كما نعثر عليه في تمظهرات عدة ونقاشات بين كمال عاشور وزهرة مثلًا حين يصبح التجذر في الأصول والقبض على ذاكرة المكان طريقة فعّالة للتشبث بالهوية؛ «سألتني بعد لحظة وقد تغيرت نبرة صوتها: هل لك بيت في تونس؟ لا..لا؟؟ أستاذ كبير.. ولا بيت لك في تونس؟؟ تابعت وهي تخطــو صوب الباب للمغادرة: لا بد أن يكون لك بيت في بلدك.. لا يجوز ألا يكون لك بيت في تونس.. كل ما تملكه خارج بلدك لا يســـــاوي شيئًا أمام ما تملكه في بلدك». ويصل ذروته وذروة الصراع حين تصبح المواجهـــة مباشرة بين كمال عاشور وزوجته الفرنسية بريجيت، وفي أشد الأماكن حميمية في غرفة النوم إمعانًا من الكاتــــب في لعبة السخرية والإغواء والترميز».
المنزلة بين المنزلتين
في النهاية تترك زهرةُ كمالَ وتعــــــــود هي وزوجـها منصور إلى تونس. ويُترَكُ صاحب رائعة «روائح ماري كلير» كمالٌ تائهًا حائرًا مشـــوّشًا في منتصف الطريق بين الاستقرار والترحال. إنه يشبه شخصيات سبق أن تعرّفنا إليها في روايات السالمي السابقة؛ شخصيات تتوالد من بعضها وتنفتح على بعضها؛ تواجه مأساة الحياة وتناقضاتها وتفاصيلها وأسئلتها. من رواية إلى أخرى تـتغير أماكن إقامتها وسكنها وأسماؤها وسلوكاتها حتى ضحكاتها ولكن أسئلتها واحدة، وحيرتها واحدة، وبحثها عن هويتها واحدة، وأحلامها واحدة. فمــرة هو عمار في «حفر دافئة» ومرة هو توفيق في «متاهة الرمل» وأخرى هو ياسين في «روائــح ماري كلير» ومرة هو سي البشير في «بكارة» حتى نصل إلى كمال عاشور في «الاشتياق إلى الجارة» هذه الرواية الفاتنة جمع بصيغة المفرد، ومفرد بصيغة الجمع.