النظام التركي يحاكم صاحبة «10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب» إليف شَفَق: كل ما هو مطلوب لتكون قادرًا على الكتابة مفقود في تركيا اليوم
نقدّم هنا ترجمة تدمج بين حوارين نشرا تباعًا في الصحافة الهولندية والبلجيكية مع الكاتبة التركية الشهيرة إليف شفق (48 سنة)، بمناسبة صدور الترجمة الهولندية لروايتها الجديدة «10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب» التي تسبّبت مؤخرًا، بموجب المادة 301 من القانون الجنائي التركي، في رفع عدد من القضايا ضد الكاتبة في بلدها، ووُجِّهَت اتّهامات عدة لإليف شفق، من بينها «إهانة وتشويه الدولة التركية»، وهو ما سبق وعانته الكاتبة عامي 1996م و1999م، حين استدعاها القضاء بتهمة «نشر الفحش والبذاءة» في عدد من رواياتها التي تناولت فيها العنف ضد المرأة والتحرّش الجنسي وسِفاح القربى، واضطرّت شفق، بعد تبرئتها من هذه التّهم، إلى الهجرة نهائيًّا إلى إنجلترا التي تعيش فيها حاليًّا مع أسرتها الصغيرة. وبسبب هذه الهجرة إلى بريطانيا، لم تتمكّن شفق من المشاركة في جنازة جدّتها، فأهدتها روايتها الجديدة، هنا النّص الكامل للحوارين:
في «10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب»، تستعرض الكاتبة التركية الأشهر إليف شفق حياة بطلتها «ليلى تيكيلا»، العاهرة التي تُقتل ويُلقى بجثّتها في أحد صناديق النّفايات بإسطنبول، هنا تمرّ حياة ليلى المقتولة في لحظات احتضارها الأخيرة مثل شريط من الصور المتتابعة، لتستعيد تاريخها كلّه من جديد في هذه الدقائق العشر والـ38 ثانية الأخيرة من نشاط دماغها، بكلّ ما يحمله هذا التاريخ من روائح وألوان ونكهات وشخوص، لنطّلع على حياة واحدة من آلاف النساء التركيات المنبوذات اجتماعيًّا اليوم في إسطنبول، فيما يشبه مرثية طويلة لامرأة تحوّلت منذ سطور الرّواية الأولى إلى جثّة مرمية في مكبّ للنّفايات.
يمكننا عدّ رواية شفق الجديدة إعلان حب لا حدود له لمدينتها الأثيرة إسطنبول، المدينة التي عاشت فيها مدة طويلة. «أو ربّما تكون هذه رسالة وداع أخيرة لإسطنبول»، تقول إليف شفق بحزن لم تستطع إخفاء أثره عن نبرات صوتها. لم تعد شفق تشعر بالأمان في تركيا، حيث يُنظر إلى عملها بريبة من جانب حكومة رجب طيب أردوغان، فيفتّش كهنة حكومته في كتبها عمّا يمكن لهم استخدامه ضدّها؛ لجرّها إلى ساحات المحاكم من جديد.
نعم.. الفحش هو اتهام رواية «10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب»، في حين أن الرواية لا تحتوي على أي مشهد جنسي صريح، بل يمكننا عدّ الرواية من بين الأعمال الأكثر احترامًا التي تناولت عالم فتيات الليل منذ سنوات، وهو ما يعزّز على الفور وجهة نظر شفق بأن: «الحكومة التركية معنية بشكل أساسي بالمحتوى الأيديولوجي».
بطلة الرواية هي إذن ليلى تيكيلا، الاسم الذي اشتهرت به فتاة الليل وسط أصدقائها وعملائها؛ التي تدخل السيارة الخطأ ذات ليلة وتنتهي جثّة في مكبّ للنّفايات، ولكن قبل أن يتلاشى وعيها تمامًا بعد مقتلها، تمرّ حياتها أمام عينيها، فنبدأ في التعرّف إلى قصّتها، تلك التي بدأت في اللحظة التي ولدت فيها ابنة لهارون من زوجته الثانية، التي تزوّجها بشكل غير رسمي، وبالتالي فليس لها حقوق كأمّ أو كامرأة. بعد الولادة مباشرة، تُمنع الزوجة من تربية طفلتها وتُعطَى الطفلةُ لامرأة أخرى لتقوم بتربيتها. ومنذ سنّ السادسة، تُنتَهَكُ الطفلةُ على يد أحد أقارب المرأة التي تربّيها، وبفقدان الطفلة لعذريتها تهرب من البيت إلى إسطنبول، حيث تباع هناك لأحد بيوت الدعارة، وتكتشف أنّها لم تختبر الحبّ الحقيقي في حياتها إلا وسط أصدقائها الخمسة غير العاديين، فهم مثلها منبوذون لأنّهم ليسوا مثل الآخرين، وهم: «سابوتاج سنان» ابن الصيدلي الذي يعاني عسرًا في القراءة، و«نالان نوستالجيا» المتحوّل جنسيًّا، و«زينب 122» القزمة العربية التي لا يزيد طولها على 122 سنتيمترًا، والعاهرة الإفريقية «جميلة» التي تقرأ المستقبل لليلى في فنجان قهوتها، ومغنّية ملهى ليليّ تدعى «هوليوود هيميرا». هؤلاء الخمسة هم من يبحثون عن جثمان ليلى في مقبرة المنسيّين خارج إسطنبول، ويقرّرون إخراج جثمانها لدفنها بشكل أكثر إنسانية في مكان آخر.
هنا نص الحوارين:
● تركتِ بطلة روايتك تُقتل منذ الصفحة الأولى، كيف تجرّأتِ على هذه المغامرة السردية؟
■ عندما أخبرت وكيلي الأدبي أنّني أريد كتابة رواية عن عاهرة ميّتة في سلّة قمامة بإسطنبول، رأيت ألوان وجهه تتبدّل بسرعة شديدة. يبدو أنني تأثّرت بالدراسات العلمية التي تشير إلى أن نشاط الدماغ البشري يظلّ يعمل بعد الموت لمدّة تقارب الدقائق العشر، كان اكتشافًا علميًّا مهمًّا وتحديًّا سرديًّا أيضًا، فكيف أجعل بطلتي تروي قصّتها في تلك الدقائق العشر والثواني الثماني والثلاثين؟ هذا هو ما حاولت الإجابة عنه في الرواية.
● امرأة مثل أم ليلى، التي لم تتزوج بشكل رسمي من هارون، كيف لا تملك أيّ حقوق في تركيا اليوم؟
■ النّساء مثل والدة ليلى سجينات عجزهنّ، لا يمكنهنّ ترك الزوج لأنّه لا يوجد لديهنّ أيّة بدائل أخرى، وإذا فعلن ذلك فإنهنّ يُنبذن على جميع الأصعدة، تركيا تتراجع منذ عقود إلى نظام أبويّ لا يرحم، تُقَلَّصُ فيه حقوق المرأة والأقليّات يومًا بعد يوم، البلد بكاملها تنزلق إلى دكتاتورية صريحة منذ سنوات، لم أتفاجأ أن تركيا لم تكن قط ديمقراطية ناضجة، قامت تركيا ببعض التحديثات الشكلية، لكنّها أبقت على تزايد التّيار القومي الشعبوي في صفوفها، ومن ثمّ فالتحيّز الجنسي ورهاب المثلية في ازدياد مستمرّ.
● هل هذا في رأيك نتيجة للثقافة التركية أم الإسلام؟
■ الثّقافة التركية المهيمنة هي السلطة الأبويّة الموجودة منذ عقود. والإسلام يعزّز من وجودها، ولكن لا يزال هناك لاعب ثالث نشط هو: السياسة، على الرغم من أن الكثيرين يتجاهلون الدور السياسي لهذه المتغيّرات، لكن في العام الماضي على سبيل المثال أُقِرَّ مشروع قانون يُعطِي مغتصبي القُصَّر الفرصة للفرار بفعلتهم إذا كانوا على استعداد للزواج من ضحاياهم. هنا يعاقب الضحيّة ويكافأ الجاني.
● ورغم ذلك يُعاد انتخاب أردوغان مرارًا وتكرارًا؟
نعم، لأنه رجل مُسْتَقْطِب للغاية. فهو محبوب لدى فريق بوصفه بطلًا قوميًّا، فيما يعدُّه فريق آخر شيطانًا. لقد اختفى الوسط. وهذا هو المزعج في الأمر كله، ثم لا تنسى أن أردوغان في السلطة منذ ما يقارب ثمانية عشر عامًا، أي أن هناك جيلًا كاملًا لم يعرف رئيسًا آخر سواه، وصل أردوغان إلى السلطة مع وعد بالإصلاح الديمقراطي والليبرالي، وكان حزب «العدالة والتنمية» الذي يترأسه حزبًا مختلفًا تمامًا في عام 2000م عمّا هو عليه اليوم، وهذا طبيعي، فكلّما بقيت في السلطة أصبحت أكثر استبدادية وتزمّتًا. دافع حزب أردوغان عن عضوية تركيا في الاتّحاد الأوربي، ودافع عن المصالحة مع الأكراد، معترفًا بمعاناة الأرمن، وعن النّساء اللاتي قتل أبناؤهنّ على يد النظام والمعروفات في الإعلام التركي باسم «أمّهات السبت». بل كان هناك حديث عن اتجاه ليبرالي ودستور تعدّدي يركّز صراحة على حقوق المرأة. لكن كلّ تلك الوعود اختفت، ولعب الدين دورًا كبيرًا في ذلك.
● لكن هل تَديّن أردوغان حقيقي؟ أليست طريقة خاصة منه لجذب الناخبين؟
■ لا أعرف ما يحدث داخل عقلية أردوغان، لكن يمكنني أن أرى ما هي نتيجة سياساته. عندما يأتي الشعبويون إلى السلطة، يغيّرون جهاز الدولة والقانون الانتخابي، ويحاولون السيطرة على القضاء وهم يتلمّسون الفصل بين السلطات، وفي النهاية يغيّرون المجتمع. نرى ذلك في بولندا والمجر وتركيا أيضًا.
ليست المرّة الأولى التي تصطدمين فيها بالقوانين البطرياركية بسبب كتاب. ففي عام 2006م قُدّمت للمحاكمة لمدة عام تقريبًا لأنّك تجرّأتِ على الكتابة عن الإبادة الجماعية للأرمن في «لقيطة إسطنبول»، وكانت التّهمة هي «إثارة الأفكار والمشاعر المعادية لتركيا».
لم يتمكّن أحد من أن يشرح لي ماذا يعني «إثارة الأفكار والمشاعر المعادية لتركيا». في ذلك الحين انتشرت صوري في شوارع إسطنبول بوصفي «خائنة»، لماذا؟ لأنّني كشفت أحد المحرّمات التي تحدث يوميًّا في المجتمع التركي. أليست هذه وظيفتي ككاتبة، أن أفضح المحرّمات وأشير إلى الانتهاكات؟ خذ على سبيل المثال القانون الأخير الذي ينصّ على أن الأئمة يستطيعون أن يتزوّجوا من دون زواج مدني، هذا القانون في الحقيقة لا يفعل شيئًا سوى أنه يعيد تعدّد الزوجات إلى تركيا، وقد عارضته جميع المنظّمات النسائية، لكن أردوغان سخر من اعتراضاتهم، والعواقب رهيبة؛ لأنّ مئات الأسر الفقيرة تضطرّ إلى تزويج بناتهنّ في سن مبكّرة جدًّا، وقد زاد عدد حالات زواج الأطفال بشكل كبير نتيجة لهذا القانون المشبوه.
● اليوم يجري مقاضاتك مجدّدًا لأنّك كتبت عن الاعتداءات الجنسية وزنى المحارم في روايتك الأخيرة، كيف ترين هذه المطاردة المستمرة لك من جانب النظام التركي؟
■ كتبي منشورة في تركيا ومتاحة في المكتبات، لكن بعض المعترضين تقدّموا بشكاوى قضائية ضدي، وكما تعلم فإن السلطات من السهل جدًّا إثارتها، وبخاصة الآن، في هذا الزمن الرقمي، حيث يُسَلَّطُ الضّوء على المقاطع السياسية أو الجنسية من الرواية عن طريق التصيّد عبر الإنترنت وإرسالها إلى وزير الداخلية، والآن يريدون محاكمتي بتهمة خيانة «الهويّة التركية»، بدلًا من التحقيق في الانتهاكات التي أتناولها في كتبي، وبدلًا من سنّ قوانين مناصرة للمرأة وإلغاء النظام الأبوي، فإنهم يلاحقون الكاتب، هذه هي المفارقة، أو بالأحرى هذه هي المأساة.
● تربطين مصير ليلى بالأحداث الكبرى في تاريخ العالم، حيث جاء مقتلها على خلفية أنباء 29 نوفمبر 1990م، بعد تقارير مجلس الأمن التي سمحت بالتّدخل العسكري في العراق، ودمج منتخب ألمانيا الغربية والشرقية لكرة القدم، وحظر التّدخين على جميع رحلات الخطوط الجوية التركية، ما أهمية هذه العلامات التاريخية في بناء روايتك؟
■ أنا متخصّصة في العلاقات الدولية والعلوم السياسية ودراسات المرأة، ولديّ شغف بفكرة التّماسك في تاريخ العالم، ومن خلال تضمين القصة الفردية في روايتي بهذه التواريخ، أجمع ما بين الخيالي والواقعي، أريد ربط هذه العوالم بعضها ببعض، فالإنسانية هي القلب الحقيقي لهذه الرواية.
إسطنبول مدن متعددة
● تكتبين عن وجوه إسطنبول العديدة، كأنّها ليست مدينة بل مدن متعددة..
■ لا توجد إسطنبول واحدة، بل هي كما قلت مدن متعددة، إنها مدينة مليئة بالحياة والطاقة والتناقضات، والأحلام والنّدوب. مدينة فقدان الذاكرة الجماعية بامتياز أيضًا، حيث يعيد القوميّون إحياء الصورة الرومانسية لتلك الإمبراطورية الإسلامية العظمى التي يحلمون باسترجاعها، وأنا أتساءل: هل الإمبراطورية العثمانية عظيمة؟ أنا ضد ذلك! عظيمة لمن؟ للحرفيّ الأرمني؟ للخبّاز اليهودي؟ للنساء؟ للمحظيّات والجواري؟ يعتمد الأمر فقط على الزاوية التي تنظر منها إلى الأمر، أنا أُسمّي إسطنبول «She-city»، لأنها كانت كذلك في وقت ما، كان للنساء في السابق مكان في المدينة، لكن اليوم يحتلّ الرجال كلّ شيء؛ الشوارع والساحات والمقاهي. لطالما وصف الكُتّاب والشعراء العثمانيون والبيزنطيون إسطنبول بأنّها امرأة. وأنا أنضمّ إليهم في هذا التّقليد، ولكن بوصفي نسوية؛ لأنّنا نحن النساء لدينا الحقّ في تلك المساحة العامة من مدينتنا.
● لا تقام جنازة لبطلة روايتك ليلى في إسطنبول، بل تدفن في مقبرة للمنسيّين والمنبوذين خارج المدينة، هل توجد مثل هذه المقبرة حقيقةً في إسطنبول؟
■ بالطّبع موجودة، هي مقبرة للمنبوذين كما قلت، حيث لا يُمنح الموتى علامة مميزة على قبورهم، لا شواهد قبور، لا زهور، لا زوار، ولا أسماء. فقط قطع خشبية مرقّمة، هناك عدد غير قليل من الوفيات بسبب الإيدز، وفيها يدفن المثليّون والمتحوّلون جنسيًّا، وكلّ من رُفِضُوا من جانب أسرهم بسبب هويّاتهم الجنسانية، وعاملات الجنس، والأطفال اللقطاء والمشرّدون، وفي السنوات الأخيرة زادت قبور اللاجئين، فأين تعتقد يُدفَنُ اللاجئون الأفغان والسوريون الذين نرى جثثهم على الشواطئ في الصحف؟ إنه مكان تحوّلت فيه الأسماء إلى أرقام، حيث يُجَرَّدُ الموتى من إنسانيتهم، كنت أرغب في إعادة إنسانية واحدة على الأقل من تلك النساء المدفونات في هذه المقبرة المشؤومة، من خلال ربط قصتي بها. ومع إقدام أصدقاء ليلى على استعادة جثمانها من هذه المقبرة، أردت القول: إن كل تلك القبور المجهولة تضم رفات بشر مثلنا.
● ربّما يمكننا عَدّ بطلة روايتك الحقيقيّة ليست ليلى التي أُلقيت جثّتها في الشارع، بل إسطنبول ذاتها.
■ صحيح، أفكّر دائمًا في إسطنبول بوصفها امرأة قوية تتعرّض أيضًا للأذى من أهلها، من المحزن أن ترى اليوم بشاعة ما قاموا به في إسطنبول: التّجديدات البشعة في الأبنية التاريخية والفوضى الجشعة في المباني الجديدة، من دون أيّ احترام للمعمار التاريخي أو تخطيط المدينة القديم، كانت إسطنبول طوال تاريخها مدينة مثيرة لاهتمام الفنانين والكُتّاب والموسيقيّين والشعراء، اليوم علينا مواجهة الخسارة التي عانتها المدينة لعقود.
● وهل تَعُدِّينَ هذا كله فقدانًا للتّنوع في مدينة لها تاريخ طويل كإسطنبول؟
■ بالتّأكيد، التّنوع كلمة قذرة في تركيا اليوم، يرفضها الأتراك، فقدت إسطنبول صلتها بالمجتمع العالمي الكوزموبوليتاني منذ بدأ السياسيّون يغازلون مشاعر القوميات الدينية وأحلام الإمبراطورية العثمانية لدى البسطاء. أيّ شخص يبدو مختلفًا قليلًا عن الأتراك سيجد وقتًا صعبًا في إسطنبول الراهنة، أيّ اختلاف فيك سيحرّضهم على نكرانك، لون بشرتك.. هويّتك الجنسية.. جنسيتك، جميع الأسباب جيّدة لمعاداتك. أعتقد أن هناك صلة مباشرة بين فقدان احترام التنوع وزوال الديمقراطية.
● وماذا عن احترام المثقّفين والكُتّاب في تركيا الآن؟
■ تركيا اليوم لديها أكبر عدد من الصحافيين وراء القضبان. اعتدنا أن تكون روسيا أو الصين، لكن اليوم الأمر بسيط جدًّا في تركيا أردوغان؛ أي شخص لديه رأي مختلف عنّا فهو خائن.
ازدواجية اللغة
● إلى جوار منفاك، لديك أيضًا ازدواجية لغوية، حيث تكتبين باللغتين التركية والإنجليزية. كيف تتعاملين مع اللغتين في عملية الكتابة، أو بأي لغة تكتبين؟
■ كتبت رواياتي الأولى بالتركية، لكنّي قبل خمسة عشر عامًا شعرت أنه يجب عليّ البدء بالكتابة بالإنجليزية، كنت في حاجة إلى مزيد من الحريّة والخفّة، وهو ما تقدّمه لي الإنجليزية بسهولة، أمّا عندما أكتب شيئًا عن الوحدة أو الحزن، فهو أسهل في التركية، ولكن إذا كنت أريد أن أكتب شيئًا ساخرًا فالإنجليزية ملاذي. التركية ليس لديها حتى كلمة للسخرية، نحن لا نفعل ذلك؛ لذا أحتاج إلى كلتا اللغتين، لكن كثيرًا من الأتراك القوميين لا يفهمون مقصدي هذا. كنت أوّل كاتبة تركية تكتب بلغة أخرى، وحينها اتّهمني بعض بـ«الخيانة»، لكنّني لست خائنة، أنا ديمقراطية ليبرالية أُومِنُ بالتعددية وأحلم على حد سواء بالتركية كما بالإنجليزية، وأحيانًا باللغتين في الحلم ذاته، فالعقل الإنساني لا يعرف الحدود بين الدول أو اللغات.
● هل تكتبين باللغة التركية أيضًا؟
■ بالطبع، كلّ كتاب أكتبه في الواقع بالتركية، لكنّني صرت أكتب أولًا بالإنجليزية، ثم أترجمه إلى التركية، وعندما أنتهي من ترجمته أعيد كتابة صيغته النهائية بالتركية. أعتقد أن ذلك ضروري لأنني أستخدم الكلمات القديمة والجديدة في اللغة التركية، وهو ما يشكّل أيضًا أزمة لكثير من القوميين؛ لأنّهم يريدون نسيان الكلمات القديمة التي جرى «تطهير اللغة التركية» منها في القرن الماضي، وهو ما يعني أنّه جرى التخلص من جميع الكلمات القادمة إلى التركية من لغات أخرى، مثل اليونانية والألبانية والأرمينية واليهودية والعربية والكردية، صار القاموس التركي اليوم هو فقط نصف سُمْك القاموس الذي كان مستعملًا في الزمن العثماني، ونتيجة لذلك، يمكنني أن أقول «أصفر» أو «أحمر» بالتركية، ولكن ليس ما بينهما من تدرج للألوان؛ لأنّ هذه الكلمات جاءت من الفارسية!
● ألهذا قلت من قبل: إنّ الثقافة التركية ليس لها ذاكرة؟
■ نعم، وهو أمر مثير للسخرية؛ لأنّ تركيا لديها تاريخ غني وطويل، لكن المجتمع التركي يعاني للأسف فقدانًا جماعيًّا للذاكرة، فالماضي رومانسي ومُرَاقَب، وعندما نتحدّث عن أمجاد الإمبراطورية العثمانية، فعلينا أولًا أن نسأل أيضًا عن معنى هذه الإمبراطورية بالنسبة إلى صائغ الفضة الأرمني أو الخبّاز اليهودي، كيف كانت حياتك في ظل هذه الإمبراطورية العظيمة؟ عندما تردّ التاريخ إلى القصص الفردية للأشخاص الذين عايشوه، ستلاحظ أن التاريخ يتغيّر بحسب من يرويه، وهذا ما أريد إظهاره وتسجيله في كتبي. صحيح أن الماضي مهم، ولكن ليس عن طريق الإغراق فيه، بل للحصول على شيء ما منه لنتعلّم عدم تكرار أخطائنا، والدولة التي ترفض القيام بهذه المحاسبة لماضيها لن يمكن لها أن تصبح ديمقراطية ناضجة.
● هل ترين أن الإسلام يمكن له يومًا أن يخلع معطفه الأبوي المعادي لليبرالية ويصبح دينًا أوربيًّا متسامحًا؟
■ جميع الديانات التوحيدية تقوم على هوية جماعية. إنها تتعلّق دائمًا بمقولة: «إنّهم ضدنا»… كما أنّني لا أحبّ اليقين الذي تتمتّع به الأديان الوعظية، أجد اليقين خطيرًا جدًّا؛ ذلك لأنّك عندما تكون متيقّنًا من أنّك على حق، تصبح بسهولة قاتلًا. ربّما أكون ملحدة، لكنّني متآلفة مع عالم وفكر وفلسفة المتصوّفين. فهؤلاء هم الأشخاص الذين لديهم روحانية لكنّهم لا يلتزمون بالدين. اليوم يُقارَنُ الدين دائمًا بالإلحاد، كما لو لم يكن هناك شيء آخر. ولكن هناك روحانية فردية، أحبّ فكرة أن الناس في أماكن مختلفة لكن لديهم أيضًا هويّات مختلفة. واحدة من أكبر المشاكل مع الأديان هي أنها لا تقدّم سوى هويّات مصمتة لا لبس أو شكّ فيها. وهذا الفهم لا بدّ له من الاصطدام مع حريّات الناس بالطّبع.
Elif Shafak, 10 Minuten 38 Seconden in Deze Vreemde Wereld, vertaald door Manon Smits, Nieuw Amsterdam, 2020.